البرجوازية.. سامية محرز: «خيانة خادمة» وراء كتابة «إمبراطورية نادية»

- بدأت كتابة الرواية بالإنجليزية منذ 8 سنوات وافتتاحيتها حدثت معى بالفعل
- تأخرى فى الكتابة منحنى رؤية أكثر موضوعية ونقدًا للذات بشكل واعٍ
- وقتى أصبح ملكى وأصبحت أستطيع أن أجرب فى مجالات أخرى لم يكن يتسنى لى تجربتها أثناء العمل الأكاديمى
- السخرية فى الرواية مهمة ومنعت تحولها إلى نص تراجيدى
قبل شهور، طرحت الدكتورة سامية محرز، أستاذ الأدب المعاصر، روايتها الأولى «إمبراطورية نادية»، عن دار «الشروق»، التى تتبع قصة «نادية» المنتمية إلى الطبقة «البرجواز ية» مع خادماتها، عبر التنقل بين حكايات أكثر من خادمة، مستعرضة المعاناة التى تلاقيها صاحبات تلك المهنة.
ولم تكتف رئيس مركز دراسات الترجمة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فى روايتها الجديدة، بعرض معاناة الخادمات، بل طعمت ذلك بمشاهد لعلاقات إنسانية متباينة، فـ«سيف» ابن «نادية» يتعلق بمربياته وخادمات البيت، لتصبح هنا العلاقة علاقة محبة أكثر من كونها علاقة خادمة وسيد.
وفى حكيها لهذه العلاقات، تستحضر «نادية» أعمالًا أدبية تمثلها، مثل «قاع المدينة» ليوسف إدريس، و«ذات» لصنع الله إبراهيم، وغيرهما. ويأتى كل ذلك بنبرة ساخرة تهكمية على واقع مرير.
حول هذا وأكثر، التقت «حرف» الدكتورة سامية محرز فكان هذا الحوار.

■ بداية.. كيف جاءتك فكرة روايتك الأولى «إمبراطورية نادية»؟ وكيف عملت عليها؟
- بدأت كتابة الرواية من حوالى ٨ سنوات، وكان ذلك باللغة الإنجليزية، لأننى كنت أعمل بالجامعة فى ذلك الوقت، بالتالى أغلب كتبى ومقالاتى كانت باللغة الإنجليزية، ولم أكن متمرسة فى الكتابة بالعربية بعد.
المشهد الافتتاحى للرواية هو الذى كان منذ ٨ سنوات، لكننى أضفت الكثير من العناصر الدرامية والتشويق والسخرية وما إلى ذلك. هذا المشهد حدث بالفعل معى، فانتابتنى حالة من الغضب، حينها شعرت بأن السيدة التى تعمل لدى خانت العشرة والمحبة.
لو كتبت الرواية فى وقت الحدث ستكون انفعالية أو «ميلودرامية»، لأنها كانت قريبة جدًا من وقت وقوع الحدث. كانت ستكون أكثر رومانسية، بمعنى أنه ستكون هناك نبرة أعلى من البكاء على الأطلال.
حين خضت التجربة بالإنجليزية، وجدت أنه سيكون صعبًا جدًا التعبير عن وعى الشخصيات الأخرى، أو شخصية «نرجس» من خلال اللغة العربية الفصحى. رأيت أن هذا يمكن أن يقلل من تفاعل القراء مع هذه الشخصية. لكن لكى يفهم القارئ معنى العلاقة بين «نادية» و«نرجس»، و«نادية» وأمها، كان لا بد أن ألجأ إلى اللغة العربية.
وفى الحقيقة ما شجعنى لأن أخرج الفصل الذى كتبته فى وقت سابق، وأعمل عليه ليكون رواية، هو كتابى عن جدى إبراهيم ناجى «زيارة حميمة تأخرت كثيرًا»، لأن النص الذى كتبته باللغة العربية، والحمد لله لاقى استقبالًا حسنًا لقراء من مستويات متعددة، وتفاعلوا مع نبرة السخرية الموجودة فيه، ما شجعنى لأن أكتب الرواية باللغة العربية.
كما أن يكون المشهد الافتتاحى مكتوبًا منذ ٨ سنوات، هذا منحنى متسعًا من الوقت لأن تكون هناك رؤية تحليلية ونقدية تفاعلية، ربما كانت ستغيب عن النص لو كُتب فى وقته بعد الواقعة التى افتتحت بها الرواية.
أنا سعيدة فى الحقيقة لأننى تأخرت فى الكتابة، لأن هذا التأخير مكننى من أخذ مسافة مهمة تساعدنى على رؤية أكثر موضوعية، وفيها نقد للذات بشكل واع وموضوعى.

■ هناك الكثير من الكُتب والمسلسلات وغيرهما ناقش قضية الخادمات.. ما الجديد لدى د. سامية محرز؟
- هناك أعمال روائية وتليفزيونية وسينمائية تناولت مسألة الخادمات فى المنازل بالفعل، وهذا موضوع غير جديد بالمرة. لكن روايتى عنوانها «إمبراطورية نادية»، وهذا يُمكِن القراء من التركيز على المدخل، فالرواية- فى المقام الأول- عن هذه السيدة «البرجوازية»، وعالمها الذى تعتبره «إمبراطورية».
«إمبراطورية» كلمة أستخدمها بشكل ساخر، فهى «إمبراطورية» لا تتعدى حجرتين وصالة وشرفة. لكن من خلال هذا المكان الضيق، نستكشف عالمًا بأكمله من البشر، نساء ورجالًا مصريين وغير مصريين، لغتهم ومشاكلهم وحيواتهم، وتفاعل «نادية» مع كل هؤلاء.
كل هذه النماذج هى التى تجعل «نادية» تواجه نفسها وتكاشف شخصيتها، وتراجع الكثير من قيم «البرجوازية» التى تربت عليها. فى الوقت نفسه، فى تفاعلها معهم، تكشف لنفسها سطحية مكتسباتها الثقافية والأيديولوجية، أى أنها تعرى هذا، لأنها حين تجد نفسها فى خضم الموقف، تتراجع عن أشياء كثيرة تُعلنها لكنها غير قادرة على ممارستها فى الواقع.
الرواية ليست فقط عن كل هؤلاء الذين جاءوا إلى بيت أو «إمبراطورية» البطلة «نادية»، لكنها أيضًا عن «نادية» نفسها كنموذج من الطبقة «البرجوازية» المصرية بشكل خاص، لأننا نرى فى الرواية طبقة «برجوازية» أخرى من سوريا، ونجد أن تعاطى شخصيات سورية مع الواقع المنزلى، وهرمية العلاقات فى المنزل، مختلف تمامًا عن واقع «نادية» المصرية، وأمها «البرجوازية» أيضًا.

■ فى حالة مثل «ميلى»، «نادية» هى من قامت بكل شىء لحصول هذه المُربية على اللجوء السياسى.. هل تقصدين من ذلك أن دور «نادية» تجاوز ليصبح راعية حتى لخادماتها؟
- علاقة «نادية» بخادماتها تترنح باستمرار، ما بين أن تكون شخصية قامعة، وأن تكون هى المنقذ، وأحكامها دائمًا هى الأحكام الصحيحة. تريد أن تحكم على حيوات كل الناس من منظورها «البرجوازى» الضيق، ومن هنا هى مستعدة أن تنقذ الناس، إلى أن تتضايق من كثرة عمليات الإنقاذ.
هى تحب هذا لأنه يتماشى مع القيم الهشة المُعلنة لديها، التى اكتسبتها من خلال تعليمها فى الخارج، ورؤيتها لخطاب المساواة والعدل والتكافل الاجتماعى. هى ترمى نفسها باستمرار فى اتجاه إنقاذ الناس. لكنها تريد إنقاذهم من وجهة نظرها باستمرار، التى هى أيضًا وجهة نظر «برجوازية» ضيقة للغاية.
تفرض- مثلًا- على «نرجس» محاولة ان تترك زوجها، لا تدرى لماذا قالت لها لا بد أن تطرد زوجها، والحقيقة أن «نرجس» لها رؤية مختلفة عن رؤية «نادية» للعالم، فتجد نفسها تترنح بين الرؤيتين.
كذلك مع «ميلى»، هى لديها إحساس عالٍ بالذنب والعنصرية، لأنها تساعد «ميلى» أكثر مما تساعد «نرجس»، وهذا له علاقة بأن «ميلى» إفريقية، وإحساس الذنب جاء من عقدة لها علاقة بالتاريخ الاستعمارى والعبودية وما إلى ذلك، لذا تقدم على مساعدة «ميلى» أكثر مما تقدم على مساعدة «نرجس»، أو تساعد كل خادمة بشكل مختلف، لأن كل واحدة منهن تحرك داخلها إحساسًا مختلفًا بالذنب.

■ تستحضرين فى الرواية أعمال أدبية عديدة مثل «قاع المدينة» ليوسف إدريس و«ذات» لصنع الله إبراهيم.. لماذا؟
- استحضار أعمال روائية مختلفة، سواء كانت من الثقافة المصرية أو الأجنبية، إلى جانب الأعمال الثقافية المرئية مثل «الكارتون»، أو حتى الأغانى للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، كل هذا جزء من وعى «نادية»، التى ترى الواقع من خلال الخيال وليس العكس، بمعنى أنها تستحضر الخيال لكى تفهم الواقع، فنراها فى مفتتح الرواية– مثلًا- تقارن نفسها بشخصية فى مسرحية للكاتب الفرنسى جون جينيه لكى تستطيع فهم شخصيتها.
أستحضر هذه الأعمال لأنها جزء من شخصية «نادية»، جزء من وعيها العملى والحياتى بشكل يومي. الواقع لدى «نادية» يشبه الخيال، وليس الخيال هو الذى يشبه الواقع، لذا، هى تشبه السيدة السودانية الضخمة، التى جاءت بها إلى منزلها لتنظيفه، بشخصية «صاحبة المنزل» فى كارتون «توم وجيرى».
هذا النمط موجود على مدار الرواية، فنراه أيضًا فى تشبيه واحدة من الخادمات عندها فى المنزل بشخصية «السيدة دانفرز» فى رواية «ريبيكا» للكاتبة دافنى دو مورييه. تضفير الرواية بنصوص أدبية أخرى تستحضرها الشخصية الرئيسية كان مهمًا لكى تفهم هذه الشخصية واقعها وتمثله.

■ جاءت اللغة فى «إمبراطورية نادية» مُحملة بسخرية، لكنها سخرية مريرة على ما وصل إليه الحال.. ما الذى دفعك لذلك؟
- نبرة السخرية فى الرواية مُتعمَدة، كان لا بد أن أضحك من هذا الواقع المرير، أو كما نقول فى الإنجليزية: «ضحك فيه مرارة»، وفى الوقت نفسه مكاشفة ورعب، لأن الواقع صعب جدًا لدرجة أن السخرية هى النبرة الوحيدة التى يمكن أن نواجه بها هذا الواقع، وإلا تحولت الرواية إلى رواية «تراجيدية».
النماذج التى استخدمها فى الرواية «تراجيدية» جدًا، ولكى يهضمها القارئ ويفهمها ويتفاعل معها، وينحاز إلى هذه النماذج المستضعفة فى الأرض، كان لا بد أن يكون المدخل هو النبرة الساخرة. أنا أعتقد أن السخرية أقوى من «التراجيديا»، الضحك ليس سهلًا، ويأتى بتساؤلات باستمرار.
واستخدامى العامية المصرية ساعد على توظيف النبرة الساخرة فى الرواية، لأن «نادية» مصرية، وأنا أعتبر أن العامية المصرية تُعبِر بشكل دقيق جدًا عن مزاج الشخصية المصرية، ومن هنا كنت حريصة جدًا على توظيفها على المستويات كافة، سواء من خلال الطبقة «البرجوازية» التى تقدمها الرواية، أو من خلال نماذج الخادمات الذين تتفاوت استخدامات اللغة بينهم، لأن هناك فروقًا اجتماعية بينهم، حتى وإن كانت بسيطة.

■ أصدرتِ عددًا من الكتب باللغة الإنجليزية ثم أصدرتِ «إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا».. ألا ترين أن روايتك الأولى تأخرت قليلًا؟
- روايتى لم تتأخر بالمرة، كان هذا هو التوقيت الأنسب لصدورها، فما سبقها كان كتابات أكاديمية، لأننى كنت أستاذًا فى الجامعة الأمريكية، ومُطالبة باستمرار بالنشر الأكاديمى، وحتى المغامرة الأخيرة كتاب «إبراهيم ناجى.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا»، جاءت فى آخر مسيرتى الأكاديمية، وعملت فيه وأنا عاقدة العزم على اعتزال التدريس، لذا، مسألة الكتابة الروائية كانت مناسبة فى هذه اللحظة، لأن وقتى أصبح ملكى، وأصبحت أستطيع أن أجرب فى مجالات أخرى لم يكن يتسنى لى تجربتها أثناء العمل الأكاديمى.

■ استخدمتِ «تكنيك» مميزًا لنهاية الرواية، حين يحاصر «سيف» والدته ويطلب منها كتابة حكاياتها، والبعد عن الكتب الإنجليزية، فتقرر هنا كتابة حكايات خادماتها.. هل تحدثينا عن ذلك؟
- تعليقك على نهاية الرواية صحيح تمامًا، هى رواية دائرية، تنتهى بـ«نادية» بعد أن سردت على مدار الصفحات التى قرأها القارئ حكايات قيام وانهيار «إمبراطوريتها» الخاصة كما تقول، لكن فى آخر الرواية تقول إن من حقها أن تكتب كل هذا، وتأخذنا إلى بداية الرواية مرة أخرى، لنرى البداية هى النهاية والنهاية هى البداية، وهذا ما قصدته بالفعل، ولم يكن من قبيل الصدفة.
■ هل تفكرين فى كتابة رواية أخرى؟وما الذى تعكفين عليه فى الوقت الحالى؟
- لدى مجموعة من الأفكار المستقبلية، أولها مشروع مهم سيُنشر فى أكتوبر أو نوفمبر، عن دار «ديوان»، وهو عمل مختلف، كتاب وليس رواية، مبنى على معرض فنى، كان أول معرض فنى أنظمه، منذ حوالى سنتين، والكتاب يحكى قصة هذا المعرض، وقصة شغفى بعملية التدوير.
أعود فى هذا الكتاب للكتابة بالإنجليزية، ولو ترجمنا عنوانه إلى اللغة العربية سيكون «جماليات الكراكيب»، وهى «كراكيبى» أنا، فأنا أحب الاحتفاظ بكل شىء، ولا أرمى أى شىء، أنا وأمى وابنى نفعل ذلك. لدى «كراكيب» كثيرة جدًا، والمعرض قائم على إعادة تدوير هذه «الكراكيب» بشكل فني، وأرجو ممن لم يروا المعرض أن يعجبهم.
إلى جانب هذا الكتاب، لدى فى ذهنى فكرة، لا أريد أن أذكرها حاليًا، فأنا أفضل ذكر ما سأنفذه بالفعل، ولست واثقة تمام الثقة من تنفيذ الفكرة من عدمه حتى الآن، لذا لا أحب أن أذكرها حتى تظهر ملامحها العريضة أولًا.