الخميس 25 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رسالة خاصة إلى «حرف» على هامش قضية «رد الاعتبار للسادات»

حرف

- لقد حرر السادات الأرض التى تركها عبدالناصر محتلة وحقق السادات النصر لبلد تركه عبدالناصر مهزومًا

- حقن السادات دماء الشباب بعكس «حروب ناصر العبثية»

- إنهم يستكثرون على السادات أن ينتصر ويحرر الأرض

- لولا السادات لصار مصير سيناء مثل الجولان وغزة والضفة والقدس.. ولولاه لفقدنا كرامتنا

- ينسى كهنة الزعيم عبدالناصر أنه وافق قبل موته على مبادرة روجرز الأمريكية من أجل السلام

كاتبنا وصديقنا النبيل الدكتور محمد الباز:

أطيب تحية لقلمك الشجاع الذى يجدف أحيانًا ضد التيار مصداقًا لقناعاتك، وهو الاختيار الأفضل لمن يحترم نفسه، أو كما قال إخناتون رافع راية التوحيد: «لا يهم أن يصدقنى الناس، لكن المهم أن أصدق نفسى».

ترددت ذات مرة فى الكتابة إليك عندما نشرتم ترجمة لكتاب أجنبى اعترف فيه د. نصر حامد أبوزيد بالمثلية والمثليين!، وشعرت وقتها بأن مثل هذا الموضوع يسدل الستار على ما تبقى من التعاطف مع رجل كان يجدف فى الدين: «أنا لست حكمًا عليه، ولكن أرجوك ارجع إلى حيثيات الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته»، فأصبح رمزًا لحرية الفكر المضطهد.. وقد حاولت أن أقرأ بعض كتبه.. ثقيلة ومعقدة وأسلوبه متحذلق، وأدلته متهافتة، ولم أستطع استكمالها- لا أعرف مَن كان يخاطب، أو إلى مَن يتحدث؟- ربما كان فهمى سقيمًا، حاول أنت يا دكتور أن تقرأها إن لم تكن قد قرأتها، ولكنك لن تستطيع نشر محتوياتها.. المهم أننى حسمت أمرى ولم أكتب تعليقًا على ما نشرته «حرف»، واكتفيت بحسن ختامكم للموضوع المنشور بإباحة العذر للرجل المضطهد فى بلده فحاول أن يجد متنفسًا خارجها، بمجاملة الغرب، حتى ولو على حساب قناعاته.

توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل برعاية أمريكية

أما الموضوع الآخر الذى أنصفتم به الرئيس أنور السادات الذى ليست له كهنة يتعبدون فى محرابه، وليست له شلة تنتفع بميراثه، لذلك أسعدنى وأفرحنى ما خطه قلمكم، كما يجب أن يسعد ويفرح كل مصرى وطنى، لأنه هكذا تستقيم الأمور، وسط اعوجاج أقلام لا ينبعث ما تكتبه من ضمائرها، بل من أحقادها، ولا أدرى ماذا فعل لهم السادات، وماذا فعل بهم ليحتفظوا له ويحافظوا على هذه الكراهية؟، لقد اعترف واحد منهم، هو محمود السعدنى، على صفحات مجلة «المصور» أنه فى سجون عبدالناصر كانت تغمر وجوه المعتقلين فى مياه «المجارى»، بينما فى سجون السادات كانوا يكرمون بالطعام الساخن يأتيهم من بيوتهم، ويخرجون من السجون بكامل أناقتهم، ألم يقل عبدالناصر أنه الذى علّم المصريين الكرامة، فى خطابه بالمنشية بالإسكندرية بعد نجاته من محاولة الإخوان اغتياله، وكأن المصريين لم يعرفوا الكرامة قبل عبدالناصر، ثم علّمهم إياها فى سجونه ومعتقلاته!

مراد غالى

ثم يخرج المعتقلون من سجون عبدالناصر بعد إهانتهم وتعذيبهم، ليمدحوه بحجة أنه حقق أهدافهم الثورية، بينما يلعنون السادات الذى لم يهنهم ولم يعذبهم، لأنه مشى على طريق عبدالناصر بأستيكة، فما هو طريق عبدالناصر؟ 

لقد حرر السادات الأرض التى تركها عبدالناصر محتلة، وحقق السادات النصر لبلد تركه عبدالناصر مهزومًا، وحقن السادات دماء أجيال من الشباب فى حروب أدخلنا إياها عبدالناصر دون جدوى، حتى إنه نفسه اعترف علنًا فى خطاب مذاع بأنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين، وهو ما أغضب من لا تعجبهم الصراحة، ويصدمهم الصدق، وتخيفهم الحقيقة.. يومها سارع الشقيرى الزعيم الفلسطينى «قبل ياسر عرفات» معاتبًا عبدالناصر أن تصريحاته تُفقد الفلسطينيين الأمل.. حتى ضاع الأمل تمامًا باحتلال إسرائيل الضفة الغربية وغزة فى حرب يونيو ١٩٦٧، والجميع يعلم أنها حرب لم يكن لها مبرر، ولم يكن لدينا استعداد لها على افتراض ضرورتها، بينما جزء مهم من جيشنا فى اليمن، وعبدالناصر يعترف فى محاضر مجلس الوزراء التى نشرها عبدالمجيد فريد- أمين رئاسة الجمهورية- بأنه كان من المفترض أن يسحب قواته من اليمن لتحارب فى سيناء، ولكنه خشى سحبها حتى لا يتعطل انسحاب الإنجليز من اليمن! 

أحمد سعيد

كهنة الزعيم يفخرون بعروبته إلى درجة تقديم القومية العربية على القومية المصرية، وهو ما ظهر فى لقاء الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان مع عبدالناصر، التى أعلنت ونشرت فى مذكراتها عن أنه قال لها: «لا تهمنى سيناء، تهمنى القضية الفلسطينية»، وقد حاول رجاء النقاش فى مقال له بصحيفة «الأهرام» تبرير ما قاله الزعيم بأنه يقصد أن سيناء سهل الحصول عليها دون التصدى للشأن الفلسطينى، ومن ثم تصبح فلسطين هى الأهم.

«ملحوظة: كان سامى شرف سكرتير عبدالناصر يوقّع تحت اسمه فى مقالاته (بالأهرام) بصفته: قوميًا عربيًا مصريًا- مقدمًا عروبته على مصريته على خطى الزعيم».

وظلت إسرائيل بسفنها تعبر قناة السويس، ولا أحد يعلم أن هذا هو الثمن الذى قبل به عبدالناصر مقابل انسحاب إسرائيل من شرم الشيخ بعد العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦، فى اتفاق سرى لا يعلم به الشعب، حتى فوجئنا بإغلاق عبدالناصر المضايق أمام الملاحة الإسرائيلية، فكان ذلك بمثابة إعلان حرب، وذريعة لتقوم إسرائيل بعدوانها، بينما حكومة الملك فاروق هى من أغلقت المضايق فى وجه الملاحة الإسرائيلية بعد حرب فلسطين عام ١٩٤٨ فى ظل وجود الاحتلال الإنجليزى لمصر؛ حتى إن سفينة إنجليزية حاولت كسر الحظر، فتصدى لها حرس البحرية المصرية واعتلوها وأوقفوها، واحتج الإنجليز لدى حكومة النحاس «الأخيرة عام ١٩٥٠» التى أبلغتهم بأنها سبقت أن أعلنتهم وكل دول العالم بحظر مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس، فسحبت بريطانيا العظمى احتجاجها وقدمت اعتذارها.. هذه حقائق تاريخية مسكوت عنها، لكى تظل صورة عبدالناصر المناضل وحده ضد الاستعمار والصهيونية، رغم أنه لم يحقق نصرًا فى حرب، ومن ثم جعله الناصريون واليساريون «عبدالناصر زعيم القرن والسادات الخائن الأعظم» (مانشيت جريدة العربى الناصرى فى مطلع القرن الواحد والعشرين)، فما خيانة السادات؟ إذا كان نصر أكتوبر، وتحرير سيناء خيانة، فما النصر إذن؟ أليس هذا الحول السياسى؟

وتظل اللبانة التى يلوكونها أن السادات باتفاقية كامب ديفيد أخرج مصر من الصراع العربى- الإسرائيلى وتخلى عن القضية الفلسطينية، ولولا ذلك ما فعلت إسرائيل ما فعلته بلبنان والفلسطينيين، فى حين أن عبدالناصر الذى لم يتخل عن القضية الفلسطينية ضاعت على يديه ما تبقى من الأرض الفلسطينية «الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية»، فضلًا عن الجولان، ضاعت بسبب عبدالناصر باعتراف هيكل نفسه الذى ذكر فى مذكراته عن حرب يونيو بمجلة «الكتب.. وجهات نظر»، أن عبدالناصر اتصل بالقيادة السورية ليعلنها بقبول وقف إطلاق النار، وينصحها بأن تقبله سوريا أيضًا، التقطت إسرائيل المكالمة فأيقنت بالعجز العربى، فأصدر موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى أوامره باحتلال الجولان، وكانت خارج خطة إسرائيل، يبقى اللغز الكبير الذى حير أحمد سعيد «الذى حمّلوه وزر الهزيمة بسبب البيانات العسكرية غير الحقيقية التى كان يذيعها عن سير المعركة، مع أنه كان يتلقاها وهو فقط يلقيها ولا يؤلفها، بينما هيكل نفسه- باعتراف صلاح منتصر- كان يقوم بتزوير البيانات العسكرية، كأن يكون البلاغ العسكرى أبلغ بإسقاط عشرين طائرة إسرائيلية فينشر هيكل فى (الأهرام) أربعين، فيراجعه صلاح منتصر فيقول له: حين يصدر (الأهرام) تكون الطائرات قد بلغت هذا الرقم!»..

قال لى أحمد سعيد إن وكالات الأنباء أذاعت فى اليوم الثانى لحرب يونيو أن أمريكا والاتحاد السوفيتى «روسيا الآن» اتفقتا على وقف إطلاق النار، وقد وافقت إسرائيل، فلما تحدث أحمد سعيد مع سامى شرف إذا كان ممكنًا إذاعة الخبر بإذاعة «صوت العرب»، فاستمهله حتى يستأذن عبدالناصر الذى لم يكن قد وافق بعد على وقف إطلاق النار، وظل أحمد سعيد منتظرًا حتى الساعة الحادية عشرة ليل يوم السادس من يونيو، فأعاد الاتصال بسامى شرف الذى أخبره بأن عبدالناصر رفض وقف إطلاق النار، فدهش أحمد سعيد وقال لسامى شرف: كيف لا نقبل وقف النار وقد دُمر سلاح الجو المصرى، إنها فرصة لإنقاذ قواتنا وإيقاف إسرائيل عن احتلال سيناء، فقال له سامى شرف: الرئيس أدرى بالموقف- ولما سأل أحمد سعيد هيكل بعد احتلال سيناء: لماذا لم يقبل عبدالناصر وقف إطلاق النار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟، ابتسم هيكل وقال: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم- حسب رواية أحمد سعيد لى والمتضمنة شهادته وذكرياته فى كتاب لى عن «صوت العرب» لم يُنشر بعد.

فلماذا لم يقبل عبدالناصر وقف إطلاق النار وينقذ جيشه بعد تدمير الطيران المصرى؟

تعالوا نحاول استكشاف السر فى مذكرات مراد غالب، سفيرنا فى موسكو، ووزير الخارجية بعد ذلك، يحكى أن عبدالناصر كان يجتمع بكل المسئولين لتدارس الدروس المستفادة من الهزيمة التى هندسها هيكل باسم النكسة تخفيفًا، ما علينا، أثناء الحوار مع عبدالناصر قال له مراد غالب: على كل حال إذا لم تكن للهزيمة من فائدة سوى التخلص من المشير عبدالحكيم عامر، فهذا يكفى- وهنا أطال عبدالناصر النظر فى وجه مراد غالب- حسب روايته- وأنهى اللقاء، وقال له إنه سيستكمل معه اللقاء فيما بعد، وهو ما لم يحدث حتى وفاة عبدالناصر، وحلل أحمد سعيد الموقف حسب خبرته فى التعامل مع عبدالناصر أنه حينما يرى محدثه قد كشف بعض ما بداخله، يُنهى الحوار بنظرات الدهشة، لأن محدثه قد فاجأه بمكنون ما يخفيه فى نفسه.

ولكى تكتمل الصورة لنقرأ محاضر اجتماعات مجلس الوزراء بعد الهزيمة التى نشرها عبدالمجيد فريد أمين رئاسة الجمهورية، والتى يعترف فيها عبدالناصر بعجزه عن إبعاد عبدالحكيم عامر عن الجيش بعد فشله فى حرب ٥٦، وفشله كنائب لعبدالناصر فى سوريا أثناء الوحدة، واعترف عبدالناصر بأنه استبقى عامر حتى لا يصطدم به ويضع البلد فى صراع لا تحمد عواقبه، ومن ثم لم تكن هناك فرصة للتخلص من عامر إلا بعد الهزيمة، ليتم تحميله وزرها مع أنه صنيعة عبدالناصر الذى صمم عليه قائدًا للجيش بعد الثورة ورقاه عدة رتب ليتجاوز آخرين أكثر علمًا وخبرة، لمجرد أنه صديقه الذى يضمن به ولاء الجيش، بصرف النظر عن كفاءته فى قيادة الجيش، ثم يحمّلونه بعد ذلك وزر الهزيمة تبرئة لعبدالناصر رغم اعترافه بأنه مستعد لتحمل مسئولية النكسة، لاحظ تعبير «مستعد» ولم يقل إنه «يتحمل»، وتلك من تعبيرات هيكل كاتب خطابات عبدالناصر، كما صك تعبير «النكسة» بدلًا من الهزيمة، وكأن الكلمات المراوغة قادرة على إخفاء الحقيقة، كما حاول إخفاء حقيقة نصر أكتوبر بتعبيره أن السياسة التى اتبعها السادات خذلت السلاح.

أرجو من الكارهين للسادات أن يسألوا أنفسهم: ماذا لو لم يحارب السادات وينتصر، ويستكمل نصره بمفاوضات السلام ويسترجع كامل سيناء، ألم تكن سيناء مصيرها اليوم كالجولان والضفة وغزة والقدس، وكانت إسرائيل قد حققت خطتها اليوم بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء كوطن بديل؟ 

لقد تجاهل خصوم السادات أنه جعل للقضية الفلسطينية ملحقًا باتفاقية كامب ديفيد ينص على الحكم الذاتى بعد فترة انتقال خمس سنوات، والرئيس الأمريكى كارتر بنفسه اعترف فى حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية عام ٢٠٠٨، بأن بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلى كان مستعدًا للانسحاب الكامل من الضفة وغزة، واستمرت مصر تفاوض بقيادة د. بطرس غالى مع غياب الطرف الفلسطينى، رغم أن السادات رفع العلم الفلسطينى فى ميناهاوس جنبًا إلى جنب مع العلم الإسرائيلى بحضور المفاوض الإسرائيلى، مع غياب المفاوض الفلسطينى الذى رفض الدعوة، وخوّن مصر ورئيسها، ليعود ياسر عرفات مفاوضًا إسرائيل سرًا فى أوسلو بعد رحيل السادات ليتم حصره فى رام الله وتسميمه، لتظل السلطة الفلسطينية شكلًا بلا مضمون تحت حصار إسرائيلى استكمل حلقاته بعد مقامرة السابع من أكتوبر الحمساوية، ليتم ضم الضفة عمليًا حتى ولو بغير إعلان، فالإعلان لم يعد مهمًا لإسرائيل بعد التحذيرات العربية والدولية، ولكن الحقائق على الأرض تقول إن إسرائيل ماضية فى غيها.

فمَن الذى ضيّع القضية الفلسطينية ؟ أم هو الجحود والنكران لمصر وحكامها على مر العصور منذ نكبة فلسطين عام ١٩٤٨، التى سقط لمصر خلال حروبها ما يقرب من المائة ألف شهيد، حتى إذا قررت مصر أن تتصرف بعقلانية وتسترد أرضها، فإنها تكون قد تخلت وخانت، بينما اليوم حسب الاتفاقات الإبراهيمية للتطبيع مع إسرائيل التى ترعاها أمريكا منذ دعا إليها أوباما، لا أرض مقابل السلام، حسب تصريحات نتنياهو: «انتهى عصر الأرض مقابل السلام، اليوم السلام مقابل السلام»! يعنى قبض الريح!

ينسى كهنة الزعيم عبدالناصر أنه وافق قبل موته على مبادرة روجرز الأمريكية من أجل السلام، وأنه- أى عبدالناصر نفسه- خاطب الرئيس الأمريكى نيكسون على الهواء طالبًا منه التدخل بنفسه لحل المشكلة مع إسرائيل، وماذا فعل السادات غير ذلك مُجبرًا أمريكا على الحل بعد انتصاره فى حرب أكتوبر، وقد عابوا عليه مقولته إن ٩٩ فى المائة من الحل بيد أمريكا، ألم تثبت الأحداث لهم اليوم هذه الحقيقة فى أحداث غزة المشئومة، التى يعتبرونها صمودًا، فأى بصر وبصيرة يشاهدون بها الأحداث، ولكنه عمى القلوب.

أعرف كتّابًا ناصريين ويساريين يتحدثون إيجابيًا عن السادات، ولكنهم لا يستطيعون التصريح.. لماذا؟ لا جواب، من هؤلاء صلاح عيسى، فلما قلت له: لماذا لا تعلن رأيك؟ قال إنه لا يستطيع، ولما سألت محفوظ عبدالرحمن لماذا لا يكتب فيلمًا عن «سادات ٧٣»، على غرار فيلمه «ناصر ٥٦»؟، قال لى إنه لا يقدر، كاتب ثالث ذكر لى أنه كلما زار شرم الشيخ للمصيف قرأ الفاتحة على روح السادات، ولكنه لا يكتب ذلك فى صحيفته! وكاتبة تطل علينا شهرًا كاملًا لتحدثنا عن عبدالناصر ونضاله على مدى حلقات من برنامجها، وفى ذكرى نصر أكتوبر مرت مرور- غير الكرام- على ذكر السادات عرضًا.

فكيف ترى يا دكتور هذه الازدواجية للمثقفين المصريين؟

وعلى ذكر هيكل، فقد كان على خطيئته ضد السادات فى «خريف الغضب» إلا أنه راجع نفسه بعد أن هدأ غضبه، ولكن مراجعته كانت فى «حارة»، بعد خريف غضبه فى «ميدان»، أعنى أنه حينما أراد أن يكون منصفًا تحدث فى نادى الصيد بالإسكندرية فى تسعينيات القرن الماضى، وقال إنه يعتذر للرئيس السادات بأثر رجعى، لأنه لولاه لظلت سيناء رهينة تحت السلاح الإسرائيلى. وقتها لم تنشر تصريحات هيكل المفاجئة سوى صحيفة «الوفد»، وحينما كتب قارئ لصحيفة «العربى» الناصرى يسأل عن أن هيكل قد قال ما قال، ردت عليه الصحيفة بأنها لا تعرف ولا تذكر أن هيكل قد صرح بما يسأل عنه القارئ!

إنهم لم يتركوا فضلًا للسادات إلا وجردوه منه، فضلًا عن تحويله إلى نقيصة، حتى بيان ثورة ٢٣ يوليو الذى أعلن عن قيامها بصوته، أنكروه عليه، بل إن تعيين عبدالناصر للسادات نائبًا له فسروه تفسيرات تثير الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء، اسمع واقرأ واشجينى، قالوا ومنهم سامى شرف، الذى قال لى شخصيًا فى حوار مسجل نشرته على صفحات «الدستور» الغراء، إن عبدالناصر عيّن السادات وقام بترقيته نائبًا لتحسين معاشه! وآخرون قالوا إن عبدالناصر علم بمؤامرة لاغتياله فى المغرب أثناء مؤتمر القمة الذى سيحضره هناك، فأراد تأمين البلاد بوجود نائب له، فعيّن السادات مؤقتًا حتى يعود، ثم يقيله، ولكنه نسى حتى مات، ومن ثم فالسادات جاء نائبًا لناصر بالصدفة، وبالتالى صار رئيسًا بالصدفة، غير أن أكثر التبريرات ضحكًا حتى تستلقى على قفاك، هو ما أورده عبدالمحسن أبوالنور فى مذكراته التى نشرتها هيئة الكتاب قبل رحيله، هو أن عبد لناصر كان يستريح فى بيت السادات لأن جيهان السادات كانت تطهو له محشى ورق العنب الذى كان يحبه، وتمنعه منه تحية عبدالناصر خوفًا على صحته تنفيذًا لنصائح الأطباء، فهل رأيت كيف كافأت رشوة محشى ورق العنب السادات ليصبح نائبًا ثم رئيسًا؟ إنهم يهينون زعيمهم، ويتهمونه بالبلاهة وسوء الاختيار للسادات، وكأن السادات ماسك له ذلة حتى يصعده فى هذا المنصب الرفيع، ومن قبل ضمه لتنظيم الضباط الأحرار، مع اتهام الكارهين للسادات بأنه كان عميلًا للملك فاروق فى تنظيمه «الحرس الحديدى» لاغتيال أعدائه، فلماذا لم يبلغ الملك عن تنظيم الضباط الأحرار طالما كان عميلًا؟، وقد اتهمه هيكل فى خريف غضبه بأنه كان يقبض من القصر الملكى مكافأة على عمالته، فى الوقت الذى لم يكن فيه قادرًا على الوفاء بتكاليف زواجه من جيهان، لولا وقوف أسرتها وتقديرهم ظروفه. فهل كان عبدالناصر غافلًا أو مغفلًا ليضم عميلًا للملك فى التنظيم السرى الذى سيعزل الملك، ثم ليجعله بعد ذلك نائبه الوحيد، بعد تخلصه من كل أعضاء مجلس الثورة ؟، فمَن الملوم أهو السادات الذى فرض نفسه على الزعيم، أم عبدالناصر الذى غاب وعيه وساء تقديره، فاختار للثورة عميلًا كلفه بإذاعة بيانها الأول، ثم بالغ فى مكافأته «نائبًا للرئيس» أمينًا على البلاد والعباد، وهو ذاهب إلى مؤتمر قد لا يعود منه إذا تم اغتياله حسب المعلومات المخابراتية التى تلقاها؟، فإما أن يكون السادات خادعًا مخادعًا وداهية الدواهى، أو يكون عبدالناصر عابثًا لاهيًا، أو غائبًا عن الوعى.

الأدهى مسلسل الكذب الذى مارسه هيكل ضد السادات منذ خريف غضبه، وهو يتهم السادات بقتل عبدالناصر بقهوة مسمومة، بعد أن صرف الطاهى، فكيف وقف هيكل بجانب السادات لتصفية رجال عبدالناصر فيما عرف وقتها بمراكز القوى، وهو يعلم أن السادات قتل زعيمه، أليست هذه خيانة للوفاء؟، الأعجب أن هيكل فى أحاديثه التليفزيونية الأخيرة مع لميس الحديدى أمسك بكتاب فى يديه به مذكرات كارتر يدعى فيه بأن كارتر أهان السادات أثناء مباحثات كامب ديفيد لأنه أراد أن يغادر بعد تعنت بيجين، فى الوقت نفسه كان عبدالمنعم سعيد فى أمريكا وجاء بمذكرات كارتر وكتب مقالًا بالأهرام كشف فيه عن تزييف هيكل الحقيقة، وهو أن كارتر رجا السادات ألا يغادر ويعطيه فرصة للتدخل بنفسه، وهو ما حدث ونجحت المفاوضات، بعد أن نجح السادات فى إقناع كارتر بوجهة نظره، والتحدث مع بيجين بوجهة النظر المصرية، وهو ما اعترف به وايزمان فى مذكراته، إنصافًا للسادات، فالأعداء يعترفون، والجاحدون فى مصر والكارهون ينكرون، أليس هذا من العجائب؟، لكن لا كرامة لنبى فى وطنه.

إنهم يستكثرون على السادات أن ينتصر ويحرر الأرض، بينما زعيم القرن لم يحقق ذلك، ولو حققه لكان عظيمًا، أما أن يتحقق النصر والتحرير على يد غيره فهو مذموم مكروه، كل ذلك لا يهم، لأن الحقيقة الناصعة وضوح شمس منتصف نهار شهر أغسطس، أن السادات هو بطل الحرب والسلام، بطل النصر وتحرير الأرض، بطل محو عار الهزيمة، واستعادة الكرامة، فهل ينكر من ينكر ضوء الشمس إلا من رمد، وهل ينكر شذى الورود إلا من زكم؟، وعلى رأى المثل الإنجليزى: «إنهم يقولون، ماذا يقولون؟، دعهم يقولون»، لأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث فى الأرض، رحم الله السادات الذى تمنى الشهادة- حسب رواية أخته سكينة السادات- فنالها من ربه خير جزاء، جزاء الشهداء «أحياء عند ربهم يرزقون»، ويكفى أن سيرته تتردد مع ذكرى النصر وتحرير سيناء، أمجد أيام مصر، وأسعد أعيادها.