مشروع المعارف.. إيهاب الملاح: السندباد والأندلس والدروز مفاجآتنا المقبلة فى «دار المعارف»

- إصدار 125 عنوانًا جديدًا للمرة الأولى خلال عام
- «جينات المصريين» حصد جائزة أفضل كتاب علمى فى معرض القاهرة الدولى
- أسندتُ إدارة «اقرأ العلمى» إلى طبيب شاب نابغة وكان عند حسن ظن الجميع
لم يكن تعيينه فى منصب المشرف العام على النشر والمحتوى بـ«دار المعارف»، المؤسسة التى يفوح منها عبق الريادة الثقافية فى مصر، حدثًا إداريًا عابرًا، بل بمثابة بشرى لعودة الوعى والتألق لصناعة الكتاب المصرى، حيث استبشر الكُتاب والقراء بقدوم رجل أسّس لنفسه حضورًا رصينًا فى وجدان المشهد الثقافى، عبر مؤلفات جادة ومراجع أثنى عليها النقاد والمثقفون.
وبعد مرور عام كامل على توليه منصبه، يمكننا القول إن إيهاب الملاح، الكاتب والناقد والباحث فى التراث، ومدير تحرير مجلة «أكتوبر»، قد تمكن بسرعة من ترميم ذاكرة المؤسسة، مستخرجًا كنوزها الدفينة، ومستحدثًا سلاسل نوعية من أبرزها «اقرأ العلمى»، التى خطف أحد إصداراتها جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب 2025.
وبين الحصاد الزاخر والتطلعات المتجددة، تحاور «حرف» إيهاب الملاح لنتعرف على كواليس المرحلة الماضية من العمل فى إدارة النشر، ونستشرف ملامح خطة العام المقبل فى دار تعيد رسم وجه النشر الرسمى بثقة وطموح.

■ عام مضى منذ توليك المسئولية فى مؤسسة «دار المعارف».. ما النجاحات التى حققتها فى هذا العام؟
- انتهينا- بحمد الله- من إعداد خطة إصدارات العام الجديد «٢٠٢٥/ ٢٠٢٦»، بعد نجاح كبيرٍ بشهادة الجميع فى مصر وخارجها، وهو النجاح الذى كُلِّل بجوائز وتكريمات وشهادات تقدير عن جهد عام واحد فى مؤسسة دار المعارف بعد التغييرات التى تمت، وتولى إدارة المؤسسة المهندس رزق عبدالسميع، والذى شرفنى مشكورًا بأن أكون على رأس الفريق المسئول عن النشر بالدار.
كانت النتيجة أو الحصيلة خلال عام «بدأ فى يونيو ٢٠٢٤ وانتهى بنهاية مايو ٢٠٢٥» مذهلة، على كل المستويات، أصدرنا قرابة الـ١٢٥ عنوانًا جديدًا، تصدر للمرة الأولى عن دار المعارف، وتحقق فى مجملها رؤية تتمثل فى استعادة التقاليد والإرث المعرفى الذى تميزت به دار المعارف طوال ١٣٥ سنة كاملة.

النتيجة أننا استأنفنا سلاسل عظيمة كانت توقفت لما يزيد على العقود الثلاثة، وبدأنا نزودها بعناوين جديدة، واستئناف ما انقطع منها، مثل السلاسل العريقة جدًا «اقرأ»، و«فنون الأدب العربى»، ومكتبة الدراسات الأدبية، والتاريخية، والفلسفية.. إلخ.
وتم استحداث سلاسل جديدة تغطى حاجتنا المعرفية والعلمية الضرورية، وعلى رأسها سلسلة «اقرأ العلمى» التى أسندتُ إدارة تحريرها إلى طبيب شاب نابغة ومترجم ومحترف وعضو هيئة تدريس بكلية الطب، وهو الدكتور أحمد سمير سعد، والحقيقة لقد كان عند حسن ظنى، وعند حسن ظن الجميع، وخلال عام واحد أصدرنا قرابة الكتب العشرة، حققت نجاحًا باهرًا فى هذه السلسلة، ومنها كتاب حصل على جائزة أفضل كتاب علمى ضمن جوائز معرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠٢٥ وهو كتاب «جينات المصريين»، وأتصور أن كل ذلك يمثل نجاحًا كبيرًا بفضل الله.

■ ماذا عن الإصدارات التى أعدت طباعتها من كنوز الدار؟
- أصدرنا نحو ١٢٥ عنوانًا وربما ١٥٠ من روائع وكنوز الدار التى اشتهرت بها طوال تاريخها، وأعدنا إصدار مجموعة من روائع وكنوز الأعمال فى التراث العربى، وفى الأدب، وفى الكلاسيكيات، وفى أدب الأطفال، نالت استحانًا كبيرًا جدًا واستقبلت بحفاوة فى مصر وخارجها، ويكفى فقط أن أقول إنه عندما أعلنا عن إعادة إصدار المجموعة الكاملة من «تاريخ الطبرى» فى ١١ مجلدًا، شاهدنا حجم تهافت عليها لأول مرة، وبكميات وطلبيات كبيرة من خارج مصر، وكانت النتيجة أن الطبعة كلها نفدت فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الماضى.

■ هل ستكون هناك طبعة جديدة من «تاريخ الطبرى»؟
- بالطبع، نحن نلبى حاجة السوق التى اتضح أنها متعطشة للقراءة، وبصدد إصدار طبعة جديدة، أعتقد أن هذا فى حد ذاته نجاح كبير جدًا، أنت فى النهاية تتحدث عن مؤسسة حكومية ليست بعيدة عن السياق العام الذى كنا نعانى منه فى العشر سنوات الأخيرة فى الظرف الاقتصادى الصعب، والظروف العامة التى تحيط بنا فى الإقليم، وكل هذا يفرض تحديات وصعوبات شديدة، وفى وسط هذه الظروف حاولنا أن نعمل برؤية واضحة، وبسياسة محددة، ونحاول استغلال كل ما هو متاح من هذا الإرث ونتجاوز الصعوبات قدر المستطاع، وكانت النتيجة ما تحقق، والتفت الناس للجهد المبذول ليس فقط على المستوى المحلى، وإنما على المستوى العربى أيضًا.

■ ألا تفرض عليكم هذه النجاحات تحركات جديدة؟
- بالطبع، فالقصة ليست فى النجاح، وإنما فى استمراره، والبناء على هذا النجاح، والانطلاق منه لآفاق أبعد، كمًا ونوعًا، وبالتالى كنا حريصين أن نعد خطتنا التالية لموسم النشر الحالى «٢٠٢٥/ ٢٠٢٦»، بناء على الفلسفة ذاتها وبنفس السياسة التى تراعى وضعية الدار، وتاريخها ومساحاتها التى تكاد تنفرد بها عن غيرها من الدور الأخرى، بأن تكون لدينا مجموعة من الإصدارات الجديدة، فى كل فروع المعرفة التى تنتج فيها الدار كتبها، وأن تكون هناك أسماء جديدة من أجيال مختلفة، وفى مسار موازٍ، تعيد نشر مجموعات أخرى من كنوز المطبوعات ونوادر الدار وكلاسيكياتها التى اشتهرت بها طوال تاريخها، وتجدد مرة أخرى رفدَ المكتبة العربية بعيون هذه الإصدارات فى الأدب واللغة والتراث والتاريخ والفلسفة وأدب الأطفال.. إلخ.

■ ألم تتضح بعد ملامح خطة النشر الجديدة؟
- بالتأكيد، أحب أن أنوه إلى أننا بصدد الإعلان قريبًا عن مفاجأة كبرى للمهتمين بالآداب وبعلوم اللغة وبالثقافة الأندلسية، والحضارة الإسلامية فى الأندلس، وذلك بنشر الأعمال الكاملة لأهم وأكبر أستاذ متخصص فى هذه الدائرة، ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله. هذا العالم الجليل والموسوعى الفذ منذ رحيله قبل ما يزيد على عشر سنوات، ولم يهتم أحد بجمع هذا التراث العظيم ولا بترتيبه ولا بنشره، ولهذا فقد اعتبرته «مشروعًا شخصيًا» أعمل عليه بكل جهدى حتى قبل أن أتولى مسئولية النشر بدار المعارف.
وهذا المشروع- من وجهة نظرى- أعتبره أهم حدث ثقافى فيما يخص إرث أحد أكبر العقول المصرية والعربية فى نصف القرن الأخير، وسوف نعلن عن هذا المشروع خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر. هذا المشروع الكبير الضخم الذى يقدم للمكتبة المصرية وللمكتبة العربية، وحتى للآداب العالمية وبالأخص فى دائرة الدول الناطقة بالإسبانية، لأن هذا الرجل كان ملء السمع والبصر بين أبناء هذه الثقافات؛ باعتباره شيخ شيوخ الدراسات الأندلسية والآداب الإسبانية والمقارنة التى هى مساحة تلاقٍ خصبة بين الثقافتين العربية والإسبانية، كما تجلت على أرض إسبانيا والبرتغال فيما عرف بالأندلس.

■ هل هناك أعمال أخرى بخلاف هذا المشروع الكبير؟
- نعم.. لدينا مجموعة أعمال الناقد الكبير الدكتور محمد بدوى التى تشرفنا بالبدء فيها منذ العام الماضى، وهناك ثلاثة كتب ستظهر تباعًا خلال الفترة المقبلة، ويكتمل عقدها أو نظمها فى معرض القاهرة للكتاب ٢٠٢٦.
كما أن لدينا مجموعة أعمال الناقدة الكبيرة الدكتورة مارى تريز عبدالمسيح، وهى واحدة من أشهر المتخصصين فى النقد الأدبى والدراسات الثقافية وفى الأدب المقارن، ليس فى مصر فقط وإنما فى العالم كله، وهى اسم له رصانته وإنجازه، هذا عن الدراسات الأدبية والنقدية.

أما فى دوائر أخرى ومنها دائرة «الكلاسيكيات القريبة»، فهناك طبعة دار المعارف الأصلية من مجموعة أعمال الكاتب المصرى الكبير والعظيم أحد أبرز الأسماء من جيل النهضة، الدكتور حسين فوزى، أنت لا تستطيع أن تتحدث عن طه حسين وتوفيق الحكيم وهيكل والمازنى دون أن تشير لحسين فوزى وأدواره الثقافية الكبرى، كان عبارة عن دائرة معارف تسير على قدمين، درس الطب وتخصص فى علوم البحار، وكان من كبار متذوقى الموسيقى الكلاسيكية وصاحب إسهام كبير جدًا فيها، فضلًا عن إدارته العديد من المؤسسات فى الفترة الناصرية.
وصاحب فضل كبير على الثقافة المصرية؛ فهو مؤسس البرنامج الموسيقى، وأحد الضالعين فى تأسيس مصلحة الفنون التى تحولت بعد ذلك إلى وزارة الإرشاد، فضلًا عن صداقاته بكبار المبدعين فى ذلك الوقت وقربه من الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد كامل حسين وغيرهم.
لكن أهم أعماله تلك المجموعة الفريدة جدًا فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية التى اتخذ من قناع «السندباد» أو من رمزية «السندباد» عنوانًا لها فى كتبه التى صدر معظمها عن دار المعارف منذ خمسينيات القرن الماضى وحتى رحيله فى ١٩٨٨، ونحن نعدها كاملة إن شاء الله فى طبعاتها الأصلية، وحتى ما لم ينشر منها فى الدار، سننشره بإخراج فنى جديد، وأغلفة معاصرة.

وتشمل هذه المجموعة كتبه الأساسية؛ منها: «سندباد مصرى.. جولات فى رحاب التاريخ»، و«سندباد عصرى»، ومنها «حديث السندباد القديم»، أحد أجمل وأمتع الكتب التى أعادت قراءة تراث الحكايات والقصص الخيالية والأسطورية فى أدب البحر وفى الجغرافيا الخيالية، ثم بقية كتبه تباعًا، وهو لديه مجموعة كتب أخرى مهمة غير «السندباديات»، منها كتابه فى تاريخ النهضة الأوروبية «تأملات فى عصر الرينسانس»، وهذا كتاب أكثر من ممتع، ولا تملك نفسك من الإعجاب بهذه القدرة على الهضم والاستيعاب وتلخيص مسيرة النهضة الأوروبية فى هذا الحيز المحدود من الصفحات، هو كتاب صغير جدًا لا يتجاوز الـ١٢٠ صفحة من القطع الصغير، لكنه أحد أفضل الكتب التى كتبت بالعربية عن عصر النهضة الأوروبية.
وفى مسار موازٍ، لدينا باقة من أقدم مطبوعات دار المعارف التى ظهرت فى الأربعينيات والخمسينيات، واتسمت بقيمتها الكبيرة فى الأدب وفى الشعر وفى التاريخ وفى التراث وفى الثقافة الدينية وفى السيرة النبوية، يعنى لدينا ما لا يقل عن ٢٥ كتابًا نادرًا من هذه النوعية القيمة.
وسنبدأ بكتابٍ منها أعده من أمتع كتب التراث الأدبى التى أُلفت على غرار كتاب «الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى، كتبه واحد من أشهر كتاب القرن العشرين المصريين، رغم أنه لم يحظ بالشهرة التى تليق به، وهو كتاب ممتع عبارة عن سياحات واسعة، وجولات فى تاريخ الثقافة العربية، والأدب العربى، فى شعره ونثره فى موضوع محدد «ألحان الحان»، ويكفى فقط أن أقول إن هذا الكتاب قد أخرجه وصمم غلافه الفنان الكبير الراحل حسين بيكار، الذى كان فى هذا الوقت أحد الرسامين المعروفين بدار المعارف فى فترة شبابه.
فضلًا عن مجموعاتنا التى أسسنا لها، وسيتم الإعلان قريبًا عن أربعة كتب جديدة فى سلسلة «اقرأ العلمى» ومثلها فى سلسلة «اقرأ» الشهرية، بالإضافة إلى الدفعة الثانية من سلسلة «روائع اقرأ» التى أقوم باختيار عناوينها بدقة مما تم نشره عبر تاريخ هذه السلسلة العريقة الذى يتجاوز ٨٠ سنة.

■ هل هى ذات السلسلة التى صدر منها العام الماضى ٢٥ عنوانًا؟
- نعم.. أصدرنا منها العام الماضى ٢٥ عنوانًا كما ذكرت، ونستكمل هذا العام الدفعة الثانية بنفس العدد حوالى ٢٥ عنوانًا من الطبعات الأصلية التى صدرت فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، وستكون ضمنها كتب نادرة لـ«العقاد والمازنى، وطه الراوى، ووداد سكاكينى، وإسحاق الحسينى، ومحمد كرد على، وعلى الجارم، وسعيد العريان».

■ ما أحدث إصدار تنوون الإعلان عنه خلال الأيام القليلة المقبلة؟
- خلال أيام وبمكتبات الدار وفروعها بالمحافظات، ستظهر طبعة جديدة من الكتاب المرجعى القيم والنادر «طائفة الدروز.. تاريخها وعقائدها» للدكتور محمد كامل حسين، فقد أدت الأحداث الدامية التى شهدتها مدينة «السويداء» بسوريا الشقيقة إلى بحث الكثيرين عن تاريخ وخصوصية أبناء هذه المدينة من طائفة الدروز أو «الموحدين» كما يطلقون على أنفسهم، خصوصًا أنها طائفة ذات طبيعة خاصة، يغلفها الكثير من الغموض والأسرار.
ويأتى هذا الكتاب الذى ألفه واحد من أكبر المتخصصين فى أدب الفاطميين وعقائد الشيعة ومذاهبهم، بعنوان «طائفة الدروز.. تاريخها وعقائدها»، والذى صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف فى مطالع ستينيات القرن الماضى «1962»، ليجلى شيئًا من هذا الغموض حول هذه الطائفة، ويقدم دراسة دقيقة وموثقة عن تاريخ هذه الطائفة وعقائدها، استنادًا إلى خبرة المؤلف المتراكمة والعميقة ببحث تاريخ المذاهب الشيعية الباطنية، وعلى رحلاته المتعددة لجبل «الدروز» وصداقته بشيوخ العواقل الذين أمدوه بالمخطوطات النادرة التى لم يتيسر لغيره الحصول عليها.