باسم فرات: أعشق الـمدن التى لم «يُدنسها» الشعراء!

- المعرفة أفضل الطرق للوصول إلى المحبة وقطع دابر التطرف
- زرت مصر 28 مرة.. وأرجو أن أكرر الزيارة عشرات الـمرات الأخرى
- حُب المصريين الجارف لبلدهم وراء جملة «مَن يشرب من النيل يعود إليه»
- حلمى خوض غمار الـمغامرة وعيش تجربة مختلفة تليق بالشعر
عاش حياة تتقاطع فيها الصورة مع الكلمة والترحال مع التأمل، حتى صار أحد الأصوات التى لا تُشبه إلا نفسها، وُلد فى العراق، وبدأ مسيرته المهنية كمصور، فكان للكاميرا دورٌ مبكر فى تشكيل رؤيته للعالم، إذ تحوّلت عدسته إلى عينٍ ثالثة تلتقط ما يعجز عنه الوصف.
لاحقًا، طلب اللجوء السياسى إلى نيوزيلندا، وهناك كتب 4 دواوين شعرية، كانت بمثابة بوابات عبور نحو عوالم جديدة مليئة بالسحر والمغامرات والترحال والانطلاق.
إنه الشاعر والرحالة العراقى، باسم فرات، الذى لا يكتفى بالكتابة فقط، بل يسافر لدرجة أنه زار أكثر من 40 دولة، ملتقطًا آلاف الصور لحيوانات نادرة وطيور غريبة، وكأنما يبحث فى الطبيعة عن استعارات لقصائده.
عن هذا الترحال، والشعر الذى يمثل جوهر تجربته، ودواوينه التى أصدرها فى العراق ومصر وغيرها، أجرت «حرف» مع باسم فرات الحوار التالى.

■ أنتَ شاعر.. لكن شعرك يقول إنك تبحث فى الإنسان عن الإنسان.. كيف ترى هذا؟
- الشعر فعل جمالىّ، بل إن الفنون والآداب والمعارف كلها أفعال جمالية، إذن، لا بدّ للفعل أو الـمشروع الجمالى أن يكون مع الإنسان، أن يؤمن بالتنوع وبكرامة الإنسان مهما كان مختلفًا عنه، أن يتعرف على أخيه الإنسان، وهو ما جعل مشروعى الثقافى، قائمًا عليه، فخصصت جزءًا كبيرًا من وقتى لقراءة التاريخ الثقافى للجماعات اللغوية والعقائدية، سحتُ فى الأرض مشارق ومغارب، لأفهم الإنسان، وأتعرف عليه أكثر، فالمعرفة من أفضل الطرق، للوصول للمحبة، وقطع دابر التطرف وأوهام السرديات. ولاحظت أن الجماعات اللغوية غير العربية مثلًا، بعض قومييها، يتطرفون للغاية فى بناء سرديتهم، ابتداء من التاريخ الذى يمتد لآلاف السنين قبل الـميلاد، وليس انتهاء بنسب حضارات لهم، وآلاف الشخصيات التى كتبت بغير لغتهم لهم، ومئات المدن، فى حين أن لغاتهم تخلو من مئات الشعراء ومئات الأدباء والكُتّاب قبل القَرن الحادى عشر، بل وجدت بعضهم يتحدث عن تاريخ عريق وعظيم فى العراق وبلاد الشام، وكل ما كُتب فى هذين البلدين حتى الحرب العالمية الأولى بغير لغاتهم، ولا يمكنهم الحديث عن عشرين أديبًا ولدوا قبل القَرن العشرين وينتمون لهم وكتبوا بلغاتهم فالـمعرفة تقينا من التطرف.
■ أصدرتَ عددًا من الدواوين والكتب فى مصر.. كيف تقيّم تجربة النشر فيها؟
- لو لم أكن راضيًا عنها لما كررتها، كانت تجربة جيدة، لكن ما هو أهم منها، أننى كنتُ أعزو ترديد جملة «مَن يشرب من النيل، لا بدّ وأن يعود إليه»، إلى محبة الـمصريين الجارفة لبلدهم ونهرهم الوحيد، وعلى الرغم من أن زيارتى الأولى التى كانت فى الأيام الأخيرة الـمتبقية من عام ٢٠٠١، شابها منغصات، خاصة فى المطار بسبب شبيه لى مطلوب لمصر، لكننى كررتها سبعًا وعشرين مرة، وكانت زيارتى الثامنة والعشرون، فى معرض القاهرة للكتاب فى بداية ٢٠٢٤ للميلاد. وأرجو أن أكررها عشرات الـمرات.
ما جعلنى أؤمن، أن للنيل سحره، زيادة على ذلك، فإن إقامتى لستة أعوام فى الخرطوم، منحت ذاكرتى خزينًا هائلًا من الذكريات، مع وادى النيل، خاصة وأننى زرت منابع النيل، حيث زرت رواندا وأوغندا وإثيوبيا، والتقطت صورًا فى بحيرة فيكتوريا، قرب لافتة كُتب عليها: نهر النيل الأبيض. ثم صعدت مع النيل فزرت «معبد أبوسمبل» وأسوان، صعودًا إلى فرعَى دمياط «رأس البر» ورشيد.

■ أنت رحّالة كبير أيضًا وجبت أكثر من أربعين دولة.. كيف بدأ هاجس السفر ومحبته؟ وما هى بواعثه لدى باسم فرات؟
- كان الترحال هاجسًا يسكننى منذ بداياتى، لكننى لم أبُح به، حتى تحقق بفضل إصرارى، وكأن الحظ استجاب لهذا الإصرار، وأعتقد أن التنقل بين الأمكنة، وسبر أغوار الـمجتمعات، والتعرف عليها وعلى ثقافاتها، وخوض غمار الـمغامرة، وعيش تجربة مختلفة، تليق بالشعر، حلم معظم الشعراء، لأن الشعر يحتاج إلى تجربة عميقة ومختلفة، تجربة صاخبة، وليس تجربة ساكنة، وتغيير المكان، والقيام بمغامرات تتعرض معها للخطر أحيانًا، مثل التسمم، واحتمال الإصابة بالأمراض، ولسعات الحشرات، وخطر الأفاعى والعقارب، فضلًا عن النصب والاحتيال والاستغلال الذى يمارسه بعض الناس مع الغرباء، وهذه حالة تَكاد لا تخلو منها دولة.
كثيرٌ منّا، يعمل من أجل أن يملك حسابًا مصرفيًا جيدًا، أو عقارًا، أو ما شابه ذلك، ينفعه بعد تقاعده، وفى شيخوخته، لكننى أعمل على حساب مصرفى من نوع آخر، ألا وهو خزين الذكريات الهائلة والـمتنوعة بغرائبيتها، ربما لأنى تأثرتُ فى طفولتى بتجارب شعراء فيها تفرد وغرائبية، لكننى- وهذا ما أعتزّ به- لم أقلّد أحدًا لا فى تجربتى الشعرية، ولا الكتابية، ولا القرائية، ولا الحياتية، مثلًا، أنا من الـمعجبين جدًا بـ«السـيّاب»، وجرأته فى كسر عمود الشعر العربى، وفى شاعريته، لكننى لم أقلده حين قرأت له مرة جملته «أنا مدمن قراءة روايات»، فأنا اخترت أن أصبح مدمن قراءة كتب حفريات التاريخ للمجموعات اللغوية، والعقائدية.

■ بالتأكيد هناك تأثير للرحلة والسفر على شِعرك.. كيف ترى هذا التأثير؟
- التأثير واضح، بل إن «أدب الرحلة» له مساحة كبيرة وواضحة ومميزة فى تجربتى الشعرية، ويمكننى القول إن لدى تجربة شعرية، مؤثرات الرحلة واضحة فيها، بل هى قصائد رحلية، إذا جاز لىّ التعبير، وهذه القصائد، ليست وقائع يومية، أى ليست قصائد يومية، أو حياتية، إنما للمعرفى حضور كبير فيها، لكنه المعرفىّ المجهول، كيف؟ إن ثقافتنا إما تراثية، أو غربية، ولم تتعود الذائقة العربية، على ثقافات «الأطراف» و«الهوامش»، وثقافة الشرق، وإفريقية، حتى قراءاتنا الواسعة لرواية أمريكا اللاتينية، لم تعودنا على معرفة المنجز الفكرى والثقافى- غير الإبداعى- لأمريكا اللاتينية.
أكتبُ قصيدة الرحلة، وأعتقد أن كتابتى لها تملك خصوصية وتميزًا، لأنى تنقلت فى الإقامة فى أماكن مختلفة كثيرًا، من العراق إلى الأردن «أربع سنوات و٢٦ يومًا» إلى نيوزيلندا «ثمانى سنوات وعشرة أسابيع»، ثم هيروشيما «ثلاثة أعوام»، ثم جنوب شرق آسيا «ثلاثة أعوام»، ثم أمريكا الجنوبية «ثلاثة أعوام»، ثم السودان «ستة أعوام»، فالعودة إلى نيوزيلندا منذ جائحة كورونا فى منتصف سنة ٢٠٢٠ للـميلاد.
كتبت كثيرًا عن هذه الأماكن، حتى إن هذه الكتابة شغلت حيزًا كبيرًا من تجربتى الشعرية التى امتدت حتى الآن على عشر مجموعات شعرية، كانت كتابتى داخلية ولم تكن كتابة خارجية، مثلما عليه حال أغلب الشعراء الـمسافرين حين يمرون بالأمكنة. فما من مكان أقمت به، إلّا وتمثلته وسبرتُ أغواره، فأنا أندمج بالمكان بسرعة كبيرة، ولم أستغرب حين أقرأ تعليقات بعض الأصدقاء والمتابعين فى مواقع التواصل الاجتماعى، وهم يكتبون: «أنك تصبح جزءًا من المجتمع الجديد، لدرجة تشبههم، وكأنك واحد منهم».
التفرد أحد أهم مقومات الإبداع، ونجاح الـمبدع، ومما تفردتُ به عن غيرى من الشعراء الذين أحترم تجاربهم الشعرية الباذخة، هو «قصيدة الرحلة»، ولا أقلل من شأن مواضيع تجربتى الشعرية الأخرى، خاصة وموضوعات «ثيمات» مثل اليتم والمنفى والحرب لها مساحات جيدة ومهمة فى تجربتى الشعرية.
أعتقد أن الترحال أضفى ثراءً وعمقًا معرفيًا على تجربتى الشعرية، لغة وقاموسًا ومواضيع، وهمومًا.

■ السفر لأكثر من أربعين دولة يجعل هناك مواقف لا تُنسى، كأن تتعرض للموت أو لنقص الإمدادات أو يضيع الطريق.. ما هى الـمواقف التى لا تُنسى لدى باسم فرات؟
- لا بدّ لكل رحالة أن يمر بمواقف محرجة، وأحيانًا تصل لخطورة بالغة، وقد تقترب من الموت، وقد جربتها كلها، من تلك الأفعى الطويلة التى تزيد على متر ونصف، التى لا أستطيع أن أبرر هروبها منى، ولم تبادر كما هو حال معظم الأفاعى فى ردة الفعل الأولى، أى مهاجمة مَن يقترب منها. على الرغم من أننى تفاجأت بهذه الأفعى. فمن عادتى حين العودة للبيت، التجول فى حديقتى، والبحث عن بيض الدجاجات، وإذا بالأفعى تحت شجيرة قريبة من الأرض قطرها- الشجيرة- أكثر من متر، والأفعى تحتها تتناول البيض.
أما العقرب، فلم أرَ حتى هذه اللحظة بحجمه، لا أدرى ما الذى جعلنى ألتفت للوراء، وإذا به متجه نحوى وليس بينى وبينه سوى مسافة أقل من متر، كنت أنتظر تناول عشائى. أما فى الأمازون، كنا فى زورق متجهين نحو أعماق الأمازون بقارب بسيط، انطلقنا فى بداية الصباح حوالى السابعة صباحًا، على أن نصل فى الخامسة والنصف، أو قبل ذلك قليلًا، وبينما نحن فى وسط نهر نابو، وإذا بالمطر يهطل بغزارة ملأت القارب، والملاح راح يقود القارب نحو جزرة رملية ولا أقول جزيرة، قريبة من ضفة النهر اليسرى، فى حين تحولنا جميعًا، لمنقذين لأنفسنا، من خلال تفريغ القارب من مياه الأمطار، كنت حينها أجهل السباحة، وبعد توقف الـمطر انطلقنا.
أحيانًا يُخيّل لى أننى «مجنون» لأننى أغامر بل أقامر، وأنا لا أفقه من السباحة وقيادة السيارات والعجلات النارية شيئًا، أجيد قيادة الدراجة الهوائية وأعشقها، لكن بعد هذه الحادثة، اضطررت لتعلم- ولو متأخرًا- القيادة وقليلًا من السباحة التى لا تنقذنى فى أنهار مثل نابو وميكونغ والنيل وغيرها التى غامرت فيها.
لكن تبقى ليلتى فى جبال الأنديز على ارتفاع ٤٧٠٠ متر فوق مستوى سطح البحر، هى الأخطر على الإطلاق، فقد أصبت بصعوبة التنفس، وصداع نصفى عاصف، وإسهال وتقيؤ، ووصلت لقناعة، لو غفوت فسوف لن أصحو، لأنى كنت أجبر نفسى على التنفس. كانت ليلة تشبه فى خطورتها، ليلة قصف قوات التحالف لمستودعات صواريخ ثلاثة، وكانت النتيجة انفجرت علينا هذه الصواريخ، وحين سألت عن عددها بعد أيام، أخبرونى أن عددها ٢٩٧ صاروخًا، ما زلت أتذكر حين وقفت على سطح البناية أتأمل أموال العراق تحترق علينا، وفى الصباح، علمت أننى كنتً محظوظًا للغاية، لأن بعض الصواريخ سقطت على مقربة منّا.
هناك الكثير من المواقف الخطيرة، ولكن أعتقد هذه تكفى كأمثلة، فلم أذكر تعرضى للتسمم مرارًا والتهابات فى الجلد بسبب حشرات، وغير ذلك.

■ أمر السفر لدى باسم فرات غريب، فأنت لا تذهب للأماكن المشهورة مثل العواصم الأوروبية بقدر ما ترتاد أماكن جديدة وغير معروفة، خاصة للشعراء والأدباء العرب.. كيف ترى ذلك؟
- أعشق الطبيعة البكر، والأماكن المجهولة، والمدن التى لم «يُدنسها» الشعراء، حتى بذاكراتهم وأحلامهم، تُغرينى الأمكنة، غير الـمكشوفة فى ثقافتنا ووسائل إعلامنا، التى أراها على العكس من الأماكن العارية تمامًا فى ثقافتنا وإعلامنا، وأعنى بها لندن وباريس وروما وبرلين وغيرها، فهذه الأماكن، مكشوفة ومفضوحة تمامًا، على العكس من الأماكن التى زرتها، والتى تتميز بكونها ما زالت تحتفظ بأسرارها، أماكن لا يلتفت إليها الشعراء والأدباء والكُـتّاب والفنانين، فضلًا عن بقية أطياف الـمجتمع العربى.
هذه الأماكن، تُشعرنى بأننى «الفاتح» الأول، و«المستكشف» الأول، وأننى أمام كنز مهما غرفت منه، فهو ثراء لىّ، خاصة وأننى أقبل على هذه الأمكنة، مثل طفل جائع يقبل على ثدى أمه، ومثل صائم الدهر كله وتضع أمامه مائدة، تحوى ما لذ وطاب من الأطعمة.
شعور طفولى غريب ينتابنى حين ألتقى بلغات جديدة، وإثنيات جديدة، وثقافات وعقائد جديدة، لم أتورّع يومًا عن تناول أطعمة هذه الـمجتمعات، ولبس أزيائها التقليدية، وممارسة طقوسها الدينية، ومشاركتهم فى طقوسهم الاجتماعية، مثل حفل ولادة طفل، وحفل الزواج، وتأبين الميت.
لقد دخلت معابد معظم الأديان التى مررت بها، وواحدة من أغرب الحالات حين كنت أتجول فى أعماق جنوب شرق آسيا، وشاهدت من بعيد دخانًا توجهت إلى مصدره، ودخلتُ غابة، وواصلت الـمسير، فوجدتنى أمام بقايا طقس قد انفضّ الناس عنه، ففى الغابة، مكان بمساحة تزيد على ٢٠٠ متر مربع، ولم يبق من النار سوى الدخان، رفعت رأسى، وإذا ببقايا ثور أو بقرة، مرفوعة على ارتفاع أكثر من عشرة أمتار، بقيت لدقائق، ثم انتبهت إلى أننى وحيد فى غابة، لا تخلو من الأفاعى والحيوانات الـمفترسة.

■ كيف ترى تجربة النشر خارجيًا مقابل نشرك فى الدول العربية؟
- فى أعوامى الثمانية الأولى، بين 1997- 2005 للميلاد، كنت نشيطًا فى الحياة الثقافية فى العاصمة وضواحيها، فضلًا عن نشاطات، فى مدن أخرى، وصدرتْ لى أربعة إصدارات. الناشر الأجنبى يمتاز بالـمصداقية والشفافية، لأننى استلمت رسائل عديدة من الناشر، مثلًا، أماكن التوزيع، وفى العام الأول، كل شهر رسالة رقمية «الإيميل» تتضمن عدد النسخ المباعة، وأماكن البيع، بعد مرور عام، أصبح كل ستة أشهر، ثم كل عام.
الناشر العربى، فى الغالب الأعم، لا يخبر الكاتب بعدد النسخ التى باعها، لهذا أشعر بالفرح والامتنان، كلما أخبرنى ناشرى الأستاذ الشاعر والـمترجم حُسين نهابَة مالك ومدير «مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع» مقرها بابل- العراق بأنه باع نسخًا من كتبى التى نشرها لىّ، حتى لو أن شخصًا راسله لشراء نسخة من أحد كتبى، فهو يخبرنى، وهذا إن دلّ فيدل على أن الأستاذ حسين نهابة يعى أهمية احترام الناشر للكُتّاب الذين ينشرون عنده، ومن هذا المنبر الإعلامى، أتقدم بالشكر الجزيل للصديق الشاعر والناشر حسين نهابة؛ وهذه بحق تقاليد حضارية، أرجو أن تسود بين الناشرين قاطبة.