إبراء ذمة وطنية.. كيف وقعت مصر فى شبكة التطرف؟

- على مدار أكثر من عشرين شهرًا قبل اغتيال السادات تعرض خلالها الشعب المصرى لموجة زاعقة من التعبئة الدينية بمشاركة رسمية من جميع مؤسسات الدولة تقريبًا
- أصبحت الجماعة الإسلامية فى بعض محافظات الصعيد هى البديل لوزارة الأوقاف واستولت على مساجد كثيرة
- أى حديث عن دور لمؤسسات الدولة فى مواجهة الفكر المتطرف فى العقود الماضية فى قرى ومدن وجامعات مصر هو حديثٌ ممجوجٌ ومخادع
- استمرت حركة نشر الفكر الدينى المتطرف أو المتعصبأو السلفى المتشدد بمصر فى عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الجديد
النخب بكل تنوعاتها- سياسية وثقافية وإعلامية- التى لا تقرأ تاريخ بلادها القريب جدًا قراءة جيدة تقترف خطايا كبرى فى حق أوطانها. وتكرار الخطايا الكبرى فى فترة قصيرة قد يصنع حالة مرضية مزمنة لن تقبل علاجًا بعدها. هناك ثلاثة عقود حاسمة مفصلية فى صياغة العقل والوعى المصرى الجمعى تلك الصياغة التى أسفرت عن نفسها فى مشاهد ما بعد تنحى مبارك، وتحديدًا فى الدفع بجماعة الإخوان لحكم مصر. هذه العقود بدأت إرهاصاتها بعد نصر أكتوبر المجيد، لكنها بدأت رسميًا وبقوة نهاية عام 1979م. أى قراءة تجنح إلى توصيف أزمة مصر أو حصرها فى مواجهة جماعة دينية متطرفة أو إرهابية بعينها هى قراءة مبتسرة سوف تؤدى إلى نتائج كارثية. عما حدث فى هذه العقود فى مصر، وعن وجوب إعادة قراءتها الآن قراءة تفصيلية عميقة سيكون حديثى هذا، والذى أهدف من ورائه إلى إبراء الذمة الوطنية كشاهد عيان. أبناء جيلى ومن هم فى مثل عمرى لن تمتد بهم الحياة لكى يشهدوا حال مصر بعد عقد أو أكثر، لكننى أقتدى بما نُسب للرسول «ص» من حديث «إن قامت على أحدكم القيامة وفى يده فسلة- النخلة الصغيرة- فليغرسها»!
أسرار العقود الثلاثة الأخطر فكريًا وعقليًا فى تاريخنا المعاصر
1
كانت الإرهاصات كما نعرفها هى رؤية وافقت عليها الإدارة المصرية وقتها بالاستعانة بطلاب وأعضاء الجماعات الإسلامية فى مواجهة مشاغبات التيارات الشيوعية فى الجامعات المصرية، ولن أخوض كثيرًا فى هذا. لكننى أبدأ من البداية القوية الرسمية المعلنة فى نهاية عام ١٩٧٩م حين غزا الاتحاد السوفيتى أفغانستان. تتفق المصادر المنشورة تقريبًا- كتب مثل النوم مع الشيطان، وتصريحات سياسية رفيعة المستوى من دول متشابكة فيما حدث، ودراسات منشورة متاحة للجميع- على حقيقة واحدة، وهى أن هناك ثلاث دول «دولتين عربيتين ودولة مسلمة» قد وافقت على التحالف مع الولايات المتحدة لمواجهة الغزو السوفيتى. وكانت مصر إحدى هذه الدول. وأن الذى قام بالتنسيق بين تلك الدول هو «بريجنسكى» مستشار الرئيس الأمريكى وقتها للأمن القومى. وتم الاتفاق على أن تقوم جماعة الإخوان والأزهر فى مصر بالتعبئة الدينية بين المصريين ضد هذا الغزو. فى ٣٠ ديسمبر نشرت «الأهرام» فتوى مفتى الجمهورية وقتها الشيخ جاد الحق على جاد الحق بدعوة مسلمى العالم لمساندة الثوار الأفغان. فى الجامعات المصرية تولى طلاب الجماعة مهمة تعبئة باقى الطلاب دينيًا بإقامة الندوات والمؤتمرات وحملات جمع الأموال والتبرع بالدم. أمر مرشدُ الجماعة وقتها حامد أبوالنصر القيادى الإخوانى كمال الهلباوى بالتنقل بين أفغانستان وباكستان لمتابعة تنفيذ أوامر الجماعة، وذلك لمدة ست سنوات. وقامت لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء بقيادة عبدالمنعم أبوالفتوح بتسفير عدد كبير من أطباء مصر إلى أفغانستان، كما تولت جمع مبالغ ضخمة للمساهمة فى تدريب المقاتلين وتزويدهم بالأدوية والسلع الغذائية. وعرض كتاب «النوم مع الشيطان» بالتفصيل كيف استخدمت الولايات المتحدة جماعة الإخوان. وفى الدولة العربية الثانية صدر أكثر من ٣٠٠ فتوى من رجال دين كبار رسميين اتفق جميعها على فرضية الجهاد بالمال والنفس فى أفغانستان. وحسب تقديرات بعض المصادر فإن مصر- بالاشتراك مع تلك الدولة- قامت بنقل حوالى ٣٥ ألف مقاتل من أكثر من أربعين دولة إلى أفغانستان كانت أعدادٌ كبيرة منهم من المصريين.

كان الموقف المصرى الرسمى قويًا جدًا ضد الغزو، وكانت مصر إحدى الدول الفاعلة دبلوماسيًا ضد الغزو، كما أمدت مصر المقاومين بالسلاح بشكل رسمى معلن، وقامت بتدريبهم عسكريًا أيضًا بشكلٍ معلن. وفى يناير ١٩٨٠ صرح وزير الإعلام وقتها منصور حسن بأن المكتب السياسى للحزب الوطنى أوصى بتدريب الأفغان. كانت رؤية مصر الرسمية وقتها أن الاتحاد السوفيتى يريد تطويق مصر والدول العربية وأنهم يجب أن يتحدوا لمقاومة السوفييت. تقدم على إثر ذلك آلاف المصريين بطلبات تطوع للقتال فى أفغانستان. الموقف الرسمى المصرى كانت له وجاهته وهى أن مصر قامت ببيع بعض مخزونها من الأسلحة السوفيتية القديمة للولايات المتحدة لكى يستخدمها المقاتلون فى أفغانستان، أى أن الولايات المتحدة كانت تقوم بدفع ثمن هذه الأسلحة وأيضًا تقوم بمد مصر بأسلحة أمريكية أحدث، وقامت مصر وقتها ببيع أسلحة مصرية الصنع. رغم أن الولايات المتحدة كانت تريد أن يتم تنفيذ كل ذلك بشكل سرى، إلا أن مصر كان موقفها معلنًا، ولقد صُدم الأمريكيون مما قاله السادات فى مقابلة تليفزيونية ٢٢سبتمبر ١٩٨١م «أن الولايات المتحدة تشترى أسلحة سوفيتية من مصر سرًا وترسلها إلى الثوار الذين يقاتلون السوفييت فى أفغانستان». تصريح السادات وقتها يمكن أن يكون الأول على هذا المستوى القيادى الذى كشف بشكل رسمى عن دور مصر فى حرب أفغانستان وهو يسبق قطعًا كل التصريحات التى صدرت فى آخر عامين من شخصيات عربية رفيعة المستوى.
فى يناير 1980م أدان مجلس الشعب الغزو السوفيتى لأفغانستان واعتبره عدوانًا على الأمة الإسلامية
2
لا أكتب هذا المقال لتقييم الموقف الرسمى المصرى فى شأنٍ من شئون السياسة الدولية؛ لأننى لستُ مؤهلًا لذلك، لكننى عرضت هذه التفاصيل المنشورة فى مصادر كثيرة لفهم المشهد. أنا معنىٌ بشىءٍ آخر وهو كيف تمت تعبئة الشارع المصرى وقتها، وما ترتب على ذلك بعدها وطوال تلك العقود الثلاثة موضوع حديثى. فى إحدى جلسات مجلس النواب المصرى فى يناير ١٩٨٠م أدان المجلسُ الغزو السوفيتى واعتبره عدوانًا على الأمة الإسلامية وأيد قرارات الدولة المصرية. ثم فى كلمة النائب حافظ بدوى، رئيس إحدى اللجان بالمجلس شرح رؤية الأعضاء للقضية قائلًا: «لقد عشنا حياتنا نعرف عن أفغانستان أنها من أعز بلاد المسلمين جاء منها الإمام البخارى والترمذى والبيرونى والفارابى وابن سينا وجمال الدين الأفغانى.. وإن العدوان على أفغانستان هو عدوان على عقيدتنا وأمتنا الإسلامية، وإن الشيوعية تسعى إلى تقطيع روابط الدول الإسلامية».

وعبّر نائبٌ آخر عن أن الشعب الأفغانى وقف بجوار الشعب المصرى بعد عدوان ٥٦م وأن أول مبلغ تبرع وصل لمصر لتعمير بورسعيد كان ربع مليون دولار من شعب أفغانستان، وأن الشعب الأفغانى ساند قضايا التحرر لدول عربية مثل الجزائر. ثم وصل العضو محمد على محجوب إلى السقف الأعلى من تديين القضية قائلًا: «يخطئ من يظن أن أفغانستان هى المعتدى عليها، ولكن المعتدى عليه هو أديان الله وشرائع السماء. دين الله يُحارب وحيثما يُعتدى على دين الله فمن هنا يكون الخطر. ومن هنا تكون الكارثة أن الإسلام فى محنة وكذلك المسيحية، فالمد الشيوعى هدفه تحطيم الأديان، فأول مبادئه أن الأديان أفيون الشعوب». وأكمل العضو صلاح أبو إسماعيل قائلًا: «غير المسلمين اتفقوا على إبادتنا عبر التاريخ وأن الأديان السماوية لا تعرف الفيتو، ورغم ما نعانيه من قصور فى الإمكانات فإننا مع ذلك مطالبون بمساندة إخواننا»، ودعا عضو آخر إلى «التبرع بالمال وفتح باب التطوع للجهاد الشعبى المقدس ضد من يحاربون الله».وتحدث العضو ألبرت برسوم قائلًا: «لقد اجتمعت كلمتنا أقلية وأغلبية على موقف واحد إزاء هذا الاعتداء وإن المسيحية واليهودية والإسلام تشجب هذا الموقف الهمجى».
3
كان بالقطع للمؤسسات الدينية ولرجال الدين نصيب الأسد فى تلك التعبئة.. فى يناير ١٩٨٠ اجتمع المجلس الأعلى للأزهر- إدارة الأزهر ومجمع البحوث ولجنة الفتوى وجامعة الأزهر- وخلص إلى إدانة الغزو وتأييد قرارات الحكومة المصرية ومناشدة جميع الدول الإسلامية لاتخاذ إجراء حاسم ضد الغزو ومناشدة المسلمين للتبرع بالمال والأدوية وتوجيه العلماء والخطباء فى المساجد لتوعية الشعب. وجه المفتى وقتها الشيخ جاد الحق على جاد الحق نداء إلى المسلمين فى سائر بلاد المسلمين للمسارعة بنجدة الثوار الأفغان الذين يدافعون عن الإسلام. وعبر الشيخ الشعرواى عن موقفه «فإذا كان خصوم الإسلام قد تعدوا على أطراف الأمة الإسلامية لإضعافها وتفتيتها فلا مخرج إلا بعمل موحد حاكمين ومحكومين ويكون شعار الأمة هو الجهاد ليكون سدًا منيعًا حاميًا للأمة الإسلامية».
أفسحت الدولة المجال لجماعة الإخوان للعمل الشعبى وتعبئة الجماهير وسمحت لهم بالسفر إلى أفغانستان لمقاومة الغزو السوفيتى
توحدت خطبة الجمعة فى مصر ٤ يناير ١٩٨٠ عن أفغانستان والخطر الشيوعى وضرورة مساندة مسلمى أفغانستان. وقرر المدير العام للمساجد أن تكون الدروس اليومية وخطب الجمع عن أفغانستان ومقاومة اللا دينية. عقد الأزهر مؤتمرًا حاشدًا يوم الجمعة ١٨ يناير من نفس العام عقب صلاة الجمعة توافد إليه آلاف المواطنين وحضره هارون صادق المجددى، مندوب الثوار الأفغان فى القاهرة. وأشاد الصحفى موسى صبرى بالمؤتمر ووصفه بأنه لا يعبر فقط عن مسلمى مصر، ولكن يمثل شعب مصر من مسلمين وأقباط. وفى نهاية العام أصدر شيخ الأزهر بيانًا وصف فيه كل مسلم يتعاون مع السوفيت على أرض أفغانستان بأنه خائن لدينه. وجاء موقف الكنيسة المصرية متفقًا مع موقف الدولة المصرية «إننا نصلى من أجل السلام فى كل بلاد العالم المضطرب طالبين من الله أن يتدخل لإنقاذ إخواننا المسلمين فى أفغانستان ويرجع إليهم حرية بلادهم فيحكمون أنفسهم بأنفسهم تحت راية الله فلا يخضعون للاحتلال ولا يخضعون للإلحاد».

بناء على هذا المشهد أفسحت الدولة المجال لجماعة الإخوان وقادتها للعمل الشعبى المعلن وتعبئة الجماهير، وسمحت لهم بالسفر إلى أفغانستان لمقاومة الغزو السوفيتى، وربما رأت الدولة وقتها أن تتخلص منهم. واجتمع السادات مع عمر التلمسانى، وتم الاتفاق على السماح لأعضاء الجماعة بالسفر على أن يقتصر عملهم على الأمور الإغاثية والإنسانية فقط ولا يشارك الإخوان فى القتال أو حتى التدريب، لكن ذلك تغير وسمح لهم بذلك بعدها. أراد السادات استغلال قدرة الجماعة على تعبئة مشاعر المصريين وأرادت الجماعة استغلال ذلك بتوسيع أنشطتها ومنح شباب الجماعة فرصة هائلة للتدريب الميدانى.
لم يكن موقف الصحافة الرسمية مختلفًا عن الباقى، فقد عبر صحفيون كبار عن رؤية الدولة المصرية وأبدى صلاح منتصر أسفه بأنه لا يوجد غير مصر تجاهر بمساندتها لمجاهدى أفغانستان. وعبرت «الأهرام» عن ذلك بأن مصر لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدى أمام استعمار بلد مسلم. وأطلق أحمد بهجت على المقاتلين الأفغان لقب «الثوار المسلمين» وتساءل إبراهيم نافع عن موقف باقى الدول الإسلامية من هذا التهديد الصريح للإسلام والمسلمين.
وقامت «الإذاعة والتليفزيون» بدور مهم فى توجيه مشاعر المصريين تجاه القضية الأفغانية، حيث دعا محمد إبراهيم الجيوشى، مراقب عام الشئون الدينية إلى الجهاد، ووجه نفس النداء الشيخ إبراهيم منصور المقرئ، وكان نداؤه «صبرا آل أفغانستان»، وساهمت إذاعة القرآن الكريم بحلقات عن دولة أفغانستان لتبصير المصريين بأهمية الدولة وخطورة الغزو الشيوعى، وكذلك وجه التليفزيون كثيرًا من برامجه لهذه التعبئة الدينية.
4
فى تلك الأجواء تم اغتيال السادات- رحمه الله- وتولى مبارك الحكم، وهذا هو حال مصر فى الواقع الفعلى. على مدار أكثر من عشرين شهرًا قبل اغتيال الشهيد السادات تعرض خلالها الشعب المصرى لموجة زاعقة من التعبئة الدينية بمشاركة رسمية من جميع مؤسسات الدولة تقريبًا. أصبح الخطاب الدينى الجهادى للدفاع عن البلد المسلم وعن الإسلام وعن الدين ضد الشيوعية هو الخطاب الذى لا يعلوه خطاب، وأصبح رجال الدين هم أبطال المشهد. المشهد الذى تراضى فيه الكل، الدولة تقدم نفسها فى صفة المدافع بالمال والسلاح عن قيم الجهاد عن الدين، رجال الدين مُنحوا مساحات توجيه للرأى العام غير مسبوقة فى العقود التى سبقتها، المؤسسات الإعلامية من إذاعة وتليفزيون وصحف امتطت الموجة. منحة مجانية حاتمية تقدمت بها الدولة لنشر الفكرة التى كانت كل الجماعات المتطرفة تنادى بها. لقد استسلم الجميع لإغراء بريق اللحظة واستهوتهم- على طريقة الأفلام التاريخية- هتافات الجهاد المقدس.
قدمت الدولة عقول مواطنيها على طبقٍ من ذهب لغرس تلك الأفكار بها. أكثر من عشرين شهرا- منذ ديسمبر ١٩٧٩ حتى اغتيال الشهيد السادات أكتوبر ١٩٨١م- لم يتم احترامها بحثيًا والتعامل معها بما يليق بما سوف تسهم به فى العقود التالية وحتى الآن. ما حدث من تغير فى الهوية المصرية فى تلك السنوات لم يكن سببه الرئيسى- كما يزعم البعض- انتشار الجماعات المتطرفة؛ لأن جرائم تلك الجماعات كانت كافية تمامًا لتنفير السواد الأعظم من المصريين من أفكارها لولا ما صاحب هذا الانتشار من هذا الدعم والمساهمة الرسمية الكبرى النادرة.

من العوامل المساعدة هو بدء توجه العمالة المصرية إلى دول خليجية كان طرفًا مشاركًا فى التحالف بجوار مصر. الخطأ المعرفى الكبير الذى يقع فيه كثيرٌ من متابعى الشأن العام المصرى هو تبنيهم لرؤية مؤداها أن انتشار الفكر المتطرف فى مصر كانت أسبابه الحصرية هى الجماعات وعودة العمالة من الخليج. هذا تشويه لما حدث وحاولة للتعتيم على حقائق لا بد من عرضها كاملة إن كنا جادين حقًا فى الدفاع عن هذا الوطن. لو اقتصر الأمر على الجماعات لما حققت أى انتشار كبير بين المصريين الذين كانوا وقتها متشعبين بالفكرة والروح الوطنية بعد الانتصار العظيم. لقد كانت تلك الجماعات- من حيث القبول المصرى الشعبى بها- فى أضعف وأحط الدرجات مقارنة بزخم النصر الوطنى، ولم يكن الأمر سيسفر إلا عن أعضاء جدد محدودى العدد منبوذى الفكر بسبب ما يقترفونه من جرائم. ولو اقتصر الأمر على عودة العمالة غير المثقفة فى معظمها، ولو لم يكن دور الدولة رسميًا كما أوضحت، لكان انتشار هذه الأفكار سيظل محصورًا فى دوائرٍ بعينها كما كانت ستواجه من النخب المثقفة بالتفنيد.
5
لم يكن لهذا الانتشار للفكر المتطرف فى مصر أن يحدث دون هذا الدور الرسمى لمؤسسات الدولة، التى وقعت فى معضلة كيفية تنفيذ موقف سياسى معين قامت بتقديره، وقررت أن تسلك أقصر الطرق وأقلها جهدًا لها، لكنه أخطرها على الدولة ذاتها، وهو طريق الاستعانة بالمؤسسات الدينية ورجال الدين والتعاون مع جماعات راديكالية معادية للفكرة الوطنية لتعبئة الشعب دينيًا لتنفيذ ذلك القرار السياسى. كان الأمر فى مصر مختلفًا تمامًا عنه فى الدولة الأخرى التى اتخذت نفس القرار. ففى دول أخرى وبسبب طبيعة أنظمة الحكم وطبائع الشعوب والتاريخ الحديث لتلك الدول وشرعيات وجودها حديثًا، كان الأمر متماهيًا مع تلك الطبائع وذلك التاريخ وتلك الشرعية. كما أن خلع ذلك القميص هناك وفى أى وقت- كما حدث مؤخرًا- لم يكن بالأمر الصعب ولن يتطلب الأمر سوى ضغطة زر سياسية محلية! لكن الأمر فى مصر كان مختلفًا كلية. بدا الأمر وكأنه تغيير قسرى لثوب مصر على مدار أكثر من عشرين شهرًا كبداية. كان قرارًا يحمل فى طياته- دون أن ينتبه من اتخذوه ومن نفذوه من قيادات مؤسسات مختلفة- التخلى طوعًا عن تلك الدفعة الوطنية الكبرى التى منحها النصر ثم استرداد الأرض. بدا الأمر وكأنه إدخالٌ لنصر أكتوبر وما يحيط به من قيم وطنية لغرفة محكمة الغلق، ثم استخراج كتب التراث العتيقة الفاسد منها والصحيح والمفيد منها وعديم الفائدة وتطعيم عقول المصريين بها.

عود ثقابٍ تم إشعاله فى مساحات شاسعة من الغابات الكثيفة وتُرِكت النيرانُ تشتعل حسبما تتجه الرياح. هذا هو ما حدث حرفيًا فى مصر. فى فترة تاريخية فقيرة التكنولوجيا محدودة القنوات الإعلامية، تُرك الأمر للوعاظ والأئمة فى القرى والنجوع والأزقة والمدن. وكلٌ منهم ينهل من كتب التراث هذه حسب شخصيته وهواه ودرجة تعليمه وثقافته وبيئته وأفكاره السائدة فى محيطه الضيق، ثم يُلقى بما يجمع فى عقول المصريين. هناك حقيقة قوية الوضوح يجهلها أحيانًا بعض أفراد النخب داخل المؤسسات. هذه الحقيقة تقول إن التراث الدينى الإسلامى الآن يبلغ من الضخامة والترهل ما يستحيل معه أن تتحكم دولة فيما يتم بثه فى عقول الناس إن هى اتخذت قرارًا بمنح رجال الدين كارت بلانش. الدولة وقتها كان عليها إما أن تمنح هذا الكارت أو تمنعه وتستمر فى نهج سياسة معتدلة ومحجمة لتداخل رجال الدين؛ لأنها لم تكن تملك أى آليات ضبط أو محاسبة. وما حدث وقتها أنها قامت ليس فقط بمنح هذا الكارت، لكنها شجعته ومنحته الشرعية. لقد كانت سذاجة البعض مثيرة للشفقة حين تصوروا أنهم، وبعد أن يتم تحقيق الهدف السياسى، فسوف يطفئون عود الثقاب الذى أشعلوه بكل سهولة ويسر. رؤية مغرقة فى السذاجة؛ لأنها تتغافل عن طبيعة المجتمع المصرى، وأن عود الثقاب أصبح نيرانًا مشتعلة حرقت ملايين العقول. المجتمع المصرى يتمتع بتراث وإرث وحريات أكثر بكثير من باقى دول المنطقة التى شاركت فى نفس الاتفاق. المصريون لن يتم تغيير ما تم غرسه فى عقولهم بضغطة زر.
6
وافقت الدولة رسميًا على الفكرة الأم لكل الجماعات، وهى وجوب الجهاد المسلح والتبرع بالمال والسلاح والرجال إذا ما تعرضت دولة فى أقصى الأرض للاحتلال ما دامت تلك الدولة مسلمة! ماذا إذن تنتظر هذه الدولة بعد ذلك من مواطنيها حين يخاطبهم أعضاء الجماعات بنفس الخطاب ويقنعونهم بأنهم عليهم الجهاد المسلح لإنقاذ فلسطين والبوسنة والشيشان والعراق وألبانيا وغيرها؟! وماذا تنتظر تلك الدولة من الوعاظ فى القرى؟ لقد منحتهم ما جعلهم ينشرون كل ما يأمرهم به رؤساؤهم إن كانوا منتمين لجماعات بعينها، أو شيوخهم إن كانوا فقط من أئمة الأوقاف! منظومة الفكر الجهادى الذى تم تدشينه منذ سقوط إمبراطورية آل عثمان ثم قيام الكيان الصهيونى تشتمل أفكارًا متشابكة متصلة، و«من يحضر العفريت عليه أن يصرفه!» لكن صرفه كان صعبًا إن لم يكن مستحيلًا فى دولة مثل مصر. لأن مصر دولة عريقة تنعم بتاريخ طويل معاصر فى ممارسة السياسة والفكر ولم يكن ممكنًا أن يصلح معها فكرة الضغط على الزر! هذا ما حدث.
وقعت حرب البوسنة عام ١٩٩٢م واستمرت أكثر من ثلاث سنوات. خلال تلك السنوات لم ينتظر المصريون موافقة أو رفض الدولة، واعتبروا أنها حالة مشابهة فاكتظت خطب الجمعة بنفس المفردات وصُليت صلوات الغائب فى مساجد كثيرة على شهداء المسلمين من البوسنة، وطالب بعضهم بما حدث فى الحالة الأفغانية! ولقد صادفت تلك السنوات أثناء دراستى الجامعية بالمنيا واستمعتُ إلى عشرات الخطب عن وجوب الجهاد فى البوسنة! لذلك لا عجب أن تكون هناك قضايا لأعضاء الجماعات باسم العائدين من أفغانستان وألبانيا و.... وظل «العفريت يتنطط» ويعربد فى عقول المصريين ويعلن عجز الساحر عن صرفه.
7
ما حدث لم يكن المرة الأولى فى تاريخ مصر المعاصر، وأقصد به لجوء الإدارة لفكرة الدين ورجاله لتعبئة الشعب فى قضية ساسية بحتة أو للحصول على مكاسب سياسية مهما بلغ حجمها ستظل لا شىء مقارنة بما سيترتب على ذلك من كوارث على مصر. لقد حاول ذلك الملك فاروق حين داعبته أفكار حصوله على ألقاب سياسية دينية، وحاول ذلك فى صراعه مع الحزب السياسى الشعبى حزب الوفد، وخلاصة ما حدث وقتها أنه استعان بالإخوان الذين منحوه هذا الشعار لمدة زمنية معينة.. «إذا كان الشعب مع الوفد، فإن الله مع الملك!». انقضت الفكرة والفترة وبقيت مكاسب الجماعة من الموقف أو المقايضة حين استغلت اللحظة فى الانتشار وفى تدريب رجالها على السلاح بحجة التطوع فى فلسطين، وفى جنى مكاسب سياسية أخرى عديدة للجماعة، بينما لم يحصل الملك فى مقابل ذلك على شىءٍ يُذكر، وحين سقط حكمه كانت الجماعة أول من «مشى فى جنازته السياسية».
لم يحدث أن توافقت كل مؤسسات الدولة على تعبئة الشعب دينيًا لفكرة الجهاد دفاعًا عن بلدٍ أخرى غير مصر
وحاول عبدالناصر احتواء الجماعة أكثر من مرة، منها محاولته أو توسمه أن الجماعة سوف تعلى مصلحة مصر وقت العدوان الثلاثى فأفرج عن أعداد منهم، لكنه توصل إلى معرفة حقيقية ويقين نهائى بالجماعة. وللدفاع عن نفسه وحكمه من تهمة الشيوعية قام عبدالناصر باتخاذ إجراءات دينية قوية مثل تدشين إذاعة القرآن الكريم وغيرها. لكن بقيت كل هذه المساومات أو المحاولات أو حتى الصفقات فى نطاق سياسى يخص جماعة بعينها. لم تصل أى منها إلى ما حدث فى هذه الأشهر التى أتحدث عنها وما تلاها من سنوات. لم يحدث أن توافقت كل مؤسسات الدولة على تعبئة الشعب دينيًا لفكرة الجهاد دفاعًا عن بلدٍ أخرى غير مصر وأيضًا بهذا البُعد الجغرافى، بخلاف قضية فلسطين التى تشاركت فى الدفاع عنها كل الدول الإسلامية والعربية دون الحاجة إلى فكرة التعبئة الدينية كما حدث فى حالة أفغانستان.
8
من أمانة الكلمة أن نقول إن مبارك تولى الحكم بعد هذه الشهور العشرين، وبعد أن تمكنت نيران الفكر المتطرف الجهادى الصريح من العقل المصرى الجمعى، كما واجه فى الوقت ذاته حقيقة جرائم الجماعات الأكثر تطرفًا. قرر مبارك ومنذ اليوم الأول ألا يحاول خوض معركة تصويب وأن يكتفى فقط بمواجهة الجرائم المسلحة، فاستمرت النيران التى أشعلت رسميًا فى العقل المصرى نهاية عام ٧٩م مشتعلة فى قرى ونجوع مصر، وتحولت الكتاتيب وكثير من المساجد إلى مفارخ للإرهاب والتطرف وأصبحت موردًا مهمًا يورد للجماعات أعدادًا كبيرة من الصغار.
واستمرت جماعة الإخوان فى عربدتها التنظيمية والاقتصادية فى سنوات حكم مبارك، كما أصبحت جماعات أخرى كالجماعة الإسلامية فى بعض محافظات الصعيد هى البديل الفعلى لوزراة الأوقاف، واستولت بالفعل على مساجد كثيرة بخلاف مساجدها وزواياها الخاصة.

فى عقد الثمانينيات وبين مرحلتى التعليم الابتدائى والإعدادى كنتُ شاهدًا على ما حدث فى مدينة صغيرة وسياحية هى أسوان. كانت الجماعة الإسلامية- رغم أن أسوان لم تكن معقل الجماعة الرئيسى- تقوم بأداء صلوات الأعياد بالقوة فى ساحات كبرى مثل «مركز شباب بدر» المعروف بجوار أشهر مساجد أسوان وهو مسجد الطابية، ولقد حضرتها أكثر من مرة. كما كانت صحف ومجلات الجماعات تُباع علانية مع بائعى الصحف مثل الاعتصام والمختار الإسلامى وغيرها من مطبوعات حصلتُ وقتها على بعضٍ منها.
وفى بدء التسعينيات قضيت أربع سنوات فى المنيا أثناء دراستى الجامعية، ورأيت الصورة بشكلٍ أكثر قتامة ووضوح. عشرات المساجد أصبحت بالفعل تحت سيطرة الجماعات. ساحات وشوارع رئيسية كبرى- مثل شارع الحسينى أهم شوارع المدينة وقتها- يتم غلقها أثناء دروس بعض قيادات الجماعات خاصة الجماعة الإسلامية مثلما كان يحدث أثناء خطبة محمد بشير أو أثناء حضور أسامة حافظ الصلاة. ومناطق شعبية وقعت بالكامل تحت هيمنة الجماعة الإسلامية مثل منطقة أبوهلال الشعبية بمركز المنيا.
9
حقيقة أخرى مهمة ومؤلمة.. أى زعمٍ يمكن أن نسمعه الآن من أى قيادة لأى مؤسسة دينية رسمية بأن تلك المؤسسة أو غيرها قامت بمواجهة الفكر المتطرف أو الإرهابى فى مصر فى تلك العقود هو زعمٌ كاذبٌ مردود على صاحبه. أربعُ سنواتٍ دراسية قضيتها فى أروقة المدينة الجامعية بإحدى جامعات مصر التى كانت أشبه بمعقل للجماعات المتطرفة لم يطرق- خلال تلك السنوات- باب هذه المدينة أى رجل دين أو عالم دين من أى مؤسسة دينية لكى يوجه الطلاب أو يناقشهم أو يبادر ويتجرأ بإقامة ندوات، ليساندهم فى مواجهة ضلالات طلاب الجماعة الإسلامية تحديدًا وسيطرتها وبلطجتها على باقى الطلاب واستيلائها على المساحات المخصصة كمصلى داخل كل مبنى وكأنها مساحات خاصة بالجماعة. الشرطة المصرية هى التى خاضت المواجهة تقريبًا بمفردها دون مساندة حقيقية- ترضى ربنا- من أى مؤسسات دينية، لذلك فأى حديث عن دور تلك المؤسسات فى مواجهة الفكر المتطرف فى تلك العقود فى قرى ومدن وجامعات مصر هو حديثٌ ممجوجٌ ومخادع غرضه تمييع الحقائق والحصول على أدوار بطولية وهمية لم تحدث وبأثر رجعى. برنامج «ندوة للرأى» كان عبارة عن قشة إعلامية تحاول التصدى لموجٍ عاصف، لكنها لم تقترب من مساحاتٍ مصرية جغرافية ممتدة كانت بالفعل قد التهمتها نيران هذه الأفكار التى أشعلها ثقاب عام ٧٩ وبما بعدها.

استمرت حركة نشر الفكر الدينى المتطرف أو المتعصب أو السلفى المتشدد فى مصر فى عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الجديد. فكرة الرقابة على الخطاب الدينى الرسمى كانت باهتة جدًا وغير موجودة بشكل واقعى. كانت هناك فقط محاظير سياسية عامة، لكنها لم تؤخذ من جانب المؤسسات الدينية تجاه أبنائها بشكلٍ جاد حقيقى لصعوبة تطبيق أى آلية رقابة فى مجتمع أصبح رغمًا عنه ظهيرًا شعبيًا مساندًا للفكر المتطرف. فى العقود الثلاثة المشار إليها تم بالفعل تكوين كتلة شعبية كبرى من المصريين مساندة بشكلٍ عام للفكر الدينى المتشدد أو السلفى، وكتلة أخرى تميل إلى تبنى الأفكار السياسية الصريحة للجماعات التى كان كثيرٌ من العلماء يبررون لجرائمها بين العامة. هذه الكتل هى التى يمكن تسميتها بالظهير المصرى الشعبى المساند للفكر الدينى المتطرف بكل مفرداته السياسية التى تخص مفردات الحكم وتتبنى مصطلحات مثل وجوب تطبيق الشريعة والإيمان بعودة الخلافة وغيرها، ومصطلحات اجتماعية تعبر عن رفضها الحداثة فى ملفات السكان والفنون. هذا الظهير تكون- كما عرضتُ- بشكل مباشر برأس حربة رسمية شاركت فى تكوينه جميع مؤسسات الدولة.
10
حين وقعت أحداث يناير ٢٠١١م كانت الأرض التى تم حرقها وإعادة غرسها على هوى كتالوج التطرف الدينى قد طرحت أشواكها وأينعت ثمارها السامة فى عموم مصر. لم تكن الكتل التى تم تكوينها فى العقود الثلاثة السابقة فى حاجة إلى جهدٍ كبير للانضمام طواعية لمن رفعوا راية الدين فى المعترك السياسى. ليس ممكنًا من حيث المنطق المجرد أن يقتنع أحدٌ بأن بضعة أشهر من الفوضى كافية لأن تقنع جماعات الإسلام السياسى المصريين بأفكارها وهم قد عاصروا بعض جرائم تلك الجماعات، لكن الذى حدث أن أجيالًا قد تربت عقليًا على أفكار مزج السياسة بالدين بالدم بعدم اليقين بفكرة الوطن القائم على أساس الأرض فى مقابل وهم انتظار قيام دولة إسلامية موحدة.. ما حدث كان نتيجة منطقية جدًا.. ما حدث فى انتخابات ٢٠١٢م هو الحصاد المر. ولو كانت جماعات الإسلام السياسى ومفكروها يتمتعون بالقدر الأدنى من الذكاء لما فرطوا فى هذه الفرصة الذهبية، لكن الأقدار كانت رحيمة بمصر فكان الغباء العظيم الذى أظهرته جماعة الإخوان وما ساندها من جماعات أخرى هو السبب الأول فى أن ينفر كثيرٌ من المصريين الذين كانوا مقتنعين تمامًا بالفكرة، لكنهم انفضوا عنها لقناعتهم بأن هذه الجماعة لا تمثل تلك الفكرة المثالية التى ترسخ فى وجدانهم. هذه نقطة أخرى يجب أن نفهمها. كثيرٌ من المصريين انقلبوا على الجماعة بعد انتخابها ليس نكوصًا عن الفكرة، إنما رفض لأن تمثل تلك الجماعة هذه الفكرة «الحكم الإسلامى الذى يجعل قرارات الدولة السياسية وتوجهها الفكرى منطلقًا من أدبيات التاريخ الإسلامى العتيق».

كثير من المصريين الذين تم إشباعهم بفكرة الخلافة والحكم الإسلامى المثالى ذى العدل المطلق لم يراجعوا أفكارهم أو يخضعوها لتقييم موضوعى، إنما أجلوها انتظارًا لمن يطبقها بشكلٍ صحيح، ومن يريد الدليل على ذلك عليه أن يراجع مواقف المصريين وألفاظهم على آلاف الصفحات الشخصية فى العامين الأخيرين وفيما يخص قضية فلسطين.
11
إعادة تدوير الفكرة التى تم اختبارها فى تلك العقود الثلاثة بأى صورة جديدة وتحت أى مبررات جديدة لن تقود إلا إلى نفس النتائج. فكرة اللجوء لتديين مسائل مجتمعية أو سياسية أو قضايا أخلاقية والاستعانة بالمؤسسات الدينية للتنفيذ عبر منحها مساحات نفوذ كبيرة لن تقود إلى نتائج مختلفة، وذلك لأسبابٍ كامنة فى طبيعة وتكوين أى مؤسسة دينية بصفة عامة عبر التاريخ، ولأسباب أخرى خاصة بطبيعة رجال الدين الإسلامى ومجمل ما يعتقدونه من معتقدات وأفكار.
طبيعة المؤسسات الدينية- التى لم تتغير عبر التاريخ أو من ديانة إلى ديانة- تجنح بشكل تلقائى إلى فكرة السيطرة العقلية على العوام- أو المؤسسات الأخرى لو سنحت الفرصة- وتعتقد فى امتلاكها الصواب المطلق، وفى حقها فى نشر هذا الصواب أو فرضه إن أتيحت الظروف لذلك الفرض كما حدث عامى ٧٩ و٨٠ كما أوضحت. يمكنك أن تمنح المؤسسة مساحة تواجد وتكون البداية ناعمة هادئة، لكن بعد سنوات من هذا المنح تكون هناك نتائج على الأرض أو واقع لا يعلم أحد طبيعته ولا كلفة محاولة تغييره. على سبيل المثال كان أحد المناصب الدينية الكبرى فى مصر يتم بالتعيين حتى سنوات قليلة مضت حتى تم تغيير القانون وأصبح المنصب انتخابيًا من داخل المؤسسة. ما هو رد الفعل المتوقع شعبيًا ومن قلب المؤسسة إذا اقترح مثلًا أحد المفكرين أو الساسة أو نواب المجلس التشريعى العودة إلى آلية التعيين؟! مكتسبات أى مؤسسة دينية تترتب عليها نتائج شعبية من العسير تغييرها بعد ذلك.

أما عن الطبيعة الخاصة لرجال الدين الإسلامى فهى نابعة من أفكار عامة تم نشرها بين العوام بناءً على ما يُعتقد أنه من الدين وليس أحداثًا تاريخية بشرية. منها ضرورة إخضاع مفردات السياسة والمجتمع والفنون لما يطلقون عليه الضوابط الشرعية أو الدينية. فهم يعتقدون أن لهم حقًا مطلقًا فى تصويب مرفق الفن مثلًا، أو مرفق الإعلام أو غيره. يستطيعون أن يحرقوا- شعبيًا- أى عمل إبداعى بمجرد اتهامه بأنه ضد الدين، ولو وجدوا فرصة أو مسلكًا قانونيًا لقاموا بدور الرقيب على ما يُكتب أو يقال. هذه الفكرة تحتوى فرضية- لا وجود لها إلا فى عقول من يعتنقها- تمتع رجل الدين بعلمٍ غزير لا يتاح لسواه. هذه الطبائع- للمؤسسة ولرجال الدين الإسلامى- تجد متنفسًا قويًا للتعبير عن نفسها حين يتم منحها الفرصة كما حدث فى قصة الجهاد فى أفغانستان. الحصول على المساحة من النفوذ أولًا، ثم تأتى باقى الخطوات بالتدريج. مثال على ذلك.. حين يتم اتخاذ قرار ضمنى حتى لو لم يكن معلنًا رسميًا بتخفيف ضوابط خطاب أو خطبة الجمعة عن السنوات السابقة، سوف تأتى باقى الخطوات بالتدريج، وسوف تكون البداية بالإغراق فى تفاصيل دينية سلفية كدرجة أولى من درجات السلم الطبيعى. يقينًا سوف تأتى بعد ذلك الخطوة الثانية وهو نشر باقى الكتالوج الذى نعرفه جميعًا. الدليل على ذلك أن كبار القادة الدينيين وفى مناسبة احتفالية دينية حديثة جدًا، تحدثوا بنفس المنطق الشمولى مثلًا عن وجوب أن تتخذ الأمة «الإسلامية» قرارًا بالحرب حين تتعرض أرض الإسلام للاعتداء، وكان الحديث عن فلسطين. وتبنوا ضمنًا السردية الجامدة الرافضة للتجديد حين تحدثوا عن قصة قُتلت بحثًا وهى الإصرار على أن عدد الأحاديث النبوية خمسون ألف حديث مخالفين بذلك ما يقوله علماء الحديث أنفسهم عن وجوب التفريق بين المتواتر مما نسب للنبى «ص» وعن الآحاد.
12
مصر الآن فى مفترق طرق حضارى مصيرى. إما أن نستكمل ما بدأناه منذ عشر سنوات، أو أن نعيد تدوير نفس الفكرة التى ثبتت خطورتها على العقل والوعى الجمعى المصرى. دور رجال الدين ومؤسساتهم يجب أن يبقى فى حجمه الآمن.. إقامة الشعائر.. القيام بالوعظ الدينى والأخلاقى فى منظومة منضطبة رقميًا وخاضعة للرقابة الشعبية قبل الرسمية. تبنى الأوطان بالعمل والعلم والتصنيع والتسليح والإنتاج، وفى كل ذلك بالحفاظ قطعًا على القيم المصرية الوطنية والأخلاقية. على كل من يتولى شأنًا من شئون مصر الآن خاصة فيما يتعلق بموضوع المقال أن يعود عودة علمية موضوعية معلوماتية لما حدث فى مصر منذ نهاية ديسمبر ١٩٧٩م وحتى انتخابات ٢٠١٢م حتى يقرأ ما حدث وقتها قراءة صحيحة، وحتى يستطيع اتخاذ قرارات صائبة للحاضر المصرى ومستقبل أجيال لم تأتِ للحياة بعد. عدم العودة تفصيليًا لما حدث وعدم دراسته بشكل علمى حقيقى سوف يقود إلى التعامل مع الملف وكأنه أول تجربة أو أول اختبار للفكرة. فى تلك العقود كانت المقامرة تحت زعم محاربة الشيوعية، وكأن المصريين وقتها استجاروا من الرمضاء بالنار. والآن ما هو الخطر الذى يُراد التغلب عليه من خلال منح المؤسسات الدينية ورجالها تلك المساحات التى لا تخطئها عين؟! الهاجس الأخلاقى مثلًا؟ وهل نجحت قبل ذلك نفس المؤسسات فى نفس الغاية؟ قطعًا لم يحدث. تهذيب أخلاق المصريين يبدأ من الصغر.. يبدأ بعودة أنشطة الفنون إلى كل المدارس. موسيقى وغناء ورياضة وألعاب ذكاء.. التربية الدينية لم تختفِ يومًا ما من المدارس، لكن الذى اختفى هو الفنون التى تهذب الأخلاق والشهوات.. والرياضة التى تخلق أجيالًا لائقة صحيًا وطبيًا.

عود الثقاب الذى أرتابُ- مثل مصريين كثيرين غيرى- أنه على وشك الاشتعال سوف يقود فى النهاية إلى توحد من وقفنا ضدهم منذ أكثر من عشر سنوات، مع الذين نعتقد أنهم مختلفون عنهم، لأننا أمام حقائق معلنة- من جانب المؤسسات ذاتها- أن نصف تلك الجماعة هم ممن ينتمون إلى إحدى أهم المؤسسات الدينية الرسمية، فأى مساحات تُمنح فسوف تصب فى النهاية لصالحهم جميعًا. أنا لست ضد الدين، إنما ضد أن تتداخل المؤسسات الدينية فى الشئون السياسية أو التعليمية أو الفنية أو الثقافية. المؤسسات الدينية يجب أن تعود للمكان الطبيعى فى الدول الوطنية، وهى أنها مؤسسات روحية لا يجوز أن يتحدث أحد قادتها رسميًا أحاديث سياسية خالصة، أو يعتقد أن مؤسسته لها حقوق فى الوصاية أو الإشراف على مؤسسات مصرية عريقة تمثل قوة مصر الناعمة وجزءًا من إرثها الحضارى.
أنا وكل مَن هم فى مثل عمرى لن نعيش حتى نرى تأثير ما يحدث الآن فى مصر، لكنها أمانة الكلمة والشهادة حتى لا يقال يومًا- وكما ذكرتُ فى مقالى أسماء كتّاب وصحفيين- أن الجميع قد صمت.