الأربعاء 03 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

المؤسس.. جمال الشاعر: تقديم الأرشيف فى صورة عصرية أول خطوة للإنقاذ

جمال الشاعر
جمال الشاعر

مسيرة إعلامية حافلة قطعها الشاعر والإعلامى جمال الشاعر، تنقّل خلالها بين محطات عديدة ترك فى كلٍّ منها بصمته الخاصة. غير أن تأسيسه ورئاسته لقناة النيل الثقافية منذ انطلاقتها عام 1998 يظلّ واحدًا من أبرز المنعطفات فى مشواره المهنى، إذ شكّل اللبنة الأولى لصرح إعلامى حمل آمالًا كبيرة فى أن يكون نافذة الثقافة المصرية والعربية. 

فى هذا الحوار، نستعيد معه ذكريات البدايات، ونتوقف عند الأهداف التى قامت عليها القناة والدور الذى حاولت أن تنهض به، قبل أن نتتبع معه أسباب التراجع الذى جعل تأثيرها محصورًا فى دوائر ضيقة من النخب، بعيدًا عن الجمهور العريض. كما نقترب من رؤيته للسبل الكفيلة بإحياء دورها من جديد، لتكون جسرًا بين المثقف والمتلقى، ومنبرًا حيًّا للثقافة فى المجتمع.

■ أسست قناة النيل الثقافية عام ١٩٩٨.. فما أبرز الإنجازات التى تظن أن هذا المنبر الثقافى قد حققها آنذاك؟

- انطلقت قناة النيل الثقافية من طموح بأن تكون منصة إعلامية تليق بمصر، كان هذا هو طموحى شخصيًا وطموح الوزير والمسئولين فى هذه الأيام، إذ كانوا يريدون قناة ثقافية تليق بوزن مصر الثقافى وقوتها الناعمة. كنتُ آنذاك أحمل هذا الحلم الكبير. ثم كانت هناك مفارقة لطيفة، وهى أنّه كى يُعيَّن رئيس قناة يجب أن يكون فى الخامسة والخمسين أو الستين من عمره، بينما كان عمرى حينها دون الأربعين، فكانت مشكلة إدارية، وباختصار، تم حل هذه المسألة باستصدار قرار بأن أكون مشرفًا على قناة النيل الثقافية ومكلّفًا بتأسيسها، ثم بعد ذلك أصبحت مديرًا عامًا واستقرت درجتى الوظيفية.

لكن باختصار شديد، كانت تلك الانطلاقة تعنى لى الكثير. أتذكر جيدًا أحاديث مع شخصيات كثيرة من المثقفين والمشاهير الذين كانوا يحذروننى من الدخول فى مجال الإدارة، ويقولون لى: «لا داعى لذلك، فالإدارة ستعطّلك عن الإبداع»، والإبداع هنا هو الشعر، وكذلك الإعلام. كانوا يرون أن الإدارة دائمًا لا تكسب أبدًا؛ إذ لا يخرج مدير منها رابحًا، لأن كثيرًا من الناس تكون لديهم طموحات سقفها أعلى مما يمكن أن تمنحهم الإدارة، وعندما لا يحصلون على ما يتوقعون تنشأ العداوات. ثم إن الإدارة تشغل عن العملية الإبداعية، أى إنتاج محتوى إعلامى متميز ومؤثر وقادر على المنافسة.

والحقيقة أن تلك الفترة كنتُ أنا شخصيًا فى قمة التوهج. فقد كنت أقدم برنامج «الجائزة الكبرى»، وبعدها كنتُ مذيعًا فى برنامج «صباح الخير يا مصر»، ودام ذلك لسنوات طويلة، حيث كنت أحصل على لقب «أفضل مذيع» تقريبًا لسبع أو لعشر سنوات متتالية. 

أكبر مكسب تحقق وقتها هو الانفتاح على العالم العربى. أتصور أن قناة النيل الثقافية أسهمت فى مصالحة المثقفين العرب من المحيط إلى الخليج، الذين كانوا يعيشون بإحساس أن مصر لا تهتم بهم ولا بإنتاجهم الإبداعى، رغم أنهم يعرفون كل شىء عن مصر. كانوا يقابلوننى فى المحافل الأدبية والثقافية والعلمية والأكاديمية، ويقولون لى: «نحن نعرف كل شىء عنكم، أما أنتم فلا تعرفون عنا شيئًا». ومن هنا أسهمنا فى أن تتحول القناة إلى منصة مصرية عربية، وكان لها تأثير كبير بالفعل.

وأتذكر أن جمهورنا فى المغرب العربى وكذلك الجمهور الخليجى كان ينافس فى المشاهدة جمهورنا فى مصر، خلال الفترة التى عملت فيها، لدرجة أن أكثر من دولة خليجية فكرت فى إنشاء تجربة مشابهة، ودُعيتُ أنا شخصيًا للمشاركة فى الاستشارات والدراسات حول هذا الموضوع، لكن الأمر لم يكتمل. فقد اعتبروا أن القنوات العامة لديهم يمكن أن تحتوى مساحات للثقافة والفكر والإبداع. 

■ هل حققت القناة وقتها الأهداف التى انطلقت منها؟

- ارتبط تفكيرى فى القناة الثقافية بفخ المصطلح؛ من هو المثقف؟ الشائع وقتها كان أن المثقف هو الأديب أو الكاتب أو الناقد أو المبدع فى السينما والمسرح ونحو ذلك. لكننى وجدت أن من الضرورى أن نقوم بالتفكيك، فقلت إن الثقافة تتكون من خمسة أعمدة؛ الأول هو الأدب بكل فروعه من قصة ورواية وشعر ونقد. والثانى هو الفنون من السينما والمسرح والفنون التشكيلية وغيرها، أما الثالث فهو العلوم، وكان هذا جديدًا تمامًا على الفكر الإعلامى وقتها، إذ جعلت العلوم عمودًا من أعمدة الثقافة، واهتممنا ببرامج مثل «الطريق إلى نوبل»، وهو من أهم البرامج العلمية المؤثرة. والمحور الرابع هو الثقافة الدينية المتعلقة بمختلف الأديان، والخامس هو الثقافة الشعبية من فلكلور وعادات وتقاليد، لأنها مكون أساسى فى تشكيل الشخصية المصرية.

كانت القناة مكانًا جامعًا، وبيتًا للمثقفين. فى البداية لم يكن لدينا استديو مجهز، لكننى وجدت مبنى مهجورًا فى المقطم، وأصررت على تشغيله وإحيائه، فتحوّل إلى منارة ثقافية بالفعل. وفى هذا المكان أنشأنا خيمة رمضانية كانت تستضيف كبار المثقفين والفنانين يوميًا، وكان الحضور جماهيريًا وثقافيًا فى الوقت نفسه، حتى تحوّلت الخيمة إلى حدث استثنائى يضم الأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين والجمهور فى تفاعل مباشر، وكأنها مهرجان ثقافى يومى لا يُنسى.

كنت حريصًا على أن تكون القناة حاضرة فى الفعاليات الدولية. تنقلت بالكاميرا إلى أماكن عديدة، وصورت فى مهرجانات عالمية، وأجريت لقاءات مع شخصيات بارزة مثل توم كروز فى مهرجان روما، والعالم أحمد زويل، والمفكر إدوارد سعيد، وروجيه جارودى، فضلًا عن لقاءات مع شخصيات سياسية وثقافية ورؤساء دول. وفى كثير من الأحيان كنت أسجل اللقاءات بمجهودى الشخصى، وأحيانًا أستخدم جهاز التحكم عن بُعد وأصور بنفسى، إيمانًا منى بأن التطور التكنولوجى سيغير شكل الإعلام، وأن المذيع منتج وصانع محتوى أيضًا.

كما أدخلنا الثقافة الرقمية مبكرًا إلى القناة من خلال برنامج «آى تى شو»، وهذا البرنامج أتاح مساحة لجيل جديد من الشباب ليعبّر عن نفسه ورؤيته للمستقبل ودور التكنولوجيا فيه.

■ متى بدأت مرحلة تراجع القناة عن تحقيق أهدافها فى التعبير عن الثقافة بهذا المفهوم الواسع؟ 

- بدأت مرحلة التراجع فى «ماسبيرو» ككل بعد عام ٢٠٠٥، حين ظهر الإعلام الموازى؛ الإعلام الخاص والبرامج التجارية. فقد رأت الدولة فى هذه الفترة أن البرامج الجماهيرية تحقق نسب مشاهدة عالية، فضخّت فيها ميزانيات ضخمة، بينما تركت قنوات الدولة تعانى من ضعف الإمكانات. ومع بروز الإعلام التجارى والاعتماد على الإعلانات والبرامج الترفيهية، بدأ «ماسبيرو» يفقد مكانته تدريجيًا.

أرى أن الإعلام الخاص لا يمكن أن يكون بديلًا عن الإعلام العام، مثلما لا يمكن للمدارس الخاصة أن تلغى المدارس الحكومية، فالإعلام العام ضرورة، لأنه يعكس هوية الدولة ويؤدى دورًا لا يقوم به الإعلام التجارى. هيئة الإذاعة البريطانية BBC مثال واضح، فهى إعلام عام لكنه يمثل القوة الثقافية الأكبر لديهم.

■ كيف يمكن برأيك الخروج من هذه الحالة من التراجع وإعادة الدور الثقافى للقناة؟

- الحل لإعادة الاعتبار للإعلام الثقافى هو الرقمنة. الإعلام التقليدى لم يعد يجدى، ويجب أن يتحول إلى إعلام رقمى. البودكاست أصبح فى الصدارة، واليوتيوبرز والإنفلونسرز باتوا أكثر تأثيرًا من المذيعين التقليديين، يجب أن تتغير العقيدة الإعلامية القديمة، فاللغة الجديدة هى السرعة والتكنولوجيا والإيقاع الشبابى والانفتاح على العالم.

على الجانب الآخر، فإن قناة النيل الثقافية تمتلك كنزًا من الأرشيف؛ لقاءات نادرة مع كبار المفكرين والأدباء مثل يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وروجيه جارودى وغيرهم. لا يجوز أن يبقى هذا التراث حبيس الخزائن، بل يجب إعادة تقديمه للأجيال الجديدة فى صورة عصرية من مقاطع قصيرة ومؤثرة على المنصات الرقمية، إذ يمكن أن يصبح هذا الأرشيف مكتبة حيّة متاحة للعالم كله.

اليوم هناك كوادر متميزة فى القناة؛ مثقفون وأكاديميون وكتّاب كبار، وبعضهم من تلامذتى. هؤلاء يمثلون رصيدًا مهمًا للمستقبل. ومع قيادة مثقفة ومنفتحة مثل أحمد المسلمانى وسها النقاش، يمكن أن نعيد بناء إعلام ثقافى جديد يواكب العصر ويخاطب العالم.

نحتاج إلى إعادة تقديم الذاكرة الحية الموجودة فى المكتبة بأسلوب عصرى، من خلال مقتطفات قصيرة قابلة للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعى. لقد كان أحد أسباب نجاح القناة وجود فكر متجدد وفريق من الشباب يعمل معى، لكن المشكلة ما زالت تكمن فى الفجوة بين الأجيال، وهى فجوة تستدعى ضرورة التواصل المستمر لردمها. 

لقد تغيّرت الولاءات؛ فبعد أن كان الإعلام فى الماضى يخلص للدولة والمواطن، أصبح اليوم ولاؤه للمعلن ورأس المال. ولهذا لا بد من الانتباه إلى أن كل الهياكل القديمة تحتاج إلى تغيير، وأننا أمام ضرورة حتمية لقيام ثورة إعلامية رقمية.