د. أحمد لاشين يكتب: وحى التكية.. أسرار الأشعار الفارسية فى ملحمة الحرافيش
- أدرك محفوظ قيمة حافظ الشيرازى ليست فقط الأدبية والصوفية ولكن الشعبية أيضًا
«فقال له قلبه لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».. ملحمة الحرافيش.
كان اطلاعى الأول على ملحمة الحرافيش فى المرحلة الإعدادية تقريبًا، بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهناك دخلت عوالم لا تنتهى من الأساطير، حيث يتحكم الغيب بالواقع، ليمنحه سحره وجلاله. تورطت فى الحرافيش ودنياهم، وأصبح إبداع محفوظ رفيق رحلتى فى الوعى والإدراك، فكلما أيقنت فى أى مرحلة من حياتى أنى أحتاج إلى قراءة كتابات محفوظ مرة ثانية، أدركت أنى ازددت نضجًا.
شغلنى فى ملحمة الحرافيش آنذاك، تلك الأبيات العربية الخط، أعجمية اللغة، التى لا أكاد أفهم منها شيئًا، رموز غيبية تخرج من «تكية الصوفية» التى تسكن أذهان الحرافيش قبل أن يسكنوا إلى جوارها. وحينما شاء قدرى أن أتخصص فى اللغة الفارسية، علمت أن ما كان غيبًا بالنسبة لى، أصبح الآن له مفتاح لفهمه وإدراكه، وأتذكر جيدًا أنه لدى معرفتى أن نجيب محفوظ قد استخدم أبياتًا فارسية للشاعر الإيرانى الأشهر حافظ الشيرازى، قررت إعادة قراءة الحرافيش مرة ثانية.
الأشعار الفارسية، منحت نص محفوظ رمزية الحرافيش، فدونها قد تنهار فكرة الرواية كاملة، خاصة ونحن أمام أشعار حافظ الشيرازى، أشهر شعراء الفرس فى القرن الثامن الهجرى، وأكثرهم تأثيرًا إلى الآن، فلا يوجد بيت فى إيران يخلو من ديوان حافظ، فأشعاره بالنسبة لهم هى مفتاح الغيب، ومعرفة الحظ، ويطلقون عليها «فأل حافظ»، ولكل غزلية أو قصيدة لحافظ تأويل وتفسير شعبى، لمعرفة حظ صاحبه أو مستقبله. ففى أسواق إيران، وعلى مقاهيها، لا بد أن يمر حاملو «فأل حافظ»، وهو عبارة عن صندوق خشبى أو زجاجى، يحوى مجموعة من الأظرف وداخلها قصيدة لحافظ مع تأويلها الرمزى، وعليك أن تختار منها لتعرف «بختك»، وحتى يبدو الأمر قدريًا للنهاية، يعلو هذا الصندوق ببغاء أو حيوان مدرب، كل ما عليك أن توشوش الطائر فى أذنه بأمنيتك، وهو سوف يتحرك ليلتقط لك ظرفًا مغلقًا، لتفتحه وتقرأ غزلية حافظ الشيرازى، وتعرف مستقبل أيامك الباهرة، أو حظك العاثر فى الحياة. حافظ الشيرازى مرتبط دائمًا بعالم الغيب ورموزه، وهنا مكمن الفكرة.
ما سنحاول رصده فى هذا المقال، ليس التأويل الصوفى لأشعار حافظ الشيرازى وربطها بحالة التكية والحرافيش كما هو معتاد مع شعر الشيرازى، فهذا الأسلوب يُغلق النص على التأويل، ولا يمنح مساحة من الحرية فى فهم عمق الهدف من الحرافيش، ولكن سنحاول أن نُعمق مساحات الرمز فى النص، باستخدام الرمز الشعبى للغزليات، والتى سنجدها متطابقة وبشكل كبير على أحداث الرواية، فمحفوظ لم يطلع فقط على ترجمة الغزليات التى طُبعت عام ١٩٤٤، بترجمة الدكتور محمد أمين الشواربى، وإنما من المؤكد أنه اطلع على «فأل حافظ» بترجمة عربية أو إنجليزية، وقرر أن يستخدم سحر الغيب الذى تمتلكه أشعار الشيرازى، ليمزجها بشخصيات الرواية ومقاصدهم، والمطبوعة سنة ١٩٧٧م، خاصة أنه أورد النصوص باللغة الفارسية، ما يعنى أنه درسها دراسة وافية وعميقة، كما امتنع عن ترجمتها أو تبيان أسرارها حتى وفاته.
عاشور الناجى ورحلة الخلود
عاشور هو بداية المأساة ونهايتها، حضوره الطاغى على الرواية منحه خلودًا سرمديًا لا ينتهى، فهو اللقيط القادم من العدم، وإليه يعود، محور الملحمة وقصتها الدائرية. وأتت أبيات حافظ الشيرازى وكأنها نبوءة البطل التى تتحققها الأحداث، فيرد فى الحكاية الأولى البيت التالى:
ای فروغِ ماهِ حُسن، از روی رخشان شما... آبِروی خوبی از چاه زَنَخدان شما
ترجمته: «ضياء وجهك هو أصل نور الحسن... وطابع حسنك هو أصل ماء الجمال».
المعنى فى ظاهره لا يبين أصل الرمز، حتى فى تأويله الصوفى، ولكن إن عدنا إلى التأويل الشعبى للبيت «كما ورد فى فأل حافظ»، فسنجد أنه ورد فى الغزلية رقم ١٢ من ديوان الشيرازى، ونلاحظ أنها تدور حول فكرة «أن الحزن مسيطر عليك، ويوجد لديك عدو يسعى لإيذائك، فلا تحاول التفكير فيه، ولديك فى الحياة الكثيرون يحاولون مساعدتك، وابتعد عن فتن الدنيا ومالها فهى أصل كل بلاء».. وبالعودة إلى الرواية سنجد ذلك البيت قد ورد، وقت طرد عاشور من بيت «الشيخ عفرة زيدان» الذى رباه، بواسطة درويش شقيق الشيخ، والذى جسد فكرة الشر فى الحكاية الأولى، بعد محاولة إغرائه أن يستخدم قوته فى أفعال القوادة والشر، وعندما يرفض عاشور يطرده، فيخرج وهو حزين ليجلس على سور التكية، ليسمع ذلك البيت، وهاتفًا يأتيه يخبره بأن له فى الدنيا أصدقاء كثيرين، وأنه ليس وحيدًا... نلاحظ مدى التطابق بين التأويل الشعبى واستخدام محفوظ لنفس الغزلية، وكأن التكية تحمل أسرار الغيب وتفصح عنه بقدر بسيط، حتى عاشور لم يفقه تسبيحها، ولكنه حقق النبوءة.
وفى مرحلة أخرى من حياة عاشور، يورد محفوظ هذه الشطرة من البيت:
ز گریه مردم چشمم نشسته در خون است
وترجمته: «عيناى غارقة فى الدماء من كثرة البكاء»
هذا البيت من الغزلية رقم ٥٤، وإذا فتحت «فأل حافظ» وستجد تأويلها الشعبى، ينحصر فى التالى: «يبدو أنك قد ارتكبت ذنبًا كبيرًا خلال الأيام الماضية، ولكن لا تيأس، فالأيام المقبلة ستكون لك فيها خير عظيم، وستشرق شمسك من جديد، حتى وإن قابلت الشيطان ذاته».
وبالعودة إلى أحداث الرواية، سنجد أن هذا البيت تم ذكره، لحظة محاسبة عاشور لنفسه أمام التكية، نتيجة لسكوته عن الدفاع عن المظلوم أمام سطوة الفتوات، وعنفه الشديد مع زوجته الأولى وأبنائه، وبيعه لمصوغات زوجته حتى يشترى العربية «الكارو»، وفى تلك اللحظة بالذات يظهر له درويش، بعد غياب طويل فى السجن، ليأتى له من بين المقابر، ويأخذ منه بعض الأموال، ليبدأ فصل جديد من الملحمة فى صراع الإنسان والشيطان. وفى عمق تلك المأساة تبدأ حياة مختلفة لعاشور بعد أن تعرف على «فلة» زوجته الثانية وبدايته الجديدة بعد «الشوطة» التى غيرت الواقع فى الحارة لصالحه. هكذا نزداد يقينًا أن محفوظ قد تعامل مع المدلول الشعبى للغزليات، وليس فقط معناها المباشر أو رمزيتها الصوفية، وما يلى سيؤكد ما نذهب إليه.
ففى أثناء خروج عاشور وزوجته فلة وابنه شمس من الحارة، بعد أن لبى هاتفًا جاءه فى المنام، ليهرب من «شوطة» الكوليرا، التى تلتهم الجميع بلا هوادة، يمر على أبواب التكية ليسمع تراتيل تتهادى إلى أذنه تؤنس وحشته وخوفه، قائلة:
جز آستان تو ام در جهان پناهی نیست... سرِ مرا به جز این در، حواله گاهی نیست
وترجمتها: «لا ملجأ لى فى الدنيا إلا أعتابك... ولا راحة لرأسى إلا فى هذه الساحة
الدلالة الصوفية للبيت واضحة ومتسقة للغاية مع مشهد التكية ورحيل عاشور، فلا راحة له فى الحياة إلا على أعتاب التكية وفى ساحتها، أو فى عمق الفكرة، الوصول إلى العشق الإلهى والونس بالحضور فى معية الله. ولكن إذا تواصلنا مع التأويل الشعبى للغزلية رقم ٧٦ فى «فأل حافظ» فسينفتح أمامنا غيب النص وتفسيره، فيُقال: «أنت إنسان نقى القلب غير مبال بالعالم من حولك، أنت الناجى بنفسك من الدنيا، ستعيش وحيدًا لفترة بعيدًا عن العالم، ولكن قلبك مفعم بالإيمان، كل ما عليك هو أن تخطو خطوة واحدة خارج الجدار المفروض عليك، لتحقق حياة جديدة».
الأخطر فى القضية أن أحداث الرواية تحمل نفس المعنى، فقد خرج عاشور إلى الصحراء خارج أسوار الحارة، لينجو مع أسرته الجديدة، ويبدأ قدره الأكبر فى التحقق، وحينما وصلت زوجته إلى الصحراء، قالت مندهشة: لا يوجد أحد هنا!!، فكان رد عاشور: الله موجود.. فقد اختار الوحدة لكن بقلب مؤمن. فأشعار التكية هى تلخيص لمصير البطل إلى نهايته. فيكفى أن نقرأ الأشعار المنتقاه بعناية شديدة فى نص الحرافيش، لندرك رحلة عاشور الناجى وقدره، وكأننا كنا حاضرين معه أمام التكية المفتوحة على عوالم الغيب.
حافظ الشيرازى يكشف ضعف شمس الدين الناجى
شمس الدين عاشور الناجى، الذى تورط فى الفتونة بعد اختفاء أبيه، لعنته الوحيدة ونقطة ضعفه هى أمه «فلة» أرملة عاشور، التى تزوجها عاملة فى خمارة درويش زيدان، لتظل لعنتها تطارد ابنها مدى الحياة، الذى أحبها وأنكر عنها كل تاريخ ملوث، رغم تجرؤ بعضهم على سيرتها فى غياب شمس الدين وأمامه فى نهاية عهده وضعفه، فهو ليس مثل أبيه قوى للأبد، لكنه إنسان عادى يعانى ما يعانى من ضعف وغروب.
فى مشاهد نهاية شمس الدين، يورد نجيب محفوظ بيتًا من غزلية كاشفة لعمق مأساة وريث عاشور الناجى، واصفة لحاله بعدما أن تجاوز ولده «سليمان» سلطة شمس، بمعاونة بعض مساعدى والده الفتوة، وقرر دخول معركة مع أحد الفتوات حارة مجاورة، دون إذن أبيه، الذى فقد هيبته وسلطته أمام أهل الحارة، بسب السن والضعف وفقدانه «فلة» أمه. ورغم ذلك يدخل المعركة وينتصر ويثبت قوته، ليموت أمام بيته وهو يرى الناجى فى لحظة بين الخيال والواقع، يأتى ليأخذه معه. يقول البيت:
صلاح کار کجا ومن خراب کجا... ببین تفاوت ره کز کجاست تا به کجا
وترجمته: أين صلاح العمل من خراب نفسى... فلترى اختلاف الطريق أين كنت وإلى أين وصلت؟
هذا البيت سمعه شمس قبل المعركة مباشرة أثناء جلوسه أمام التكية، ينتظر من ساكنيها إجابة شافية عن مصير الناجى الكبير، وإذا عدنا إلى تأويل الغزلية فى فأل حافظ، فسنرى عمق تأثر محفوظ بالفكرة، فتأويل الغزلية يقول: «إنك صاحب قلب طيب، ولكنك تعانى من نفاق من حولك، فهناك من يحاول عرقلة حياتك بالقوة، كان عليك اختيار من حولك جيدًا، وأنت معذب ببُعد من تحبهم عنك، وتشتاق إليهم، لا تقلق، فلقاء أحبتك سيكون قريبًا»
فقد اختار محفوظ البيت الذى تعبر غزليته عن نبوءة شمس وتصف حاله فى رمزية مدهشة، فالمحفوظ قد وظف بعناية التأويل الشعبى لأشعار حافظ، لينسج بها سيرته الشعبية الخاصة فى ملحمة الحرافيش، فالسياق الشعبى والأسطورى هو الحاكم للحرافيش رغم واقعية الملمس التى نشعر بها أثناء الرواية.
سماحة الناجى ألم الفراق وحلم العودة
سماحة هو رمز الألم فى الحرافيش، فقد تحمل لعنة الحب وفقدان من يحب، وخاض أغلب صراعاته داخل نفسه، فقد ظل هاربًا ومطاردًا طوال حكايته فى الملحمة، لا يملك سوى الأمل فى العودة واستعادة عرش الناجى بعد اتهامه بالقتل. وقد أورد محفوظ أكثر من بيت لحافظ الشيرازى أثناء السرد، ولكننا سنكتفى بنموذج واحد أكثر حضورًا وتعبيرًا عن الفكرة.
فأثناء رحيل سماحة الأخير، الذى لن يعقبه عودة، وقف أمام التكية وهو فى حالة حسرة وألم، كيف انتهى به الحال إلى ما وصل إليه، وكم حلم أن يقف أمام التكية فاتحًا منتصرًا، بعد أن يستعيد فتونة الناجى وأولاده. وينتهى المشهد بصوت يعلو من التكية، وتتصاعد الأناشيد القدرية لهذا البيت:
درد ما را نیست درمان الغیاث... هجر ما را نیست پایان الغیاث
ترجمته: «ألمنا ليس له دواء يا غياث (الله)... وهجرنا ليس له نهاية يا غياث.
وبالتأويل الشعبى للغزلية رقم ٩٦، يرد الآتى: «لقد عانيت الكثير من المشاكل والأزمات، لدرجة زادتك ألمًا وضيقًا، وأصبح لا أحد قادرًا على إنقاذك، المعاناة جزء من حياتك، لكن لا تحزن، فلكل مشكلة حل، والله قادر على حل كل المشاكل، وكما قيل كل أمر عدا الموت له علاج»... وكأن الغزلية تختزل حياة سماحة الناجى، ويرصدها محفوظ لتمتزج بنص الحرافيش، بحيث يصعب الفصل بين النص العربى والأعجمى، وكأنهم أبناء لحظة واحدة فى الملحمة.
حافظ الشيزارى وعاشور الناجى فى التكية
تأتى الحكاية العاشرة فى الحرافيش، لتدخلنا عالم الغيب من بابه الملكى الأخير، التكية، فبطل الحكاية هو عاشور، حفيد عاشور الناجى، يمتلك قوة جده وعدله، يبدو أكثر مثالية، خال من الصراعات الوجودية التى عاشها عاشور الجد، هدفه واضح ومعاناته أيضًا واضحة، شديد الارتباط بصورة جده، ويترقب تجليه له ذات ليله أمام التكية.
يستخدم محفوظ فى هذا الفصل من الملحمة، ثلاثة أبيات من غزليات حافظ، سنرصد منها اثنين فقط، أولها ما سمعه عاشور الحفيد أمام التكية، لحظة انكساره بعد أن صفع حسونة الفتوة الظالم أمه وأهانها أمام الجميع، وفى قمة ألمه يخاطب جده قائلًا: «ما أشد ألمى يا جدى!!»، فترد عليه أناشيد التكية:
بی مهر رخت روز مرا نور نماندست... وز عمر مرا جز شب دیجور نماندست
وترجمته: لم يتبق ليومى «حياتى» نور إلا بشمس وجهك... ولم يتبق من عمرى إلا ليل شديد الظلمة
غزلية رقم ٣٨، من ديوان حافظ، يدور المعنى الشعبى المرتبط بتلك الغزلية بالتالى: «أنت تفتقد شخصًا تحبه بشدة، وحياتك مرتبطة بوجوده، ليس لك دواء إلا الصبر، فقد ينفتح لك باب الرحمة يومًا، فلا تخف، ولا تحزن».
المعنى مكتمل فى ذاته بمجرد قراءة التأويل الشعبى للغزلية، فعاشور يعانى فقدان جده، والمرتبط فى عمق مأساته بالإهانة التى وُجهت له، وطموحه الذى يعذبه يوميًا أمام صورة جده الناجى، فأتت الأبيات لتعبر عن نبوءة خفية لعاشور الحفيد الذى سوف تنفتح له أبواب جده، ليقدم له المدد والعون، وهذا ما سنجده فى نهاية الملحمة بعد انتصار عاشور الثانى، وتمكنه من استعادة تاريخ جده، وكأننا أمام حكاية دائرية تحمل ملحمة الإنسان من البداية إلى بداية جديدة.
وفى نهاية الملحمة، حينما يرى عاشور فى المنام، أحد دراويش التكية، يفتح بابها ليبشره بخروج الشيخ الأكبر من خلوته ليملأ الحارة بنوره، ويتركنا محفوظ لا ندرك هل يقصد عودة عاشور الناجى بمعجزة تليق بحياته، أم للشيخ الأكبر رموز أخرى، ولكن تلك الفكرة تماثل فكرة البيت الشعرى السابق الذى نبأ فيه حافظ الشيرازى بأبواب الرحمة التى ستفتح قريبًا. فقال فى البيت الأخير:
دوش وقت سحر از غصه نجاتم دادند... واندر آن ظلمت شب آب حياتم دادند
أنقذنى من حزنى فى وقت السحر... وفى ظلام الليل منحنى ماء الحياة.
يختتم محفوظ ملحمته بتأويل الغزلية التى تحوى هذا البيت، والذى يقول: «بعد معاناة عظيمة، حققت إنجازات كبيرة تليق بمأساتك، ستُكافأ على تعبك بحياة جميلة، وسترى منها وجهها الطيب بقية حياتك».
هنا وحد محفوظ فى نهاية ملحمته بين حافظ الشيرازى ورمزيته، ومصير أبطاله فى الملحمة، فداخل التكية يتجلى الشيرازى، ليُطلع الناجى على أسرار ومفاتيج الغيب، ليس له فقط ولكن لسلساله من بعده، فعاشور الحفيد هو محقق أحلام أسرة الناجى مجتمعه، وحامل لمعاناتهم أجمعين، وعلى يده استعادت حياة العدل والإنسانية وجودها، فيحق له أن تُبشره القصيدة بحياة أجمل بعد رحلة قاسية تلخص مصير الإنسان.
فالأمر يتعدى مجرد ثقافة شعبية توارثتها الأجيال فى بلاد فارس، فحافظ الشيرازى قد تجاوز حدود الواقع فى إيران منذ قرون، وأصبح ملازمًا لكل الأعياد والطقوس والحياة اليومية، على اختلاف الديانات والمذاهب، فزيارة ضريح حافظ الشيرازى تعادل فى جزائها زيارة أضرحة الأولياء فى الثقافة الشعبية، وغزلياته هى المحرك للحياة اليومية، فهى مفتاح الغيب وولى من أولياء الله العارفين.
وقد أدرك محفوظ قيمة حافظ الشيرازى، ليست فقط الأدبية والصوفية، ولكن الشعبية أيضًا، ولا ننسى أن «التكايا» فى مصر المحروسة كانت تحتوى الفرس والأتراك، ولا توجد تكية فى مصر إلا وعليها أشعار فارسية أو تركية، وأغلبها الفارسية من أشعار الشيرازى أو فريد الدين العطار أو مولانا جلال الدين الرومى، وغيرهم من رموز التصوف ذوى الحضور الشعبى، وقد عايش محفوظ فكرة التكايا وخبرها، فعنصر التكية فرض عين على كتابات نجيب محفوظ، والأهم أنه قد استخدم كذلك أشعار الشيرازى فى عمل آخر وهو «حكايات حارتنا» ولكن بشكل أكثر كثافة، كما استخدم التيمات الأدبية الفارسية وهو يكتب «ليالى ألف ليلة»، فقد اعتمد على النسخة الفارسية من «ألف ليلة وليلة»، التى قد تختلف نسبيًا عن النسخة العربية الذائعة الصيت. عبقرية محفوظ تكمن فى تنوع ثقافته وقدرته على تقديم عوالم مختلفة فى سياق روائى واحد، بشكل يستحيل الفصل بينها، فعالم نجيب محفوظ يحتاج منا دائمًا إلى مزيد من الوعى والإدراك.