الأربعاء 08 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مدينة الأسرار والقلاع 6.. «براغ» تحاول مصالحة كافكا وتعويضه بالعقدين الأخيرين

براغ
براغ

- أسهمت العزلة الاجتماعية وانعدام الجذور فى تعاسة كافكا الشخصية

- كان يعانى من مشاعر النقص والشك فى الذات ويعانى من نوبات الاكتئاب والقلق

يقف فرانز كافكا كشخصية غامضة فى عالم الأدب، تاركًا علامة لا تمحى على المشهد الثقافى، استكشافه للمواضيع الوجودية، والسرد السريالى، وعمق الحالة الإنسانية يتجاوز الزمان والمكان، ويقدم مصدرًا خالدًا للتأمل والبصيرة، فلا يزال كافكا يبهر القراء ويترك أثرًا دائمًا، حتى بعد قرن من وفاته.

يعد فرانز كافكا، بلا شك أحد أشهر المؤلفين فى براغ. على الرغم من أنه بالكاد ذكرها فى رواياته، إلا أن الأماكن ومشاعره الداخلية تصور أجواء براغ على مفترق طرق قرنين من الزمان. فى براغ بسهولة يمكنك أن ترى وتشعر كافكا الذى تضعه المدينة فى مركز الجذب السياحى لها، فى أثناء رحلتى إلى براغ قابلت كافكا كثيرًا فى الشوارع ووسط المدينة والمقاهى، وقبل رحلتى قرأت بعضًا من روايات كافكا وكان السؤال الأهم: هل أحب فرانز كافكا براغ مثلما أحبته؟ ربما أجد الإجابة هناك!

كافكا

من هو كافكا؟

«كافكا» المبدع والمضطرب أحيانًا، هو نتاج بيئة معقدة خلقته وعذبته، ولد فرانز كافكا فى ٣ يوليو ١٨٨٣ فى براغ، جمهورية التشيك، لعائلة يهودية من الطبقة المتوسطة فى براغ، التى كانت فى ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، فيما أظهر كافكا اهتمامًا مبكرًا بالكتابة والأدب وبدأ فى نشر أعماله فى المجلات الأدبية عندما كان لا يزال طالبًا.

بعد الانتهاء من تعليمه، عمل كافكا لعدة سنوات كموظف فى شركة تأمين، وهى الوظيفة التى كان يحتقرها ولكنها وفرت له الاستقرار المالى لمواصلة الكتابة فى أوقات فراغه، حيث كرّس نفسه لكتاباته، وأنتج سلسلة من القصص القصيرة والروايات القصيرة.

عُرف «كافكا» بأسلوبه المميز واستكشافاته لموضوعات مثل الاغتراب والبيروقراطية والوجودية،، كان لأعمال كافكا تأثير عميق على الأدب الحديث، ولا يزال إرثه يؤثر على الكتاب والمفكرين فى جميع أنحاء العالم.

تتميز كتابة كافكا بأسلوب مميز يوصف غالبا بـ«الكافكاوى». وقد أصبح هذا المصطلح يشير إلى نوع معين من الكتابة التى تتسم بالشعور بعدم الارتياح والقلق والسريالية، فغالبًا ما تتميز قصص كافكا بأبطال محاصرين فى مواقف سخيفة وكابوسية، ويكافحون من أجل فهم عالم يبدو أنه محكوم بقواعد تعسفية وقوى غامضة.

من أشهر أعمال كافكا رواية «المحاكمة» التى تحكى قصة رجل يدعى جوزيف ك. يتم القبض عليه ومحاكمته بجريمة لم يتم تحديدها على الإطلاق. الرواية عبارة عن استكشاف مؤرق لموضوعات الذنب والعدالة والسلطة، وقد تم تفسيرها على نطاق واسع على أنها تعليق على الطبيعة القمعية للبيروقراطية الحديثة، من بين أعمال كافكا الشهيرة الأخرى «المسخ»، وهى رواية قصيرة عن رجل يستيقظ ذات يوم ليجد أنه قد تحول إلى حشرة عملاقة وهناك تفسير أنها ترمز إلى السلطة والنفوذ.

على الرغم من نجاحه الأدبى، فقد كافح كافكا مع شياطينه الشخصية طوال حياته. كان يعانى من مشاعر النقص والشك فى الذات، ويعانى من نوبات الاكتئاب والقلق، حتى توفى كافكا بمرض السل فى ٣ يونيو ١٩٢٤، عن عمر يناهز الأربعين عامًا، تاركًا وراءه إرثًا من الكتابة لا يزال يلهم القراء ويتحداهم حتى يومنا هذا.

منزل كافكا

صراعات كافكا

تجارب كافكا الشخصية وصراعاته أثرت بشكل كبير على كتاباته، فقد عاش فى براغ خلال التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. 

كان كافكا ألمانيًا لغويًا وثقافيًا، متمردًا فى أعماقه ضد المؤسسة الاستبدادية، حتى أصبحت معارضة كافكا للمجتمع الراسخ أكثر وضوحًا عندما أعلن نفسه ملحدًا واشتراكيًا فى سن المراهقة، وطوال حياته البالغة، أعرب عن تعاطفه مع الاشتراكيين وحضر اجتماعات الفوضويين التشيكيين. كان متعاطفًا مع التطلعات السياسية والثقافية التشيكية، لكن حتى هذا التعاطف تم قمعه بسبب ارتباطه بالثقافة الألمانية. وهكذا، أسهمت العزلة الاجتماعية وانعدام الجذور فى تعاسة كافكا الشخصية طوال حياته، ما دفعه إلى اعتبار الكتابة والعمل الإبداعى وسيلة «للخلاص»، أو «شكلًا من أشكال الصلاة» يستطيع من خلالها التصالح مع العالم أو تجاوز تجاربه السلبية فيه.

أحد أهم جوانب الصراع فى حياة كافكا كان علاقته باليهودية، وهى ديانة لم يكن لديه أى صلة بها، لكنها حددته فى المقام الأول وفصلته عن المجتمع التشيكى الأكبر، وعلى الرغم من ذلك سترى كافكا بوضوح فى الحى اليهودى، وسترى الشقق التى عاش فيها والتى لم تكن إلا تذكيرًا بالحصار الذى عاشه، وكذلك المقاهى التى استمتع فيها كافكا بالمسرح اليديشى، والمعابد اليهودية التى نادرًا ما كان يرتادها. 

تجربته فى براغ كيهودى، كناطق بالألمانية تعنى أن كافكا تعرض لمجموعة متنوعة من الثقافات منذ سن مبكرة، على الرغم من أنه كان ملحدًا، إلا أن تراثه اليهودى قاده إلى استكشاف عدد من الكتاب اليديشيين، على وجه الخصوص، روايته الأولى غير المكتملة، والتى نشرت لاحقًا تحت عنوان «أمريكا»، كانت مستوحاة من المسرح اليديشى والتى كانت تحمل فى الأصل عنوان «الرجل الذى اختفى»، إذ تتبع هذه الرواية مغامرات كارل روسمان، الشاب الذى أرسلته عائلته إلى أمريكا بسبب قضية فاضحة، وفيها يظهر افتتان كافكا بموضوعات المنفى والتهجير والسعى وراء الحلم الأمريكى، واهتمامه على نحو خاص بتجربة المهاجرين.

تمثال كافكا

كتاباته لا تشبه حياته

هناك من يعتقد أن حياة كافكا لم تكن محبطة مثل كتاباته، عندما تتخيل حياة كافكا المبهجة عندما يسافر فى جميع أنحاء أوروبا، ويستمتع بوقته داخل الدائرة الفكرية لأصدقائه، ويقضى وقتًا فى الريف التشيكى، ويقيم علاقات عديدة وعميقة مع النساء، لكن كتاباته لم تظهر هذا الجانب.

لم يرد كافكا أبدًا أن يكون شخصية مشهورة، فى حين أنه نشر بعض قصصه القصيرة طوعًا خلال حياته، بما فى ذلك «التحول»، فإن جميع رواياته الشهيرة- «المحاكمة»، و«القلعة»، و «أمريكا»- نشرت بعد وفاته ضد رغبته؛ بعد أن مات بمرض السل، طلب كافكا من صديقه، زميله الكاتب ماكس برود، أن يحرق جميع مخطوطاته غير المكتملة. لم يستطع برود أن يتحمل تدمير أعمال كافكا. وبدلًا من ذلك، نشرها مع العديد من رسائل كافكا، حيث انتشرت غالبية كتابات كافكا فى جميع أنحاء العالم دون علم الكاتب، وترجمت (بصعوبة) إلى أكثر من ٤٠ لغة، ما أدى إلى إرث لم يعرفه صاحبه يومًا.

تقدير براغ لكافكا يمكن تفسيره إنه شىء معتاد حيث تعزز المدن السياحية الاهتمام بأبطال الأدب خاصتها، دبلن، على سبيل المثال، تتصدر احتفالها بجيمس جويس فى ١٦ يونيو من كل عام مع مهرجان بلومسداى، وهو مهرجان يرتدى فيه المشجعون أزياء قديمة ويتتبعون المسارات التى سلكها بطل رواية يوليسيس ليوبولد بلوم.

لكن فى براغ الوضع مختلف قليلًا، فليس من المعتاد أن تتمحور صناعة السياحة الأدبية لمدينة حول شخص يرفض الشهرة صراحة، ولكن يمكن تفسير ذلك أن براغ حاولت أن تصالح كافكا وتعوضه فى الوقت الضائع خلال العقدين الأخيرين.

الاضطراب الذى عانى منه كافكا فى حياته، قد طارد كتاباته أيضًا بعد وفاته، فى عام ١٩٣٩، سيطر النازيون على تشيكوسلوفاكيا (جمهورية التشيك الآن) وحظروا أعماله، بعد الحرب العالمية الثانية، فى عصر الحرب الباردة، عادت أعمال كافكا إلى التداول، ولكن ظل من الصعب العثور عليها فى مكتبات براغ، حيث رفضها القادة الشيوعيون، «لأن جنون العظمة بشأن السلطة المجهولة وأجواء الاختناق العاطفى التى خيمت على أعماله بدت للبعض وكأنها تعكس الظروف فى ظل الشيوعية».

فى نهاية المطاف، تم إدراج عمله على القائمة السوداء مرة أخرى لأنه احتفل به أنصار ربيع براغ، وهى سلسلة الاحتجاجات التى سعت إلى تحرير تشيكوسلوفاكيا من السيطرة السوفيتية، وبعد ٢٠ عامًا أخرى بعد سقوط سور برلين، تمكنت براغ من نشر أعمال كافكا.

ربما أحس كافكا أن كتابته ستنجو من النيران فحاول أن يحذرنا فى أحد كتاباته إلى حبيبته: «براغ لا تتركنى ولا أنت».

بصرف النظر عن شاهد قبره والمبانى الحجرية القديمة، فإن كل معالم كافكا التى زرتها تم بناؤها فى القرن الحادى والعشرين. لقد حاول زعماء تشيكوسلوفاكيا المضطربون محو كافكا من تاريخ براغ؛ والآن ترحب المدينة بحضوره كل يوم.

براغ

علاقته ببراغ

تحتفل براغ بكافكا بشكل خاص، حيث تضم نصبًا تذكارية تحتفى بالمؤلف، بالإضافة إلى متحف كافكا، الذى أنشئ عام ٢٠٠٥ والمخصص لحياته وأعماله، تمنح المدينة جائزة فرانز كافكا كل عام، والتى يفوز الفائز بها بمبلغ ١٠٠٠٠ دولار.

على الرغم من ذلك، لم يفهم أحد على وجه التحديد علاقة كافكا ببراغ، فالطريقة التى كتب بها كافكا عن مدينته، حيث الشوارع الضيقة والأزقة المتاهة تثير رهاب الأماكن المغلقة والقلق، أثارت الحيرة، كانت براغ لكافكا مكانًا للعزلة، حيث وضعه دينه ولغته الأم على الهامش. 

شوارع براغ، بعجائبها المعمارية وأزقتها التى تشبه المتاهة، وجدت طريقها لاحقًا إلى المناظر الطبيعية السريالية فى رواياته وقصصه القصيرة، ولكن على الرغم من أنه لم يشر أبدًا صراحة إلى براغ باعتبارها مسرحًا لقصصه، إلا أن المدينة ظهرت بشكل ما فى معظم كتبه. 

على سبيل المثال، من المفترض أن تكون الكاتدرائية المجهولة فى «المحاكمة» هى كاتدرائية سانت فيتوس، ومن المفترض أن يكون طريقه عبر الجسر هو جسر تشارلز، والمدينة نفسها هى مدينة براغ الصغرى. لا يمكن التعرف على المدينة بوضوح فى قصصه، لكنه يصور أجواء المكاتب أو الكنائس أو السجن أو القلعة مثلما هى فى براغ.

براغ

أين تراه فى براغ؟

قضى «كافكا» معظم حياته فى المركز التاريخى لمدينة براغ، بالقرب من الساعة الفلكية وساحة المدينة القديمة وكنائسها، عندما كنت هناك شعرت أننى سأقابل كافكا فى مكان ما، ولم أتعجب عندما علمت أن المدينة تنظم جولات تسمى جولات كافكا. حيث تأخذ السياح إلى كل الأماكن التى كان يتردد عليها.

ولد كافكا فى زاوية شارعى رادنيكا وكابروفا، بالقرب من ساحة المدينة القديمة. المبنى الأصلى لم يعد قائمًا، ولكن هناك لوحة تشير إلى المكان، ذهبت إلى هناك وبحثت عنها!

كما يعد متحف فرانز كافكا أعجوبة للمعجبين بالمؤلف، حيث يقدم نظرة ثاقبة لحياته وسياقه الاجتماعى والتاريخى والمدينة التى عاش فيها، وكذلك الطبعات الأولى من أعماله، وإلقاء نظرة على مراسلاته الخاصة ومذكراته وصوره ورسوماته التى لم يتم عرضها من قبل، إلى جانب ثروة من الوثائق والصور الفوتوغرافية والمواد السمعية والبصرية المقدمة فى معرض مصمم بدقة، كما يمكنك معرفة المزيد عن جذوره اليهودية، والحياة الفكرية فى براغ، وعن علاقته بالنساء وأسفاره خارج الأراضى البوهيمية.

عند دخولك باحة المتحف قد تتفاجأ بتمثال غريب لرجلين يتبولان على البحيرة على شكل جمهورية التشيك. هذه النافورة هى قطع من أعمال فناننا المثير للجدل ديفيد تشيرنى، ولا علاقة لها بفرانز كافكا.

ولدت فكرة تخصيص متحف لفرانز كافكا فى برشلونة عام ١٩٩٩ عندما صوّر معرض «مدينة K» العلاقة بين المؤلف والمدينة» ثم انتقل المعرض بعد ذلك إلى المتحف اليهودى فى نيويورك فى عام ٢٠٠٢ ووجد أخيرًا موطنًا له فى براغ فى عام ٢٠٠٥. 

على بعد حوالى ١٠ دقائق سيرًا على الأقدام من المتحف، هناك شارع صغير ساحر يسمى Golden Lane. حيث كان كافكا يسكن أحد المنازل فى هذا الشارع - رقم ٢٢ - وهو المكان الذى عاش فيه كافكا فى عامى ١٩١٦ و١٩١٧. وعلى الرغم من تجديد المنزل فى عام ١٩٥٥، إلا أنه لا يزال يحتفظ بالطابع المتواضع والأسقف المنخفضة.

تمثال كافكا فى براغ

إذا أردت أن ترى كافكا وهو يكتب اذهب إلى مقهى سلافيا على ضفة نهر فلتافا، وهو مقهى مفضل لدى العديد من المثقفين والفنانين التشيكيين، ويعتقد أن كافكا كان يتردد على هذا المكان مع ماكس برود وأصدقاء آخرين، 

لا تعطى هذه المواقع فكرة عن حياة كافكا اليومية فحسب، بل توفر أيضًا نظرة ثاقبة للشوارع الشبيهة بالمتاهة وأجواء براغ الغامضة التى تتخلل كتاباته.

فى صباح آخر يوم لى ببراغ، وقفت أمام وجه فرانز كافكا الضخم ذى المرآة، الذى أنشأه النحات التشيكى ديفيد سيرنى وتم تركيبه فى عام ٢٠١٦.

كل بضع ثوان، كان النصب التذكارى يصدر طنينًا ويدور من الأعلى إلى الأسفل، مقشرًا شرائح من رأسه مكدسة مثل مكعب روبيك، حتى يستقر الشكل المشوه فى صورة أخرى متماسكة، لم تعد نظرته حينها تقابل نظرى، وفى كل مرة يستعيد كافكا كامل جسده، ينقسم أنفه إلى ثلاثة اتجاهات، ويكسر بشكل مستحيل.

بدا هذا التمثال السياحى مناسبًا للمؤلف الذى أصبح اسمه الآن مرادفًا لعدم الكفاءة البيروقراطية والشعور العميق بالضيق، والتأكيد على أنه تم كسر شىء ما، بينما لا أحد يهتم.