إسكندرانى فى جناين الريح.. مصطفى نصر فى حواره الأخير: آلتى الكاتبة كائن حى!
- الكمبيوتر كان حلمًا من أحلامى واشتريته بقصة فى «العربى الصغير»
- فى كل حى بالإسكندرية كانت هناك سينما.. ودخولها بـ9 ملاليم فقط
- محمود حميدة اشترى حقوق رواية «يهود الإسكندرية» ليحولها إلى فيلم ومسلسل
قبل أيام، رحل الكاتب الكبير مصطفى نصر ليرحل معه جزء من تاريخ الإسكندرية، بعد أن نقلها صوتًا وصورة على الورق، من خلال كتاباته المتنوعة بين الرواية والقصة القصيرة والمقال والسيناريو، التى تميزت بقدرته الفائقة على التصوير الدقيق للشارع السكندرى، ما جعله أحد أبرز الأصوات الأدبية التى وثّقت ملامح المدينة الساحرة وأناسها البسطاء.
لن تجد أفضل من مصطفى نصر، الذى كتب «الجهينى» و«جبل ناعسة» و«يهود الإسكندرية» و«الهماميل»، وغيرها الكثير من الأعمال المتميزة فى شتى أجناس الأدب، ليصدق فيه قول سيد حجاب: «يا إسكندرانى.. يا بستانى ف جناين الريح/ يا قانى جواك سما.. وشمس.. وغنا تباريح/ أحلى ما فيك يا وله.. إنك جدع وصريح/ وطيب القلب.. تضحك.. حتى وأنت جريح!»
قبل حوالى عام، أجرت «حرف» حوارًا مع الكاتب الكبير مصطفى نصر، فى منزله بمحافظة الإسكندرية، ونشرنا جزءًا منه فى عدد سابق، مرفقًا معه خطابات بخط اليد من سعد مكاوى وجمال الغيطانى وغيرهما، وبقى جزء كبير من الحوار لم يُنشر بعد، نقدمه لقارئنا فى السطور التالية، كآخر حوار أجراه الكاتب الكبير قبل رحيله.

■ لك اهتمامات كثيرة فى شتى مناحى الكتابة.. كيف تفرق بين هذه الأجناس؟
- لى اهتمامات كثيرة بالفعل، فأنا أكتب رواية، وقصة، وقصة أطفال، وسيناريوهات أطفال، وكتبت أيضًا مقالات صحفية وأخرى للإذاعة، أذكر أن مدير تحرير لمجلة خاصة بالأطفال تواصل معى طالبًا سيناريوهات فتعجبت، فقد نسيت أننى أكتب للأطفال! ورغم ما فى هذه الأعمال من زحام كبير، عندما أكتب فى جنس أدبى أنسى وأنصرف عن البقية، فلو أكتب رواية مثلًا لا أفكر فى غيرها، هناك صديق يكتب قصة قصيرة، أخبرته أننى بين الرواية والأخرى أكتب القصة القصيرة فضحك، ثم قال لى متعجبًا: «أتستريح بالقصة القصيرة بين الرواية والرواية؟!». القصة القصيرة فن عظيم.
■ لماذا أنت مُقِل فى القصة القصيرة إذن؟
- هذا صحيح، أنا كتبت روايات أكثر، مقابل ٥ مجموعات قصصية فقط، وبعد أن ظللت لمدة طويلة بمجموعة قصصية واحدة. وللعلم، هناك مجموعات لى غير راضٍ عنها، بينما أكثر مجموعاتى القصصية نضجًا هى «حفل زفاف وجه الشمس»، التى تتحرك فى العلاقة بين الرجل والمرأة. وأرى أن المجموعة القصصية الناجحة تمسك بموضوع واحد فى شبه تكامل، أى أن هناك رابطًا يجمع بين قصصها.
■ كتبت عن السينما كثيرًا.. ما حدود علاقتك بـ«الفن السابع»؟
- دخول دور السينما قديمًا وأنا طفل كان بـ٩ ملاليم فقط، وفى كل حى بالإسكندرية كانت هناك سينما، مُقسمة جميعها بين درجة «أولى ممتازة» و«ثانية» و«ثالثة»، والفيلم الذى يُعرض فى الأولى، بعد أسبوع أو اثنين يُعرض فى «الثانية»، وبعد أسبوع أو اثنين آخرين يُعرض فى «الثالثة»، كل السينمات كانت تعرض الأفلام المصرية القديمة، فيما عدا سينما «الهمبرا»، التى كانت تعرض أفلامًا أجنبية. وأتذكر أيضًا سينما «ريتز»، التى كانت فى حى المنشية، وتعتبر أكبر سينما فى الإسكندرية. هذا العالم له تأثير كبير جدًا علىّ، فقد دخلت السينما قبل تعلم القراءة والكتابة، ورواياتى الأولى كانت متأثرة بالأفلام التى شاهدتها، لذا رميتها كلها ولم أنشر أيًا منها. فى البداية كتبت حكايات حدثت لى فى السينما، ثم قررت أن أكتب رواية عن السينما، وظل هذا الهاجس لدىّ، حتى شاهدت فيلم «سر طاقية الإخفاء» فقررت أن أكتب حكاية على هامش قصته، كتبت عن حكايات داخل السينما، بحيث لكل فيلم حكاية وواقعة معينة.

■ كان هناك مشروع لتحويل روايتك «الجهينى» إلى عمل سينمائى.. لماذا لم يكتمل؟
- نعم، هذا صحيح، أرسل مصطفى محرم رسالة لى يخبرنى فيها أن عاطف الطيب قرأ الرواية وسيخرجها للسينما، جاء فى الرسالة: «أتتنى روايتك (الجهينى) وقرأتها فور وصولها، وهذا شىء فوق طاقة هذه الأيام لانشغالى الشديد بالعمل، لكن ما حيلتى وقد أمسكت بى الرواية، وجذبنى حب الأحداث، ولم تتركنى شخصياتها، صدقنى أيها الأخ، إن روايتك (الجهينى) عمل فنى جميل يتسم بالصدق، وهو معالجة دقيقة للموضوع، ولم أصدق أن الذى كتبها هو كاتب فى مستهل حياته الأدبية. أعطيت الرواية لصديقى المخرج عاطف الطيب، بعد أن أبديت له رأيى، فإذا به يقابلنى وهو يصيح فرحًا بأنها عمل كبير، ويتمنى إخراجه للسينما. لذلك فإن الخطوة التالية هى العثور على المنتج المناسب الذى يتحمس لإنتاج الرواية للسينما، وهذا ليس شيئًا صعبًا، لكنه يحتاج إلى بعض الوقت، خاصة أننى مشحون بكثرة الأعمال، وأتمنى من الله أن يوفقنى على إنهائها. سأضع روايتك فى برنامجى، وأطلب منك ألا تتعجل بل اصبر، وسأتصل بك قريبًا عندما أجد المنتج، سأتصل بك لتوقيع عقد تحويلها إلى السينما»، لكن المشروع لم يُنفذ بسبب عدم وجود منتج.

■ هل هناك أعمال أخرى لك تحولت أو ستتحول إلى أعمال سينمائية أو درامية؟
- نشرت مجلة «الموعد» خبرًا يقول: «شريف عرفة، المخرج السينمائى الشاب، يأمل أن يخرج من الأزمة النفسية التى عاشها بعد سقوط فيلمه (الدرجة الثالثة)، وذلك عندما يرى نجاح الفيلم الذى بدأ الآن إخراجه، وهو يحمل عنوان (الرخام)، قصة الأديب السكندرى مصطفى نصر، على أن يمثل دورى البطولة فى الفيلم النجمان محمود عبدالعزيز وليلى علوى». ونشرت مجلة «روزاليوسف» نفس الموضوع، وذلك بعد أن أُعجب السيناريست ماهر عواد والمخرج شريف عرفة برواية «الصعود فوق جدار أملس»، وقررا تحويلها إلى فيلم سينمائى، مع تغيير الاسم إلى «الرخام». لكن لم أقابلهما، ولا أعرف ما الذى حدث بعد ذلك.
أما رواية «يهود الإسكندرية» فقد اشترى حقوقها الفنان محمود حميدة، فوجئت باختيارى للتكريم من قبل إمارة الشارقة فى دولة الإمارات، وهناك فوجئت بالفنان محمود حميدة وسط الحضور وقت التكريم، فطلبت من ابنى، وكان يرافقنى، أن يهديه نسخة من روايتى «يهود الإسكندرية»، فقال له: «لو لم يهدنى نسخة منها، كنت سأطلبها منه».
انتهى تكريم الشارقة وعدت إلى إسكندريتى ففوجئت بتليفون من الفنان محمود حميدة، بعد أن اتصل بحسين القباحى طالبًا منه رقم تليفونى. خلال الاتصال أثنى على الرواية. وبعد وقت قصير اتصل بى ثانية، وطلب شراء الرواية ليحولها إلى فيلم سينمائى ومسلسل تليفزيونى. الاتفاق تم بنجاح، وأشكر حسين القباحى لأنه كان السبب المباشر فيه.

■ كانت «الصعود فوق جدار أملس» أول أعمالك.. لماذا نشرتها على حسابك الخاص؟
- لا أحب الحديث عن أولى رواياتى «الصعود فوق جدار أملس»، فالحديث عنها حزين ولا أحبه. كتبتها على الآلة الكاتبة فى عام ١٩٧٧، بالتزامن مع معاناة كبيرة كنت أعيشها فى هذه الفترة، بعد أن سقطت من الطابق الثالث ونحن نبنى بيتنا، وكنت أعيش مع أبى، وزوجته التى جلبوها له من الصعيد عقب موت أمى، فضاعت أوراقى وتبددت كتبى، ومن بينها هذه الرواية، حتى قابلت صديقى محمد السيد عيد ورجب سعد السيد فسألانى عنها، فبحثت عن نسخة منها لدى صديق ووجدتها.
قدمت الرواية للمناقشة فى قصر ثقافة الحرية، وناقشها أيضًا الدكتور السعيد الورقى فمدح فيها حتى جعل الكثير يرغب فى قراءتها. عرضت على الأستاذة عواطف عبود، المشرفة على الندوة، أن تطبع الرواية، فى عدد خاص من مجلة «الكلمة» التى يصدرها قصر الثقافة. لكن صاحب المطبعة طلب ٣٠ جنيهًا مقابل ذلك. كما أن بعض رواد الندوة قدموا روايات لتُطبع مثل روايتى، والبعض أغضبه أن تطبع لى رواية، لذلك كله اضطررت لنشرها على حسابى.
■ هل صحيح أن جمال الغيطانى أسهم فى نشر أعمال لك؟
- عندما قرأت «وقائع حى الزعفرانى» للكاتب جمال الغيطانى أعجبتنى الفكرة جدًا، وتحمست لكتابة روايتى «الجهينى». قلت هذا الكلام له، وكنت مرتبطًا بكتابته، رغم أنه مُنع لفترة من الكتابة فى الصفحة الأدبية لجريدة «الأخبار»، إبان تولى حُسن شاه مسئوليتها، مقابل الاهتمام بمن هم أقل منه قيمة. كنت أحبه وألومهم على تصرفاتهم تلك.
وفجأة اُختير «الغيطانى» لتولى مسئولية الصفحة، بعد اختيار حُسن شاه لرئاسة تحرير «الكواكب»، بالتزامن أيضًا مع ترجمة روايته «الزينى بركات» إلى الفرنسية. كان يهتم بى إلى أقصى حد، لدرجة أنه فى مرة قال: «أريد الصفحة كلها عن مصطفى نصر»، فاعتقد مساعدوه أنه يمزح، لكنه أكد جدية طلبه، وبالفعل منحنى ثلثى الصفحة: حوار ومقال وصور.
نشرت روايتين فى «الهلال» أيام مصطفى نبيل بفضل جمال الغيطانى، أولها «الهماميل»، التى قرأها ثم أعطاها لمصطفى نبيل دون أن يخبرنى، ثم قرأها محمد رميش وكتب تقرير إجازتها للنشر، كما عرفت بعد ذلك. وحدث فى ذلك الوقت أن الروائى الجزائرى الكبير الطاهر وطار جاء إلى مصر، ومعه روايته «عُرس بغل»، وذهب مع جمال الغيطانى وجلال السيد إلى مصطفى نبيل فى دار «الهلال»، فطلب جلال السيد من جمال الغيطانى رواية لنشرها مسلسلة فى «الجمهورية»، فاقترح عليه «الغيطانى» روايتى، لكن مصطفى نبيل قال نحن أولى بنشر رواية مصطفى نصر، لتُطرح بعد شهر فى دار «الهلال».

■ جمال الغيطانى وعبدالوهاب الأسوانى كانا مهتمين بى جدًا، ولا يمكن أن أنسى فضلهما علىّ.
قلت فى تصريح سابق «حلم من أحلامى شراء كمبيوتر للكتابة مباشرة بدون آلة كاتبة».. فما الحكاية؟
- الحقيقة أن شراء كمبيوتر كان حلمًا كبيرًا لى، ولذلك حكاية تُروى. كنت بالصدفة نشرت قصة أطفال فى مجلة «العربى الصغير»، وكانت المجلة الكويتية تدفع بشكل جيد، ١٥٠٠ جنيه للقصة، فى عام ٢٠٠٣. كان صديقى رجب سعد السيد وقتها لديه كمبيوتر، وكنت أرى كيف يستخدمه فى الكتابة وقتها، لذا ادخرت ١٠٠٠ جنيه لشراء كمبيوتر، لكن بسبب التزامات البيت اضطررت لصرف المبلغ.
وأذكر أننى فى مرة ذهبت إلى فرع هيئة الكتاب لتفقد الكتب الجديدة، فقابلت صديقى رجب سعد السيد، فقال لى: «سيناريو أطفال نُشر لك فى مجلة (العربى الصغير)، فقلت له: نعم، نُشر فى العدد الماضى، لكنه قال لى: وفى هذا العدد أيضًا.. نُشر لك سيناريو جديد، فقبلته من السعادة، وقلت له: سأشترى الكمبيوتر بمقابل السيناريو، وفعلًا اشتريت الكمبيوتر بمقابل قصة فى (العربى الصغير)».
فى هذا الوقت كان الكثير من الكتاب يتحدثون عن العلاقة بين الكتابة بالقلم والقلب، فيقولون: «الكتابة بالقلم تأتى من القلب»، لأن الكاتب وقتها يستشعر الإمساك بالقلم فتأتى الكتابة صادقة وحميمية، كنت أسمع كلامهم وأضحك. آنذاك، كنت أكتب العمل بخط اليد، ثم أنقله على الآلة الكاتبة، وكان لدىّ أكثر من آلة كاتبة، وأتعامل معها كأنها كائن حى، إن بعدت عنها أصبح مشتاقًا لها، كأنها تحس وتشعر.
رغم أننى سريع جدًا فى الكتابة بالآلة الكاتبة، كان لدىّ عيب خطير، وهو أننى لا أستطيع ضبط الهامش الأيسر بالشكل المناسب، لكن مع الكتابة على الكمبيوتر استطعت تفادى هذا العيب، لدرجة أننى قلت: «اخترعوا الكمبيوتر خصيصًا لأجلى كى أستطيع ضبط الهامش الأيسر».

■ ماذا عن الأديب عبدالوهاب الأسوانى الذى تقر بفضله عليك؟
- عبدالوهاب الأسوانى كان يعمل فى الكثير من المجلات العربية، مثل «الشارقة» و«الحرس الوطنى»، إلى جانب «الإذاعة والتليفزيون» فى مصر، وأى مجلة يعمل بها كان يرسل إلىّ خطابًا لطلب نصوص كى ينشرها، فأرسل إليه بالفعل ما يطلبه. كان أديبًا بحق، وينشر لى قصصًا من الصعب نشرها فى أماكن أخرى بسبب ما تحتويه مما قد يصنفه البعض بأنه محظور. كما أذكر أن عبدالوهاب الأسوانى جاءته باحثة فى جامعة أسيوط تريد إعداد دكتوراه عن إحدى رواياته، فقال لها: «أنت أعددتِ ماجستير عن أعمالى. هناك كاتب سكندرى أريدك أن تُعدى الدكتوراه عنه»، قبل أن يرشحنى لها.







