الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

سر الأسرار.. دان براون بعد بيع ربع مليار نسخة: الانتقادات ما زالت تؤلمنى

حرف

- صاحب «شفرة دافنشى» يفك أسرار لوحات عصر النهضة فى أحدث رواياته 

- الرواية الجديدة تشهد عودة «روبرت لانجدون».. وكتابتها استغرقت 6 أشهر

بعد أن باع أكثر من 80 مليون نسخة من كتاب واحد، يصعب إنكار أن دان براون واجه تحديًا كبيرًا فى تكرار النجاح الاستثنائى الذى حققته روايته الشهيرة «شفرة دافنشى» عام 2003.

وفى سبتمبر الماضى، قدّم «براون» محاولته الأحدث عبر روايته الجديدة «سر الأسرار»، التى تعيد إلى الواجهة شخصية «روبرت لانجدون»، بطل «شفرة دافنشى» و4 روايات أخرى، أستاذ جامعة «هارفارد» المتخصص فى «علم الرموز الدينية»، وهو تخصص غير موجود فى الواقع.

وكما اعتاد «براون»، ينطلق «لانجدون» فى رحلة جديدة يجوب فيها العالم باحثًا عن فك شفرات ورسائل سرية مُخبأة فى أعمال فنية من عصر النهضة، تحمل إشارات إلى أسرار كبرى قادرة على تغيير العالم، ظلت مطموسة لقرون، ويقرر «براون» مرة أخرى أن يكشفها جميعًا.

عودة «روبرت لانجدون»

فى رواية «سر الأسرار»، يعود «روبرت لانجدون» مجددًا، البروفيسور الوحيد فى العالم المتخصص فى «علم الرموز الدينية»، بسماته الشخصية المعهودة، يرتدى حذاء أنيقًا وقميصًا بياقة عالية، وساعة يد عليها صورة «ميكى ماوس»، وكلمة مروره لمعظم الأشياء هى «Dolphin123»، لأنه يجيد السباحة.

يسافر «روبرت لانجدون» إلى مدينة براغ لحضور محاضرة تُلقيها «كاثرين سولومون»، العالمة البارزة فى مجال العلوم العقلية، التى بدأت تربطه بها علاقة عاطفية مؤخرًا، ثم تحدث جريمة قتل وحشية تُحول الرحلة إلى فوضى عارمة.

وبينما كانت «كاثرين» على وشك نشر كتاب مثير للجدل، يتضمن اكتشافات مذهلة حول طبيعة الوعى البشرى، ويهدد بتقويض معتقدات راسخة منذ قرون، تختفى فجأة مع كتابها، الذى توجد منه نسحة وحيدة فى قبو رقمى مشفر مملوك لناشرها دار «بنجوين راندوم هاوس» «وهى أيضًا دار نشر براون»، ثم تبدأ المطاردات.

تلعب براغ دورًا لافتًا فى رواية «براون»، فهى ساحة غنية بالغموض والإثارة، تنبض بروح القوطية. وباعتبارها من أقدم مدن أوروبا، يستغل الكاتب تراث براغ وأساطيرها، كما فعل فى روايته «ملائكة وشياطين». وباعتبارها أيضًا أرض أساطير الشياطين والأشرار والأرواح الهائمة، يختار «براون» أن يكون شرير الرواية هو رجل مجنون غريب الأطوار متنكر فى زى «غولم» «تمثال طينى»، وفقًا للفلكلور اليهودى، ويُحركه حاخام مُستوحى من أقدم أساطير العاصمة التشيكية. 

وكعادته يعقّد «براون» روايته بالحبكة الكلاسيكية، فهو يُضفى طابعًا من التشويق والإثارة، فتبدأ الحبكة مُعقدة ثم تزداد تعقيدًا، وكل بضع صفحات يقدم لنا نهاية مفتوحة، تُمهد لها بسلسلة من النقاط.

مثلًا، تصف الجمل الافتتاحية روح امرأة ميتة تطفو فوق براغ، من المنحدر إلى تلة القلعة، وصولًا إلى قلب العاصمة. وبعد بضع صفحات، نكتشف أن حبيبة «لانجدون» الجديدة قد توصلت لسلسلة من الاكتشافات فى علم الأعصاب وما يُسمى بـ«العلوم المعرفية»، وهى تجارب تستكشف فكرة أن الوعى البشرى قد يمتد إلى ما وراء الدماغ. وكالعادة، هناك كيانات قوية وشريرة تحاول إخفاء تلك الاكتشافات.

وهناك دومًا مطاردة، فقبل أن يدرك «لانجدون» ما يحدث حول اختفاء حبيبته، يجد نفسه معرضًا للاعتقال من قِبَل الشرطة السرية التشيكية لجريمة تبدو تافهة بعض الشىء، ألا وهى إطلاق إنذار حريق فى فندق، ثم القفز فى نهر متجمد.

فى هذه الأثناء، يظهر الشرير «غولم» بكامل تجهيزاته من أحذية ضخمة، وعباءة سوداء لافتة، ورأس مغطى بالطين، يتجول فى المكان ويقتل الناس، تمامًا مثل ظهور الأرواح الشريرة فى الحكايات الشعبية بالعاصمة براغ.

يظهر ولع «براون» بالاستطرادات والذكريات والكم الهائل من المعلومات عن الأماكن والشخصيات. مثلًا يذكر أن الكاتب اليهودى الغامض فرانز كافكا وُلد وعمل فى براغ، وكتب روايته السريالية المظلمة «المسخ»، وأن السفارة الأمريكية بُنيت عام ١٦٥٦ على يد كونت ذى ساق واحدة، وتضم الآن ٢٣ موظفًا مكلفين بالعمل لصالح المصالح الأمريكية فى المنطقة.

الوعى البشرى

فى «سر الأسرار» يبقى «روبرت لانجدون» الشخصية المحورية، ويجد نفسه متورطًا فى مؤامرات تمتد من التاريخ القديم إلى العلوم الحديثة، تمامًا مثل الروايات السابقة.

لكن التركيز هنا أقل على الرموز والجمعيات السرية، وأكثر على التقاء العلم والوعى والإيمان، مع محاولة دمج هذه الأفكار التأملية فى حوار يهدف لفهم الإنسان معنى الحياة، وطرح تساؤلات صعبة حول مدى الكون وهل له فعلًا بداية ونهاية حقيقية؟

تتناول رواية «براون» هذه التساؤلات بصدق مُدهش، فخلف المطاردات والجرائم والألغاز الغامضة، تكمن قصة عن حدود المعرفة، ولغز الوعى نفسه الذى لا يزول.

مع اتساع نطاق الأحداث لتشمل لندن ونيويورك، يبحث «لانجدون» بيأس عن «كاثرين»، وعن إجابات لهذه الأسئلة. وفى سباق مثير عبر عالمى العلوم المستقبلية والأساطير الغامضة، يكشف عن حقيقة صادمة عن مشروع سرى يغيّر إلى الأبد نظرتنا إلى العقل البشرى.

وتصف «كاثرين» فى مخطوطاتها «علم الإدراك» بأنه «دراسة الوعى البشرى»، وهو تعريف يتجاوز التركيز المعتاد لهذا المجال على مجموعة متنوعة من الظواهر الخارقة للطبيعة، مثل: الإدراك الحسى الخارق والاستبصار والتخاطر.

ويكمن «سر الأسرار» فى رواية «براون» فى تأكيد «كاثرين» أن العقل البشرى لا يقتصر وجوده على الدماغ المادى فحسب، بل يستمد من مخزون كونى من الوعى، وهو خاصية من خواص الكون موجودة منذ الأزل.

وحسب مراجعة ثور هوجان، المنشورة فى «Thors forge» فإنه فى أى حقبة تاريخية، غالبًا ما تُستمد الاستعارة السائدة للعقل وكيفية عمله من التكنولوجيا المهيمنة فى ذلك الوقت. فى زمن «فرويد»، كان يُعتقد أن العقل يعمل كمحرك بخارى، مدفوعًا برغبات غير مُشبعة «غالبًا ما تكون جنسية»، والتى إذا تراكمت بشكل مفرط، قد تؤدى إلى خلل وظيفى. قبل فترة ليست بعيدة، كان من الشائع الحديث عن الناس على أنهم «مُبرمجون» على سمة أو أخرى، مثل جهاز كمبيوتر شخصى يعمل بنظام تشغيل.

من الواضح أن نظرية «كاثرين» مستمدة من الإنترنت. وفى إحدى نقاطها تُقارن الدماغ البشرى بهاتف ذكى، من البديهى أنه لا يمكنه استيعاب كل المعلومات المعروفة فى العالم، لكنه قادر على الوصول إلى مصدر خارجى غير مادى يبدو لا نهائيًا.

حصن الامتنان

«دان براون، مثل كل رواياته، يعيش الأسرار والرموز والمعادلات كجزء لا يتجزأ من حياته».. هذا ما ذكره المراسلان: جيفرى براون وآن دافنبورت، خلال زيارة لمنزل الكاتب الكبير فى «نيو هامبشاير»، حيث التقاه فى حوار خاص لصالح قناة «PBS».

وقال «براون» للمراسلين، فى هذا اللقاء، إنه سمى منزله «حصن الامتنان»، كاشفًا عن امتلاكه نسخة واحدة من جميع كتبه من جميع أنحاء العالم، يضعها فى مكتبة دائرية مُظلمة، توجد فى نهاية أحد الممرات السرية السبعة بالمنزل، ما يعطى انطباعًا بأن الكاتب الكبير «شخص غريب الأطوار»، مثلما ذكر المراسلان!

وأضاف دان براون: «ليس سرًا أننى أحب الكتابة عن المواضيع الكبيرة: سلالة يسوع المسيح، والذكاء الاصطناعى، وسكان العالم. لكننى لطالما شعرت بأن هناك موضوعًا واحدًا أكبر من كل هذه المواضيع، وهو يتعلق بالوعى البشرى، تلك العدسة التى نختبر من خلالها الواقع، ونختبر أنفسنا».

وواصل صاحب «سر الأسرار» و«شفرة دافنشى»: «الأمر الصعب فى الكتابة عن الوعى، أنه موضوع غامض للغاية يصعب تحديده بدقة. لذا، كان التحدى تحويل هذا الموضوع الغامض إلى رواية تشويق سريعة الإيقاع»، مشيرًا إلى أن هذه الرواية استغرقت ٦ سنوات كاملة لكتابتها وخروجها إلى النور.

وأكمل: «فى (حصن الامتنان) هذا (يقصد منزله)، أكتب كثيرًا بداخله. استغرقت ٦ سنوات كاملة فى البحث والكتابة لروايتى (سر الأسرار)، وأنجزت معظمها فى غرفة تقع أعلى درج حلزونى ضيق آخر بالمنزل».

ورأى أنه لا توجد «وصفة واحدة» لكتابة روايات الإثارة، والأهم أن تحتفظ بكل تلك الحبكات المعقدة فى الذهن، مضيفًا فى شرحه لتلك النقطة: «ليس عليك معرفة كل شىء فى البداية. فى الحقيقة، أنت تُنشئ إطارًا أشبه بهيكل تُعلّق عليه كل هذه المعلومات. ومن الضرورى معرفة نهاية رواية الإثارة قبل البدء بكتابتها».

وواصل شارحًا كيفية كتابته الرواية: «أما بعض التفاصيل والأحداث المعقدة فى منتصف الرواية، فقد لا تكون مثلما توقعتها فى البداية»، مشددًا فى الوقت ذاته على أن «الأساس يظل واحدًا. أنت تعرف مَن هو الشرير. أنت تعرف ماذا سيحدث له؟ وكيف ينال جزاءه العادل؟ أنت تعرف كل ذلك. فيجب أن تعرف المفاجأة قبل أن تكتبها».

وأكمل «براون»: «ليس بالضرورة أن تكون جميع روايات الإثارة تعليمية. لكن هذا ما أحب أن أفعله، لأننى أحب التعلم، وأعتقد أن الكثير من القراء يحبون التعلم. أحب أن أكتب روايات إثارة تعليمية. فى الوضع الأمثل، إذا أتقنت عملى، فلن تلاحظ أنها تعليمية».

مواجهة الانتقادات

دان براون كاتب ناجح بشكلٍ استثنائى، فقد بيع من كتبه أكثر من ٢٥٠ مليون نسخة، وتُرجمت إلى ٥٦ لغة. رغم ذلك، كشف الكاتب الشهير عن أنه كتب ٣ روايات قبل «شفرة دافنشى» ولم تعرف سوى طريق الفشل.. الفشل فقط. وبعد «شفرة دافنشى» عرف النجاح الساحق، وكذلك «الانتقادات».

يقول «براون» للمراسلين: «تعرضت لانتقادات من الكنيسة الكاثوليكية بشأن تصويرى حياة المسيح. بينما أرسل لى أحدهم رسالة خاصة، نقلًا عن بابا الفاتيكان، يقول فيها: (كنت محقًا)».

بالطبع، لن يُعجب الجميع بالنتائج. لذا، وعلى مر السنين، لم يتوانَ بعض النقاد عن انتقاد أسلوب دان براون بشدة. وهو معتاد ذلك، إلى حد ما. يقول: «ما أفعله، أفعله عن قصد شديد، وبشكل دقيق. إما أن تحبه أو تكرهه. لا يوجد حل وسط. وقد استغرق الأمر بعض الوقت لأعتاد ذلك أيضًا».

ويضيف الكاتب الكبير: «بالتأكيد، أتمنى لو أستطيع أن أقول لك إن النجاح يجعلنى محصنًا ضده. لا، ما زال الأمر مؤلمًا. تتمنى لو أن الجميع يحب ما تفعله. لكنهم لا يحبونه. وعندما يخبرونك بما يشعرون به حقًا، يؤلمك الأمر، لكن هذا هو الواقع».

لن تُغيّر رواية آراء منتقدى «براون» بالطبع. لكنها تُذكّرنا بالسبب الذى جعل كتبه علامات بارزة فى الثقافة، فرواية «سر الأسرار» تُعد من روائع دان براون، لكن المراجعات التى وصفتها، حتى الآن، ترى أنها ليست ذروة إبداعه، وإن كان قدم فيها- ببراعة- ما نتوقعه منه.

عندما تقرأ رواية لـ«دان براون»، أنت تعرف مسبقًا ما ستحصل عليه: رواية تشويق مسلية وسهلة المتابعة، قراءة سريعة الإيقاع، مثيرة، وممتعة، مليئة بالتشويق، داخل مواقع خلابة فى عاصمة الغموض براغ، المدينة الساحرة، الموطن التاريخى للسحر والشعوذة.

بالإضافة إلى الحبكة: وجود شخصية أسطورية، والقتل، والفوضى. كل ذلك ممزوج بتلك الاستطرادات المميزة لـ«دان براون»، التى تشرح طائفة قديمة، أو شفرة لغوية، أو نظرية علمية من شأنها أن تكشف لغزًا، وبالمصادفة، تقدم لبطل الرواية مخرجًا آخر، حتى يحل اللغز فى النهاية، ويقدم لنا منظورًا جديدًا لشىء كان من قبل مجرد حقيقة ثابتة.