قراءة جديدة لـ«سفر التكوين»: قابيل قاتل وإبراهيم قاسٍ ويعقوب كذاب
- «الذبح» ليس اختبارًا لإيمان إبراهيم بل لتحريم التضحية بالأطفال عند بعض الثقافات
- «طوفان نوح» لم يحدث.. والحكاية مثل لإظهار رغبة الله فى استمرار الحياة
مضت حوالى 103 أعوام على نشر الفيلسوف الألمانى والتر بنيامين مقالته الشهيرة «نقد العنف»، والتى تظهر بشكل ممتاز التزامه برؤية ماركسية للثورة العمالية ضد نظام قانونى يحمى سلطة الطبقة الحاكمة ويبررها.
يقول «بنيامين» فى هذه المقالة: «العنف الأسطورى هو عنف دموى على الحياة من أجل العنف نفسه، بينما العنف الإلهى هو عنف خالص على كل الحياة من أجل الأحياء. الأول يتطلب التضحية والأخير يفترض ذلك».
هذه الفكرة تم ربطها بالكتاب المثير للجدل «قراءة سفر التكوين»، لمؤلفته مارلين روبنسون، الكاتبة فى العلوم الاجتماعية، والتى تحظى بشعبية كبيرة، وحاصلة على العديد من الجوائز الأدبية، فبينما انتقد والتر بنيامين «العنف الإلهى»، فإن «مارلين» تبرره.
قبل ٢٠ عامًا كاملة، نشرت مارلين روبنسون رواية «جلعاد»، التى حققت نجاحًا كبيرًا، وتحكى قصة واعظ مسن فى «جلعاد» بولاية «أيوا»، يتأمل حياته وإيمانه والعلاقات المعقدة داخل عائلته، تاركًا وراءه رسالة خالدة ومثيرة للتفكير.
الرواية واحدة من أبرز المشاريع الأدبية فى القرن الحادى والعشرين، وهى مستوحاة من الكتاب المقدس وويليام شكسبير. وقبلها نشرت «مارلين» رواية «التدبير المنزلى»، فى عام ١٩٨٠. وبشكل عام كانت كتبها ورواياتها حول الأخلاق والثقافة والعلوم والدين، وكلها تظهر شغفها بالتفكير اللاهوتى. الكتاب الجديد «قراءة سفر التكوين»، الذى صدر فى مارس الماضى، هو أول كتاب لـ«روبنسون» مخصص بشكل شامل لعلم اللاهوت.
وبينما رواية «جلعاد» ركزت على ضرورة أخلاقية هى حاجتنا إلى عيش حياة طيبة، فإن «سفر التكوين»، فى قراءة «روبنسون»، يدور حول الطريقة التى يخاطب بها الله الإنسان.
واستخدمت «روبنسون» طريقتين رئيسيتين للتعبير عن هذه الفكرة، الأولى هى محاولتها الصريحة لتحدى النهج الوثائقى فى التعامل مع قصص الكتاب المقدس، إذ ترى أن رواية الكتاب المقدس ارتباطًا بتاريخه الخارجى مختزلة. أما الفكرة الثانية فتدور حول الاعتراض على الصورة المألوفة لإله العهد القديم باعتباره الإله المنتقم، وإلقاء اللوم على الأبطال فى الحكايات.
وفسرت «روبنسون» سفر التكوين عبر الأدلة التى تدعم كيف أن نجاح البشر أو قابليتهم للخطأ لا يكون أبدًا حسابًا أخلاقيًا أو حتى قانونيًا بسيطًا، بل إن الشخصيات وعيوبها هى دعوة للتأمل الأخلاقى والوجودى، فتقول فى كتابها: «استدامة التناقض هى عبقرية النص»، مشيرة إلى أن «الثيوديسيا فى العمل لا تهدف إلى العقيدة بأى ثمن فقط، بل هى إسناد مسئولية كبيرة للإنسانية».
عندما قال «هاملت» لـ«هوراشيو» فى مسرحية «هاملت»: «هناك إله يشكل نهاياتنا، ويقطعها كيفما نشاء»، يظهر بوضوح أنها هى ذاتها القناعة التى تسيطر على «روبنسون» فى كتابها، الذى بحسب المراجعات يؤكد ضرورة ضبط النفس ورحمة الله. تشير «روبنسون» مثلًا إلى أنه «لم يلعن الله آدم قط»، بل قال له: «ملعونة الأرض بسببك»، لم يلعن الله «قابيل»، بل قال له: «الآن ملعون أنت من الأرض».
وبلغت ذروة تلك الفكرة فى خاتمة كتابها، حين تقول: عندما قال يوسف للإخوة الذين حاولوا قتله: «أنتم قصدتم لى شرًا، أما الله فقصد به خيرًا، لكى يفعل كما اليوم ليحيى شعبًا كثيرًا» «تك ٥٠: ٢٠».
بالنسبة للعالم الغربى فإن سفر التكوين، وهو النص الخيالى التأسيسى للثقافة الغربية، أسهم فى تشكيل فهم كامل للحياة، بما فى ذلك السياسة، إذ تظل قصصه مقنعة ومحيرة فى آن واحد. بعض القصص وأكثرها وضوحًا قصة «الطوفان العظيم»، لكن العديد من القصص الأخرى لا تزال تحمل أكثر من رؤية وتفسير.
و«روبنسون» فسرت حتى قصة «الطوفان» بشكل مختلف، وقالت إنه لم يكن هناك طوفان، لكن القصة عبارة عن مثل لإظهار أنه على الرغم من أننا نحن البشر قد تسببنا فى فوضى رهيبة فى العالم، لدرجة أننا قد نميل إلى تدمير الكثير والبدء من جديد، لكن ماذا يفعل الله؟ يريد أن تستمر الحياة، وتبقى رغم كل شىء نعمة.
على الرغم من أن سفر التكوين يوضح أن الله يريد الاستقامة الأخلاقية من البشر، إلا أن الشخصيات الرئيسية بالنسبة لـ«روبنسون» غالبًا ما تكشف عن عيوبها العميقة. «قابيل» قاتل، «إبراهيم» يتسامح مع القسوة، و«يعقوب» كذاب، أما النقطة المهمة هى أنه على الرغم من هذه الإخفاقات، هناك هدف أساسى فى الخليقة وهو عدم التخلى عن الإنسانية.
كما أن أحد جوانب سفر التكوين التى أبرزتها «روبنسون» بقوة هو عالميته. وكيف سيكون نسل «إبراهيم» كنجوم السماء فى الكثرة، وتتبارك به جميع قبائل الأرض. إنها لحقيقة لافتة للنظر أن مليارات اليهود والمسيحيين والمسلمين اليوم، بطرقهم المختلفة، يعتبرون أنفسهم أبناء «إبراهيم».
قراءة «روبنسون» لـ«سفر التكوين» مليئة بالتفاصيل الواضحة والتشابهات الملحوظة بعناية. وهذا يمكّنها من إظهار أن ما يسميه اليهود «ربط إسحاق» ليس اختبارًا لإيمان «إبراهيم»، بل تحريم للتضحية بالأطفال الذى حدث فى بعض الثقافات الأخرى، على سبيل المثال فى قرطاج.
فى حين رأت بعض مراجعات الكتاب أنه «من الأفضل أن يُنظر إلى هذا العمل على أنه قراءة قريبة ومتأنية من وجهة نظر أدبية، أكثر من كونه مراجعة جديدة لسفر التكوين».
يذكر أن «روبنسون» كتبت عن الكلمات الأولى فى سفر التكوين: «عندما أفكر أنه كان هناك يوم كتبت فيه يد بشرية هذه الكلمات لأول مرة، أشعر بالرهبة».