حامل مفتاح المدينة.. أسامة علام: أُطرب نفسى بكتابتى ولا أنتظر تصفيق الجمهور
- أكتب على الكمبيوتر كعازف على بيانو.. وأنحاز إلى الحكى أكثر من الزخرفة
- تمنيت العمل كمُهرج.. وهو أكثر صدقًا من عشرات الأطباء الذين أعرفهم
- المُهرج يمتص الضحكات فيسعد.. والطبيب يمتص هموم المرضى فيمتلئ تعاسة!
- الرواية الجيدة لا بد أن تُشرك القارئ فى كتابتها.. وأيضًا تلمس قلبه
أصدر الدكتور أسامة علام، الذى يعمل طبيبًا بيطريًا فى نيويورك، أواخر أكتوبر الماضى، روايته الجديدة «حامل مفتاح المدينة»، عن دار «الشروق»، والتى كتب لها التصدير الدكتور محمد المخزنجى، وأثنى عليها كثيرًا.
وقال «المخزنجى»، عن رواية «حامل مفتاح المدينة»، إنها تُدرج ضمن سياق الأدب العالمى، والذى لا يزال، حتى الآن، ملتصقًا فى الأدب الغربى، وإن كانت تدخل فيه من الشرق والغرب الآن نماذج بارعة، فى إطار من التجديد يتأتى بظهور كُتَّاب جدد فى كل مرحلة.
وأضاف الأديب والكاتب الكبير، فى تصريحات خاصة لـ«حرف»: «قياسًا على المُستجَد من الأدب الغربى، خاصة النموذج الذى أعجب به جدًا من هذا الإيجاز الروائى، وهو نموذج (النوفيلا) أو (الرواية الموجزة)، أرى أن رواية أسامة علام (حامل مفتاح المدينة)، لا تقل عن أى رواية من الروايات الأربع التى أصدرها الروائى البرتغالى أفونسو كروش، الذى يُعد ضمن أبرز وجوه الرواية الأوروبية الحديثة، وواحد من كُتَّاب الروايات الجديدة فى مفهوم سياق الأدب العالمى بالمفهوم الذى ذكرته»...
«حرف» التقت الروائى أسامة علام فكان هذا الحوار، عن الرواية، والطبيب الذى تمنى أن يكون مُهرجًا يمتص ضحكات الأطفال فتمتلئ روحه بالسعادة، لا مُعالِجًا يمتص هموم وأحزان المرضى فيُصاب بالتعاسة.

■ من عنوان الرواية ربما يعتقد كثيرون البطل هو المفتاح الذى يفتح كل قفل فى المدينة، لكن من يقرأ سيكتشف أن المفتاح هو بوابة لهذا العالم الكبير.. ما الذى قصدته من ذلك؟
- هذه رواية عن البشر فى مدينة مُربِكة ومُشتهاة، نيويورك، التى كانت بالنسبة لى وحشًا أسطوريًا فى المخيلة. كشخص عاش شبابه فى مصر المحروسة، كانت نيويورك التى أعرفها هى نيويورك التى قدمتها لى هوليوود فى أفلام «نادى السينما» وبرنامج «أوسكار»، فى زمن كان التليفزيون المصرى متعتنا البصرية الأهم. وعندما كبرت وأصبحت أحد سكانها بصدفة قدرية خالصة، لم تدهشنى المدينة بقدر «كوزموبوليتانية» البشر هنا.
المفتاح ليس سوى مدخل لعالم هؤلاء العابرين مثلى، فى مدينة غير عابئة سوى بمجدها الخاص كأيقونة للجذب والإصرار على إدهاش البشر. وصول البطل إلى مفتاح يفتح كل أبواب المدينة ليس سوى حيلة لمحاولة الفهم. نحن جميعًا بنى البشر خزائن أسرار متحركة تمشى على قدمين. نحاول أن نظهر للعالم ما نريد أن يعرفه العالم عنا. لذا توجب على بطل الرواية أن يجد هذا المفتاح السرى المتخيل كى يفتح عالم الخزائن البشرية المحيطة به. عله فى النهاية يستطيع أن يصل إلى مفتاح روحه الشخصى ليفهم نفسه بالأساس ويستطيع أن يتقبلها.
■ بدون ثرثرة وإطالة بلا داع وبإيجاز كبير، دخلت فى الحكاية مباشرة.. هل قصدت سحب القارئ مرة واحدة من خلال مفتاح يفتح كل أقفال المدينة؟
- الرواية بشكل مُحدد محاولة كبرى لرصد حياة البشر. يحاول الإنسان منذ الأزل فهم سبب وجوده فى هذا العالم. الإجابة بشكل واضح وصريح على سؤال يبدو الأكثر تعقيدًا فى وجهة نظرى: «ماذا أفعل هنا؟» لذا حاولت الهرب من الثرثرة حول خلفيات أبطال روايتى، واهتممت بشكل أوضح بتقديمهم للقارئ فى حالاتهم الآنية. أردت أن أقدم للقارئ ما هم عليه بالفعل، وعلى القارئ أن يكون شريكًا لى فى فهم وتخيل مصائرهم، التى أدت بهم إلى أن يكونوا كما هم.
هذا ما يحدث عادة فى حياتنا اليومية. الرواية الجيدة لا بد لها أن تُشرك القارئ فى كتابتها. ربما هذه رؤيتى الخاصة عن الفن الجيد، الفن المحفز على إعمال العقل والمخيلة. فى الرواية عقدت اتفاقًا مبدئيًا مع القارئ، مفاده أن هناك مفتاحًا يفتح كل الأبواب. بالطبع المفتاح نفسه غير مهم بالمرة. المهم أن يفهم القارئ أن لديه الإمكانية فى الوصول مباشرة إلى خلف ما تخبئه الأبواب والقلوب المؤصدة فى حياة أبطال الرواية، التى تحاول رصد جانب من حياة بشر مشابهين له، متكتمين على حكايات خليط بين الخيبات والفرح.
على الكاتب أن يتجه مباشرة إلى حكايته، أن يتحلى بالشجاعة الكافية ليمد يده ويلمس قلب قارئه، الشخص الوحيد المعنى بالتأثر بالحكاية. هذا ما يفعله كُتَّاب كبار مثل ميلان كونديرا وفرانز كافكا وباتريك زوسكيند، وهذا تحديدًا ما حاولت. الثرثرة الأدبية ليست سوى مقدمة موسيقية طويلة لا تحمل معنى أغنية تريد من المستمع أن يتأثر بمعانيها.

■ فى الرواية كل الشخوص تعانى من الوحدة.. هل أردت من ذلك الإشارة إلى وحدة الفرد فى ذاته وفيمن حوله أيضًا؟
- أعتقد أن البشرية تمر بمرحلة وحدة الفرد بامتياز. التكنولوجيا الحديثة جنة الوحيدين وجحيمهم! أيضًا المدن الكبرى بمساحتها الشاسعة، تقطع أواصر التواصل بين البشر. «شهاب منير»، بطل الرواية، لم يكن اختيار اسمه بلا هدف. هل رأيت مجموعة من الشُهب تظهر فى السماء متجمعة؟ «شهاب» شخص وحيد فى مدينة هى الأكثر جذبًا للمهاجرين.
أنا رجل عاش تجربة التنقل بين البلاد وحيدًا، عشت وحيدًا فى فرنسا وكندا والولايات المتحدة. بالطبع لدىّ أسرة صغيرة هى أجمل هدايا القدر لى. لكنى كالجميع فى مدينة كبيرة شخص وحيد. نيويورك هى أيقونة الحلم الأمريكى. لكن للأحلام أيضًا جوانبها المسكوت عنها.
يحاول البشر دائمًا فى الغربة تصدير صورة براقة عن نجاحاتهم فى الغرب. هذا ما يجب أن تكون عليه الصورة حتى لا ننكسر فى عيون من تركناهم. أنا ككاتب أرصد ما أعيشه. أكتب لك الآن من مقهى مصرى فى نيويورك. بالمقهى عشرات الزبائن جميعهم مثلى، يمسكون فى أياديهم أجهزة المحمول، وحيدين ومحاولين البحث عن مؤانسة.
فى عالمى الذى أعيش تفاصيله، كل البشر وحيدون بشكل أو آخر، تمامًا كما رأيت الناس فى القاهرة. كلٌ مهموم بهمه الشخصى. الكل يحاول الوصول إلى السعادة والرضا وحيدًا بما يعتقد أنه الأنسب له شخصيًا. الفردية أصبحت حالة عامة. وكما أخبرتك سابقًا، ربما التكنولوجيا أو انعدام الثقة فى المستقبل، أو حتى أحلام التحقق والثراء، وراء كل هذا. لكن الحقيقة المؤكدة هى أن الجميع يشعر بالوحدة.
■ «ميتريتو» طوال أحداث الرواية يبحث عن «أذن» ليسرد حكايته العجيبة.. أيمكن اعتبار أن الحكاية هنا هى الكنز الحقيقى؟
- اخترت اسم «ميتريتو» كترجمة إسبانية لكلمة «شهاب»، وهو تناص مقصود لاسم بطل الرواية وحاكيها المصرى «شهاب منير». «شهاب» أيضًا كان يبحث عن «أذن» أو شخص ما كى يحكى له حكايته. هذا ما نفعله يا صديقى جميعًا كبشر. حكاياتنا الشخصية هى هويتنا الحقيقية فى الحياة. لذا، الحكى هو الفن الأقدم والأهم بين كل الفنون.
الحكاية هى ما يؤكد مرورنا فى اختبار العيش فى هذا العالم. وجودنا الحقيقى فى الحياة مُرتبط بحكايتنا. نجاحنا وخيباتنا وأفراحنا وأحزاننا كلها حكايات لا معنى لها سوى بأن يعرفها الآخرون ويتعاطفوا معنا. البشر يحتاجون دائمًا للتعاطف، للإحساس بالفخر فى عيون مَن نحب، أن يسامحنا الآخرون ويلتمسوا لنا الأعذار، أن نشعر بأننا كبشر حاولنا وانكسرنا أو تفوقنا، لا يهم بالنسبة لنا.
الأهم أن يتفهمنا الآخرون وأن يصلنا هذا التفهم. يكسر هذا وحدتنا ويشعرنا بإنسانيتنا، التى هى خليط من كل المشاعر. لذا كان مهمًا لـ«ميتريتو» أن تصل حكايته إلى أحد ما. شخص ربما لا يعرفه بشكل حقيقى، لكنه أخ فى الإنسانية، يعطى حياته دليلًا على أن وجوده كان حقيقيًا بينما هو ينتظر الموت والفناء.

■ لماذا لجأ «شهاب» للعمل كمُهرِج فى السيرك رغم ما يبدو من أن هذا العمل لا يصلح لطبيب؟
- أخالفك الرأى وبشدة فى أن العمل كمُهرِج لا يناسب طبيبًا. على العكس تمامًا، أرى أن مهرج السيرك مهنة ممتازة، وكنت أتمنى أن أمتهنها يومًا ما. هناك فى السيرك عالم الألوان والبهجة والموسيقى. المهرج شخص يستمتع بكونه قادرًا على أن يكون أكثر صدقًا من عشرات الأطباء الذين أعرفهم.
تكمن موهبة المُهرِج فى أنه يختار أن يصبح شخصًا حقيقيًا خلف ملابسه ومكياجه. لا يأخذ الأمور المتعارف على أنها حقائق مؤكدة بجدية. يصنع قواعد لعبته الخاصة كالروائى. وقواعده هذه مبنية على أن لا قواعد حقيقية سوى ما يبتدعه هو ذاته.
المُهرِج شخص حر ومنطلق، لا هم له سوى إسعاد الآخرين. كل منا يلعب دور المُهرِج أحيانًا. لكننا نفعلها بالكثير من الخجل والإخفاء. مُهرِج السيرك إحدى أكثر المهن إطلاقًا للمخيلة والصدق والتحرر. تملأ روحه بضحكات الأطفال وتمتصها كإسفنجة فيصبح أكثر سعادة. بينما يمتص الأطباء هموم المرضى وأحزانهم فتمتلئ جيوبهم بالنقود وأرواحهم بالتعاسة.
■ اللغة فى «حامل مفتاح المدينة» مقتصدة وموجزة وتختفى خلف الحكاية الكبيرة فلا تظهر للقارئ أثناء القراءة.. هل تعمدت ذلك؟
- بالطبع، اللغة إحدى أهم جماليات أى عمل أدبى، موسيقى النص وروحه الفاتنة. رغم ذلك، تبقى المعضلة الأكثر إرباكًا فى الأدب بشكل عام. أنا شخص كثير السفر متعدد اللغات. كإنسان تعلمت أن اللغة عليها أن تصل فكرتى بوضوح إلى عشرات الأجناس الذين أتعامل معهم بشكل يومى ومهنى. وكروائى علمتنى التجربة أن أبحث عن صوتى الخاص، لغتى القادرة على إيصال الفكرة بشكل أدبى.
اللغة فخ ومتعة وعزف على وتر روحك أثناء الكتابة. أكتب على جهاز الكمبيوتر متخيلًا أن مفاتيح الكتابة مفاتيح بيانو كبير. لكنى أريد أن يصل عزفى شجيًا وواضحًا. لذا أنحاز إلى الحكى أكثر من الزخرفة. أنا كاتب هاو يبحث عن المؤانسة فيما يكتب. أحاول إطراب نفسى بعزفى أولًا، ولا أنتظر التصفيق من الجمهور.
لغتى تشبهنى. أنا الطاهى وأنا المتذوق لوجبتى التى سآكلها وحيدًا. أنا مهتم بالمذاق لا بشكل الطبق. مفتون بأبطالى، وأريد أن يراهم القارئ كما أعيش معهم. اللغة المقتصدة والموجزة تحقق ذلك بامتياز. والرواية ليست حصة إنشاء أو قصيدة شعر. إنها قصة بشر ومصائر عليها أن تصل إلى القارئ، تجذب انتباهه وتحرك مشاعره. على اللغة أن تكون جذابة وبليغة دون أن تنسى أنها مركب يحمل مصائر أبطال، هم وحدهم المعنيون بالوصول.

■ هل اقتبست أيًا من شخصيات الرواية من الواقع فى ظل عملك كطبيب فى نيويورك؟
- من المدهش لى أن الكثير ممن قرأ الرواية أثنى على خيال الكاتب فى ابتداع أن فكرة المفتاح الذى يفتح كل الأبواب نابعة من خيال خصب. أؤمن دائمًا بأن العالم ملىء بالحكايات التى تختار الكاتب وليس العكس.
الرواية حضرت لى عندما استأجرت شقة صغيرة لطبيب شاب يعمل معنا فى المستشفى، ولظروف خاصة اضطر للعودة إلى مصر بشكل مفاجئ. استعملت الشقة كاستراحة لشهور. وعندها اكتشفت أن المفتاح الذى تركه لى، والذى بالمناسبة يحمل اسم المدينة على أحد أوجهه، وصورة تمثال الحرية على الجهة الأخرى، يفتح باب الشقة التى غيرت «كالونها». وبمصادفة أخرى فتح باب المستشفى عندما استخدمته دون وعى منى.
إن هذا مفتتح مدهش لفكرة الرواية. وكما كان القدر كريمًا معى فى إهدائى المفتاح، كان كريمًا أيضًا فى حضور سكان الحى الذين كتبت عنهم. «المُشرَدة» التى تنظر إلى المدى كانت إحدى الشخصيات المُلفِتة التى يعبرها المئات من المارة دون انتباه أو تعاطف. «العجوز» الذى قابلته أمام بيت تزيين الموتى شخصية حقيقية أخرى.
ربما كتبت عن هؤلاء بمخيلتى الروائية، لكن العالم ملىء دائمًا بالروايات الحية. هؤلاء العابرون الذى يحفزون الروح للحكى عنهم. هذه واحدة من مزايا الحياة فى مدينة كبيرة مثل نيويورك. عليك فقط ككاتب أن تلاحظ وتفتح روحك وتستمع لتحكى.
■ أشركت القارئ حتى فى النهاية، فلم تُظهِر نهاية «المُشرَد»، وهل سينضم إلى السيرك أم يعود للمدينة.. لماذا؟
- القارئ فاعل دائمًا. هو المتلقى الذى يشاهد العرض ويحكم عليه فى النهاية. الجمهور الذى يصفق فى نهاية العرض أو يبدى امتعاضه. هو شريك الكاتب فى الرحلة، المتلصص على حكايتك الأكثر ذكاءً منك ككاتب. ببساطة، لأنه يرى الحكاية من الخارج.
لذا، أترك للقارئ أن يكون شريكًا فى لعبة التخيل، وعليه أن يحدد ما يراه مناسبًا لهؤلاء الأبطال، الذى أمضى معهم ساعات من وقته. بالنسبة لـ«المُشرَد» تحديدًا الذى تسأل عنه، أنا ككاتب لا يهمنى ما سيحدث له. المهم أنه وصل إلى غرضه من حياته، حكى حكايته التى كانت سر عمره، وعليه هو وحده أن يختار ما يفعله فيها.







