الرئيس السابق.. أشرف الغزالى: التطوير يحتاج إلى ذهنية جديدة تعى متغيرات الإعلام
بدأت علاقة المخرج أشرف الغزالى بقناة النيل الثقافية منذ تأسيسها عام 1998، إذ أخرج العديد من برامجها وأفلامها التسجيلية التى كوّنت رصيدًا خاصًا فى ذاكرة جمهور القناة. ومع مرور السنوات تولى مسئوليات إدارية متدرجة حتى أصبح رئيسًا للقناة عام 2012، وظل فى موقعه قبل أن تنتقل رئاسة القناة إلى الإعلامية سها النقاش.
فى هذا الحوار، يستعيد الغزالى محطات تجربته الطويلة داخل القناة، متوقفًا عند التحديات التى واجهت العمل الثقافى التليفزيونى، وموضحًا رؤيته لمستقبل الإعلام الثقافى فى ظل التحولات السريعة التى يشهدها المشهد الإعلامى. وفى مفارقة لافتة، يتحدث عن مشروعه الأحدث الذى حمل اسم «ميتا نايل فيرس»، والذى يطمح من خلاله إلى إعادة صياغة العلاقة بين الثقافة والإعلام عبر الفضاء الرقمى والتقنيات الحديثة، ويأمل أن يُستفاد منه فى العمل الثقافى بالقناة بما يضمن وصول المحتوى الثقافى إلى أجيال جديدة وبأساليب أكثر جاذبية.

■ توليت رئاسة قناة النيل الثقافية فى فترة مضطربة من تاريخ مصر عقب الثورة.. فما الذى حرصت عليه آنذاك؟
- علاقتى بالقناة بدأت مع تأسيسها، فمنذ السنوات الأولى لها عملت فى إخراج عدد من البرامج والأفلام التسجيلية، ثم توليت مسئولية الإعداد والتنفيذ فى القنوات المتخصصة، وعملت على تطوير القناة وتحسين الأداء.
وحينما توليت رئاسة القناة، وكان ذلك فى فترة عصيبة بعد الثورة المصرية، كانت القناة فى مرحلة من التحولات الجذرية، وكان هدفى الرئيسى هو إعادة جذب الجمهور المصرى إلى القناة، وتبسيط الرسائل الثقافية لتصل إلى جميع فئات المجتمع.
وفى ظل فترة من التذبذب الكبير فى المجتمع، وفترة كانت تتطلب إعادة تشكيل الذهنية المصرية، ركّزت على أن تكون الثقافة موجهة لكل فئات المجتمع، خصوصًا بعد الفجوة الكبيرة التى حدثت بين المثقف والجمهور. كان لا بد إما أن نرتقى بالجمهور أو أن يقترب المثقف منه ليجذبه، وذلك عبر تبسيط أسلوب الحوار وتقديم جرعة ثقافية تناسب مختلف الفئات.
قدّمت برامج تستحضر الأبطال الشعبيين من الواقع لجذب جمهور الحارة إلى القناة الثقافية، من خلال حلقات تسجيلية يُمهَّد لها بجرعات ثقافية مبسطة فى صورة ومضات قبل موعد إذاعتها، فأطلقت برامج قصيرة لا تتجاوز الدقيقة أو الدقيقة ونصف الدقيقة تحمل معلومة سريعة، مثل «عن قرب» و«ومضة» و«لغة الضاد»، بحيث يستفيد منها المواطن البسيط بسهولة. ومع هذه الخطوات، بدأت القناة تحصد مشاهدات واسعة، ونجحت فى تبسيط لغة الحوار بفضل فريق عمل يمتلك القدرة على شد الجمهور والتواصل معه بفاعلية.

كان الهدف الرئيسى فى خطتى لتجديد القناة هو كسر فكرة أن الثقافة تدور دائمًا فى دائرة مغلقة. لذلك رفعت شعار «الثقافة حياة»، مؤكدًا أن أسلوب الأكل والحديث والحركة، وكل تفاصيل الحياة اليومية، هى فى جوهرها ثقافة. حاولت أن أحقق توازنًا دقيقًا؛ ألا أفقد المثقفين من جهة، وأن أجذب الفئات الأخرى من جهة ثانية.
ورغم الاعتراضات التى أُثيرت حول بعض البرامج، كنت مصرًّا على تقديمها، حتى إننى خضت حوارات عديدة مع وزير الثقافة الأسبق حلمى النمنم، الذى كان يرى أنه لا يوجد برنامج للمثقف على شاشة التليفزيون المصرى. ومع ذلك، مضينا فى تنويع الخريطة البرامجية؛ فبينما سعينا إلى توسيع دائرة الجمهور، حرصنا فى الوقت نفسه على تخصيص مساحة ثابتة للمثقفين، تضمنت النشرة الثقافية وبرامج موجهة إلى الكاتب والمفكر.
كما أطلقنا فكرة التفاعل من خلال تأسيس صفحات خاصة بكل برنامج على منصات التواصل الاجتماعى، ولمسنا مردودًا إيجابيًا كبيرًا. فالإعلام لم يعد قائمًا على مرحلة التلقين، بل بات من الضرورى أن ينتقل إلى مرحلة التفاعل. دخلنا إلى عالم مختلف تمامًا، إذ إن المشاهد إذا لم يكن متفاعلًا مع المحتوى فلن يستكمل متابعته. من هنا بدأنا إنشاء بنك للأفكار نستمع فيه إلى احتياجات المتلقى ونستجيب لطلباته. وكان من أكثر البرامج التى حققت تفاعلًا لافتًا البرامج الدينية مثل «فتاوى على الهواء» و«ندوة للرأى»، أما فى المجال الفنى فبرز برنامج «هذه ليلتى»، الذى كان يُعرض على مدى ساعتين فى أمسيات الخميس والجمعة والسبت، حيث خُصص يوم للمحافظات، ويوم للبلاد العربية، ويوم ثالث للثقافات العالمية، بما أتاح مساحة للتفاعل بين مختلف الرؤى والتجارب. وقد وصلت إلى البرنامج رسائل شكر وتقدير من سفارات عديدة حول العالم. ولكن مع الأسف، لم يعد من الممكن حاليًا الاستمرار فى تقديم مثل هذه البرامج التى كانت تُصور خارج القناة.
كانت السنوات العشر الأخيرة شديدة البؤس، إذ لم تُتح خلالها أى إمكانات للتطوير أو التحديث؛ فلا الاستديوهات تطورت ولا الكاميرات ولا باقى أدوات العمل. أمام هذا الواقع، ركزت جهودى على المضمون وأسلوب التقديم، وبدأنا نتجه إلى تقليص عدد البرامج فى محاولة للحفاظ على الجودة بدلًا من الانشغال بالكم.
■ مصر من أكثر الدول التى تمتلك مبدعين فى مجالات الفن والأدب، ولدينا إنتاج ضخم. فهل استطاعت القناة عبر تاريخها أن تعكس هذا الثراء بشكل مناسب؟
- القناة بالفعل قدّمت لقاءات وحوارات مع كبار الكتّاب. وهذه المواد يمكن إعادة تقديمها مجددًا. الأمر ممكن جدًا. على سبيل المثال، القناة تضم كوادر متميزة للغاية فى العمل على تقنية الواقع المعزز «AR»، تفوق فى مستواها كثيرًا من العاملين فى الخارج. فمن الممكن أخذ هذه اللقاءات القديمة، وإعداد مقتطفات قصيرة منها، ومعالجتها بصيغة حديثة، بل وتحويلها إلى تقنية ثلاثية الأبعاد «3D»، بحيث تصل إلى الشباب بالتقنية التى يفضلونها.
لا يوجد تراث يموت إلا إذا قررنا نحن أن نتركه يموت. قناة النيل الثقافية أنجزت بالفعل لقاءات قيّمة مع رموز كبيرة، فقد سجلنا مع أغلب الأدباء الذين ما زالوا على قيد الحياة، كما أنه لدينا تسجيلات تشكل أرشيفًا ضخمًا ونادرًا، ولو أن كثيرًا ممن ظهروا فيه رحلوا عن عالمنا. يمكن القول إن ثلاثة أرباع هذه اللقاءات ما زالت محفوظة ولم تُفقد حتى الآن. لدينا تسجيلات مع الأبنودى وغيره من كبار الشعراء والمبدعين، ولقاءات مع أسماء كبيرة مثل جمال الغيطانى، ونجيب محفوظ موجودة فى أرشيف القناة. لكن الأرشيف غير متاح بالكامل، لأنه موجود فى شرائط قديمة، ومساحتها التخزينية محدودة. ولم تعد هذه الشرائط تجد مكانًا للاحتفاظ بها، ولهذا يواجه التراث خطر الضياع.
كنت قد أسست من جهة أخرى مشروع رقمنة التراث الثقافى المصرى فى عام ٢٠١٧، فقد تمت رقمنة ما يقارب ٤٠٠٠ ساعة من محتويات التراث المصرى للعرض على قناة «ماسبيرو زمان»، وهو مشروع مستمر حتى الآن ويستهدف الحفاظ على الثقافة المصرية وتعزيزها فى العصر الرقمى. ونأمل أن تؤتى دعوة الرئيس السيسى لرقمنة تراث ماسبيرو ثمارها فى الحفاظ على ما تبقى.
ما زال صرف الأجور مشروطًا بحفظ الحلقات على الشرائط، رغم أن شركات الإنتاج توقفت عن تصنيعها منذ سنوات. وهو ما يضطر العاملين إلى التسجيل على الشرائط القديمة وإلغاء ما تحتويه من مواد محفوظة، فى الوقت الذى لم تعد فيه مراحل التصوير والمونتاج أصلًا بحاجة إلى شريط، ما جعل الكثير من الكنوز تُحذف، الحل هو الرقمنة. يجب أن يُعاد تحويل هذه المواد إلى صيغة رقمية حديثة، لتصبح فى متناول الأجيال الجديدة، ولتحفظ الذاكرة الثقافية للأمة.
نحن أمام قضية كبرى؛ لا بد من تشريعات جديدة تناسب العصر. لا يجوز أن نعيش بعقلية القوانين القديمة. فالإنتاج الثقافى يحتاج إلى حرية ومرونة أكبر، لا إلى قيود هندسية أو بيروقراطية تعطل تسجيل أو بث حلقة جديدة.
وبالنسبة لرئيسة القناة الحالية، فهى لا تملك سلطة التغيير بمفردها، فالمسألة تحتاج إلى إرادة عليا ودعم من أصحاب القرار، فالتطوير يستلزم تغيير البنية التشريعية، وإلا ستظل الثقافة مقيدة. فى النهاية، نأمل أن يحدث تطوير حقيقى، وأن تتم رقمنة التراث وحمايته، لأن هذا التراث هو ذاكرة الأمة، وضياعه يعنى ضياع جزء من هويتنا.
■ ما الاستراتيجية التى تراها ضرورية اليوم لتطوير القناة وتعزيز دورها الثقافى لدى مختلف الفئات؟
- التطوير يحتاج إلى ذهنية جديدة. إذا أردت أن تنجح فعليك أن تخطو خطوة لم يخطُها أحد من قبلك؛ لا بد أن تسبق الإعلام الموجود على الساحة بدلًا من أن تقتصر على تقليد أشكال برامج أخرى. نحتاج إلى تغيير الفكر، وأن نتحرك بناء على ما سيكون عليه الإعلام بعد خمس سنوات. لاستعادة الريادة فى المنطقة العربية، ينبغى أن نكون أسبق خطوات مما هو قائم. لذلك أوليت اهتمامًا خاصًا بالميتافيرس، فقد بات واضحًا أن المشاهد لن يكتفى بالمحتوى ثنائى الأبعاد، والشباب اليوم يطلب معلومات سريعة وفيديوهات قصيرة، والرؤية المستقبلية ستكون ثلاثية الأبعاد، ليحضر المشاهد العرض عبر الأفاتار الخاص به. ما نراه الآن من محاولات تطويرية كثيرًا ما يجهل متطلبات المستقبل القريب، لذا لنكون فى الصدارة علينا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون.
■ كيف يمكن الحديث عن الميتافيرس فى وقت ما زالت فيه القناة على حالها الراهن، بل إن منصاتها الرقمية نفسها لم تُفعَّل بعد؟
- علينا العمل فى الأمرين بالتوازى. لطالما طالبت بإنشاء قنوات ومنصات مخصصة لكل قطاع، ولفترة طويلة لم تكن هناك استجابة للتطوير، كنت أنادى بضرورة العمل الرقمى ولم يُلبَّ هذا النداء. دورى كان أن أطلب وأن أحارب من أجل تنفيذ هذه الخطوة، وما زلت أراها أولوية للمضى نحو إعلام عصرى قادر على اللحاق بالغد وليس بالماضى. علينا أن نخطو أثناء سعينا لتحقيق ذلك نحو خطوة جديدة تجعل هذه المؤسسة الإعلامية المصرية سابقة على مستوى الشكل والمضمون.
■ إذن أنت ترى أن المحتوى الثقافى قادر على الوصول إلى جمهور واسع رغم ما يُقال عن نخبوية الثقافة وصعوبة تعميمها؟
- الأمر كله يتوقف على أسلوب تقديم المحتوى، نحن نتحدث عن الثقافة، أى إيصال المعلومة. هناك أشخاص يظهرون على المنصات الرقمية بأسلوب بسيط يروون من خلاله الكثير، فيصلون بالمعلومة إلى الجمهور بشكل صحيح، وتكون ممتعة أو غير ممتعة بحسب طريقة تقديمها. إذا تناولتُ الأمر بطريقة جافة فلن تصل، لكن المهم هو الشكل الذى ستُقدَّم به المعلومة.
عندما أعددتُ بعض السهرات، كنت أقدّم برنامجًا يبدو منوعًا للجمهور، لكنه فى حقيقته برنامج ثقافى، حتى لو لم يُعرّف على هذا النحو. وكان كثير من الناس يتجاوبون معه، بل كان أحيانًا يُطلَب لإعادة العرض. فاليوم عندما تقدمين المعلومة، سواء كانت أدبية، أو سياحية، أو عن متحف، أو غيره، إذا وضعتها فى صيغة قصة موجهة للأطفال أو للشباب، ستصل. الفارق إذن فى طريقة المعالجة.
طالما أننى أواكب العصر فى أدوات التطور، سأستطيع أن أطور فكرى فى كيفية صياغة الشكل الذى ستُقدَّم به المعلومة. الثقافة بطبيعتها مادة ثقيلة على المتلقى، لكن هنا تكمن العبقرية. ولا بد أن أشهد لكل العاملين فى قناة النيل الثقافية بقدرتهم على إيصال الثقافة. فقد كانوا بعد إنتاج الحلقة يقتطعون منها أجزاء ويشاركونها، فيتفاعل معها قطاع كبير. يعتمد جزء كبير من توصيل الثقافة على كيفية تحقيق التفاعل مع الناس، ومع مختلف الأعمار، من خلال الشكل الذى تُقدَّم فيه.
فلا نريد أن تبقى الثقافة فى دائرة مغلقة: شاعر يتحدث إلى شاعر، وناقد يخاطب ناقدًا. المطلوب أن نفكر فى الشكل الذى نقدّم فيه المادة. عندها سنكتشف أن الثقافة مادة لطيفة جدًا.
■ برأيك.. هل يمكن تطبيق فكرتك عن المحتوى الثقافى المقدم بالميتافيرس فى قناة النيل الثقافية؟
- نعم، يمكن استغلال شىء مشابه لصالح قناة النيل الثقافية. تحدثت مع رئيس الهيئة الوطنية للإعلام حول هذا المشروع، وكنت قد أخبرتُه بأننى أنجزت تجربة مماثلة، وإذا كانت هناك رغبة فى ربطه بالقناة أو بالهيئة، فسأدعمه بالكامل دون أى أغراض شخصية، فلا مشكلة لدىّ.
يمكن لمشروع الميتافيرس أن يكون فارقًا فى مختلف الأحداث الثقافية فى مصر، ويسهم فى تعزيز حضورها على مستوى العالم. فى وقت سابق، اجتمعتُ مع وزراء ثقافة وناقشت معهم فكرة حضور الحفلات الكبرى بتقنية ٣٦٠ درجة، بحيث يستطيع أى شخص من منزله أن يعيش الحفل كما لو كان حاضرًا فى القاعة، لكن المشكلة أن بعض الموظفين فى الوزارة لا يملكون الرغبة ذاتها فى متابعة الجديد، فبعضهم يرفض أى أفكار جديدة.
لقد أرسلتُ المشروع إلى مجلس الوزراء أيضًا، لكن لم تكن هناك استجابة. المشكلة أن قناة النيل الثقافية لا تملك ميزانية كافية، والمسئولون يؤكدون أن أى مشروع ضخم يحتاج إلى تمويل دولة، وليس جهدًا فرديًا.
القناة لديها بالفعل تسجيلات كثيرة. ومع ذلك، فإن القناة لم تعد تتحرك خارج حدود مصر حاليًا، رغم أنها كانت تُوجَّه لها دعوات عديدة للمشاركة فى الخارج. لكن ما زالت القناة الثقافية الأكثر حضورًا فى الفعاليات الكبرى داخل مصر.







