أفلام الظهيرة.. وأحلامها.. رسائل إلى حبيب لا أعرفه!
- «أفلام الظهيرة» هو نص قوامه مجموعة من الرسائل أى «المكاتيب»
- الرسائل فى هذه الرواية بصوتها الأحادى تبدو وكأنها ذريعةٌ لممارسة البوح الفادح
تدعونا رواية إنجى همام الأخيرة «أفلام الظهيرة»، التى صدرت مؤخرًا عن بيت الحكمة «2025 م»، إلى فتح ملف خاص فى ديوان فن الرواية، نعنى الأعمال السردية التى ترتكز على تقنية الرسائل، من ثم، فنحن لا نقصد فى هذا السياق ما كان يسمى فى ثقافتنا العربية بأدب الرسائل، بوصفه نوعًا أدبيًا مستقلًا، على نحو ما عرفنا من رسائل بعض الأدباء إلى بعضهم، مثل رسائل جبران خليل جبران إلى مى زيادة، التى كانت قد صدرت فى كتاب بعنوان «الشعلة الزرقاء»، أو رسائل مى إلى جبران وغيره من أدباء عصرها، مثل ملك حفنى ناصف، ولطفى السيد، وجوليا طعمة دمشقية، والتى كانت قد جُمعت فى كتاب جاء تحت عنوان «رسائل مى»، يمكن فى السياق ذاته أن نتذكر نماذج أخرى مماثلة، مثل «رسائل الأحزان» لمصطفى صادق الرافعى.

فى الأدب العالمى يمكننا أن نجد ما يشبه ذلك، فنذكر كتاب فرانز كافكا الشهير «رسائل إلى ميلينا»، الذى جسّد قصة حب مريرة ومبتورة، بين كافكا وبين صديقته ميلينا، الكاتبة والمترجمة، على أنه سوف ترد فى هذا الكتاب عبارة لكافكا تستحق التوقف عندها طويلًا، إذ يمكن أن تكون مفتاحًا رئيسًا لفهم فلسفة الرسالة، تقول هذه العبارة: «حين أكتب إليك، أشعر أننى أقترب منك ولكننى فى اللحظة ذاتها أكتشف كم أنا بعيد».
أجل، يكشف لنا كافكا، عبر عبارته، كيف أن الرسائل التى- دون ريب- تعد وسيلة تواصل بين طرفين، تُعدّ فى الوقت ذاته تجسيدًا للمسافة الفاصلة بينهما، أى أن الرسالة بهذا المنظور تعدّ اتصالًا وانفصالًا فى آنٍ واحد.
غير أن ما يجمع الرسائل التى حفلت بها التجارب السابقة هو كونها رسائل حقيقية، تدور بين أشخاص حقيقيين، أى أنهم ليسوا بشخصيات مبتدعةٍ وليدةِ خيال روائى، وهذه الخصيصة، تحديدًا، ترسم خطًا فارقًا بين أدب الرسائل وبين الفن الروائى الذى يستند إلى الرسالة كتقنية بحتة، وهو ما ننشغل به فى هذا المقام.
صار علينا الآن الإشارة إلى نماذج من الفن الروائى الذى نتعقبه هنا، أى الذى يستخدم الرسالة بوصفها لعبة فنية فحسب، وسوف نكتفى من تلك النماذج باثنين فقط، الأول: هو رواية «آلام فارتر» لجوته، التى كتبها قبل أكثر من قرنين، والتى تحتوى على رسائل متبادلة بين البطل فارتر وصديقٍ له يدعى فيلهم، يبثه من خلال تلك الرسائل مكابداته فى حب فتاة تدعى لوته، أما النموذج الثانى فهو تلك الرواية القصيرة الشهيرة «رسالة من امرأة مجهولة» للألمانى ستيفان زفايج، حيث نرى رسالة واحدة طويلة تكاد تستغرق الرواية كلها. والنموذجان يقدمان الرسائل ومحتواها وأطرافها بحسبان ذلك كله مكونات إبداعية خالصة.

فى هذا السياق تقدم لنا إنجى همام نصها الروائى الجديد «أفلام الظهيرة»، وهو نص قوامه مجموعة من الرسائل أى «المكاتيب»، اللافت هنا أن المكاتيب كلها تبدو فى اتجاه واحد، أى أنها مرسلةٌ من الذات الساردة إلى آخرين على غير المعتاد، فالمرء فى الأحوال العادية لا يحوز سوى الرسائل التى تصله من الآخر، بينما الرسائل المرسلة منه، غالبًا ما تكون فى حوزة الآخر، الحاصل فى الرواية التى بين أيدينا ألا أثر فيها لأى رسائل مستقبَلةٍ من أولئك الآخرين، كأننا أمام أسئلة بلا أجوبة، أو بالأحرى، أمام أجوبة تبحث عن أسئلتها.
تنقسم الرسائل فى الرواية إلى ثلاث مجموعات، الأولى تحت عنوان «مكاتيب الرضا»، وهى مرسلة من البطلة «وجد»، إلى حبيبٍ يدعى محمد أو ميمى، والثانية تحت عنوان «ظل رجل»، وهى مرسلة من وجد إلى صديقة لها تدعى «ليلى»، أما الأخيرة فأخذت عنوان «بورتريه ذاتىّ»، وهى مرسلة إلى ابنتها من زواج سابق، والتى تظهر لنا كفتاة صغيرة تدعى «نهاوند».
فى «مكاتيب الرضا» تلفحنا حمم هذا الدفق الوجدانى لامرأة عاشقة، تحب رجلًا لا تظهر له ملامح واضحة، ولا تبين منه أبعادًا مادية، كأنه حالة شبحية أو صورة تجريدية، غير أن هذا الدفق الوجدانى لم يكن محض بوح عاطفى مصمت باعث على الملل، بل جاء بوحًا ذكيًا، مخلوطًا بأصوات وأضواء وظلال وروائح، راحت تطل علينا من أمكنة وفضاءات حميمة، تستحضر إنجى همام من خلاله أرواح مدن وبلاد وبشر، ففى إحدى رسائلها إلى محمد نراها تصف لنا مدينة تونس، كما لم يعرفها أحد، فى عبارات لاهثة ومدببة، تقتنص روح المدينة ونبضها العميق، قائلة: هل نعود لحديث المدن؟ فى تونس لم أتذكر القاهرة، تخطيط مختلف وطبيعة مغايرة، ولم أتذكر حتى الإسكندرية، تونس شأن آخر، وقعتُ فى غرامها منذ الليلة الأولى، وهى من أكثر المدن التى تمنيتُ العيش فيها، تلك المدينة الخاطفة، أربع ساعات يجول بى التاكسى وصديقتى السورية «روعة الشاهد» كانت المرة الأولى لكلتينا هناك، لم نكن نعرف شيئًا بها مطلقًا، كنا عائدتين توًا من سيدى بوسعيد، البقعة الزرقاء الساحرة، كان يومًا مشمسًا رغم كوننا فى الشتاء، جُلْنَا مليًا بالمدينة، ومررنا بمنزل بن على الهارب، والتقطنا الصور التذكارية مع البحيرة، وأنهينا الجولة بسيدى بوسعيد، زهور ومياه وبيوت أثرية، وتذكارات عديدة من الفخار والصدف والجلود
وفى موضع آخر نراها تستمرئ جغرافيا الأمكنة فى ضاحية مصر الجديدة، فتقول:
سأحكى لك، كنتُ فى طريقى إليك، وهل أخرج من بيتى إلا لذلك؟! كل طريق أسلكه طريق إليك، مصر الجديدة، التى لم تعُد كذلك، من نافذة التاكسى أتنفس عبيرك، أتنهد بقوة وأبتسم، خرجت دون وجهة محددة، فقط فكرت بمصر الجديدة، من منشية الطيران للخليفة المأمون إلى الميرغنى، أبحث عن شجرتى ذات الزهور الصفراء فى أول الشارع، أحييها بنظرة وبسمة من بعيد.
فى القسم الثانى من الرواية «ظل رجل» سوف يخرج الحبيب «ميمى» من غيمته فجأة، متخليًا عن حضوره المجرد، لنكتشف أنه المطرب الشهير الراحل محمد فوزى، الرجل الذى سوف تتمدد الرواية كلها فى ظله فيما بعد، بوصفه علامة على الزمن الجميل، أو الفردوس المفقود.
وكما قال لنا كافكا عبارته الخطيرة التى أشرنا إليها آنفًا، والتى جعلت من الكتابة إلى آخر على البعد فعل انفصال لا اتصال، فإن إنجى همام تصدّر لنا روايتها بفقرة تعزز المعنى ذاته، منسوبة إلى هيرمان هيسه تقول: إن العزلة تعنى الحرية، ولقد كانت كل ما أتمناه، وبمرور الأعوام حصلتُ عليها، ولكنها كانت قاسية، فاترة وقاسية، ولكن مع ذلك، ما زلتُ أراها رائعة وفسيحة مثل سكون الفضاء الذى تدور به النجوم.
نحن إذن أمام رسائل ذاتية، لم تُرسل فى حقيقة الأمر إلى آخر، بل- على الأرجح- أرسلتها الذات الساردة إلى نفسها، كتجسيد للعزلة القاسية، من ثم فإن محمد وليلى ونهاوند سوف يبدون كثلاث صور أو تمثيلات لتلك الذات الأنثوية، التى تفتش عن هويتها المطموسة، وتجعل من الذاكرة وخيالها الجامح فعل مقاومة من الدرجة الأولى، ربما يعزز ذلك اعتراف دامغ لتلك الذات يجىء فى صفحة ٦٩ على النحو التالى:
هل تعرف لماذا اخترت ذلك الاسم تحديدًا لأخاطبك به دون كل أسماء الدلال التى أناديك بها بينى وبين حالى؟ «مى» التى تعنى بالإنجليزية أنا، نصف الاسم، فكأنما أناديك أنا مرتين، يا مى... مى، يا أنا أنا، يا كل كلى يا كل شىء وكل روح وكل نعمة.
إن الرسائل فى هذه الرواية بصوتها الأحادى، صوت الأنا الأنثى، تبدو وكأنها ذريعةٌ لممارسة البوح الفادح، والإفصاح عن التجارب العاطفية والنفسية، بحسبان ذلك البوح نوعًا من التحرر، واستعادة الحق فى الكلام، أو بحسبانه جهازًا تعويضيًا، يسعى إلى الالتفاف حول الإعاقات النفسية، التى يصطنعها مجتمع ذكورى كمجتمعنا حول المرأة، وكل ذلك عبر لغة سردية، تمتص رحيق الشعر عن آخره، ربما ذلك ما يجعلها تقول فى صفحة ٨١:
بالشعر أيضًا واصلتُ مهمتى المقدسة، الفرار، مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة، بارك الله فى الخيال، ذلك الكنز لعبور الأوقات العسيرة.
على أن هذا الجهاز التعويضى، الذى أشرنا إليه، بدا قاصرًا عن مجابهة بعض الإعاقات، ثمة غياب واضح للجسد فى هذه الرواية الأنثوية، ربما يكون الجسد قد لاح على استحياء فى فقرة عابرة، على هيئة كتف موشومة بسرب عصافير، أو فى فقرة أخرى حملت دفاعًا واهيًا، ومن بعيد، عن الجسد الأنثوى لراقصات شهيرات، مثل تحية كاريوكا وسامية جمال وزينات علوى وكيتى وغيرهِن، أو باستعراض فقرة من كتاب «نساء حسن سليمان» لعبلة الروينى، لكن فى الأخير، بقى الجسد داخل هذه الرواية تابوهًا مستعصيًا على التفكيك.
على هذا النحو، نحن أمام أكداس من تفاصيل ما بعد حداثية بامتياز، ولكن يقف خلفها أفق رومانتيكى حالم، فيه نسغ من حنين إلى الماضى، باعتبار- ذلك الماضى- معيارًا للجمال، ما يجعل تلك الاشتباكات المحمومة بالحياة، التى تزخر بها الرواية، ضربًا من الهروب إلى الأمام، أو كأنها لعبة الاستغراق فى التفاصيل، التى تناسب أولئك الهاربين من الحقائق، ففى صفحة ٨٣ نقرأ ما يقترب من هذا المعنى:
لا تبحث عن سر عداء العالم لك، لن تصل إلى شىء، تجاهله... بل تجاهلهما معًا، الثأر والعالم، وابدأ فى ممارسة لعبة صغيرة، لعبة قديمة، لعبة تافهة، لا يعرف قيمتها أحد غيرك، سيضحكون، لا تبال، سيسألون: ما الذى يفعله ذلك الأجدب؟! ماذا يريد؟ وإلى أى شىء يطمح؟! لا تلتفت، ركز كل قواك العقلية والنفسية وأيضًا الجسدية مع لعبتك، لعبتك التى تمتعك وحدك، التى لا يعرف أحد أن يلعبها غيرك
تلعب الأفلام السينمائية على مدى النص دورًا بارزًا فى تأجيج الخيال الروائى وتوسعته، كحكايات مكملة، ذات باطن فلسفى يعمق المعنى، غير أن الحضور الأكثر عمقًا وتأثيرًا فى هذه الرواية- برأينا- سيبقى للحلم، أجل.. إنها أحلام يقظة لامرأة تعانى العزلة، وسط ضجيج عالم لا يخصها ولا يسمعها، فحين تقبّل حبيبها، سوف تقع شفتاها على لوح زجاجى أو قطعة خشب، أحلام اليقظة ستصبح العالم البديل، الذى تجعل الكاتبة منه فى أحد المواضع صنوًا للعمر، بل وتعبّر عن ذلك المعنى بوضوح فى صفحة ٧٤ حين تقول:
أتعرف يا محمد، الكتابة بالنسبة إلىّ ليست حياة متخيلة، بل هى الحياة الحقيقية الوحيدة التى عشتها، أو عشتُ فيها بمعنى أدق.
لعل ذلك ما جعلنا نتصوّر أن ثم عنوانًا آخر لهذه الرواية يتوارى خلف عنوانها المعلن، هذا العنوان هو «أحلام الظهيرة»، إنه- على ما يبدو- العنوان الأصلى، لولا أن إنجى همام جنحت إلى المخاتلة.
فى إحدى رسائل «وجد» إلى «محمد»، تحكى له عن روايتها الجديدة قائلة:
لم أنجز شيئًا يذكر فى النوفيلا الجديدة، بضعة آلاف من الكلمات التى لا أعرف هل سأبقى عليها أو لا، فقط أعطيتها إهداءً، أهديتها للخوف.
من جانبى سأقول أنا أيضًا: بضع مئات من الكلمات كتبتها فى هذه القراءة، أهديها إلى الخوف، الخوف من الإمعان فى إساءة القراءة.