الجمعة 28 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أسئلة المستقبل.. النشر

كيف نصنع «ناشر المستقبل»؟

حرف

تتمتع مصر بعمق حضارى وثقافى ممتد يجعل قطاع النشر جزءًا أصيلًا من هويتها الوطنية. فمنذ تأسيس أولى المطابع فى القرن التاسع عشر، ظل النشر فى مصر أحد أهم روافد الوعى العربى ومجالات التأثير الثقافى فى المنطقة. واليوم، ومع التحولات الكبرى فى الاقتصاد الرقمى، تدخل صناعة النشر مرحلة جديدة تحمل فرصًا كبيرة وتحديات عميقة، لكنها تؤكد بوضوح أن مستقبل النشر المصرى لا يزال قادرًا على التأثير والاستمرار والتجدد.

أول ملامح هذا المستقبل يتمثّل فى التحول الرقمى الذى سيغيّر بنية الصناعة بأكملها. فالذكاء الاصطناعى، الذى أصبح عنصرًا حاسمًا فى كل القطاعات، سيدخل بقوة إلى عالم النشر: من التحرير والمراجعة اللغوية، إلى تصميم الأغلفة، وإدارة الحملات التسويقية، وتحليل سلوك القرّاء. لن يكون الذكاء الاصطناعى بديلًا عن الإنسان، لكنه سيكون أداة مساعدة تعزّز كفاءة الصناعة، وتمنح الناشرين قدرة أكبر على اتخاذ قرارات مبنية على البيانات. سيتحوّل العمل التحريرى إلى عمل أكثر ابتكارًا، يعتمد على الإنسان فى الرؤية والذوق، وعلى التقنية فى السرعة والدقة.

وفى الوقت نفسه، ستشهد الساحة تغيّرًا فى دور بعض دور النشر التقليدية التى قد تجد نفسها مضطرة للتحوّل إلى أنشطة موازية خارج الإطار التقليدى للنشر. فالعالم يتجه نحو تكامل الصناعات الإبداعية، وسيصبح من الطبيعى أن نرى دور نشر تدخل فى مجالات المنتجات الثقافية، والهدايا المرتبطة بالكتب، والمواد التعليمية، باعتبارها مكملات تجارية وثقافية تدعم الكتاب وتفتح مصادر دخل جديدة للمكتبات وسلاسل التوزيع.

أما الكتابان الرقمى والصوتى فسيستمران فى توسيع حضورهما فى السوق، خصوصًا لدى الأجيال الأصغر سنًا، ولدى القرّاء الذين يعتمدون على القراءة المتنقلة. إلا أن هذا الانتشار لن يعنى بأى حال تراجع الكتاب الورقى أو نهاية دوره؛ فالورق لا يزال يحمل قيمة عاطفية وحسية لا يمكن للتقنيات الرقمية تعويضها، إضافة إلى كونه رمزًا للملكية الثقافية ومكوّنًا أساسيًا فى المعارض والمكتبات. سيظل الكتاب الورقى حاضرًا، لكن ضمن منظومة أكثر تنوعًا، حيث تتكامل الأشكال الثلاثة، بدل أن تتنافس

من جانب آخر، سيشهد القطاع المصرى نقلة مهمة بفضل دخول أجيال جديدة من الشباب إلى الصناعة، ممن تخرجوا فى جامعات مرموقة واكتسبوا مهارات دولية فى الإدارة والتسويق الرقمى وتجارة حقوق النشر. هؤلاء الشباب سيعيدون صياغة علاقة مصر بالعالم من خلال تطوير سوق حقوق الترجمة، وتوسيع الشراكات العالمية، وإعادة تموضع الناشر المصرى كفاعل دولى قادر على المنافسة. وهنا يمكن لمصر أن تستعيد جزءًا من دورها التاريخى فى تصدير الثقافة، ولكن بأدوات جديدة تستجيب لاحتياجات العصر.

كما أن معارض الكتب ستتحول تدريجيًا إلى منصات مهنية متخصصة، لا تعتمد فقط على البيع المباشر للجمهور، بل على بناء العلاقات، وتوقيع الصفقات، وتنظيم المؤتمرات المهنية، وجذب المنصات التكنولوجية والناشرين الدوليين. سيبقى الجمهور جزءًا مهمًا من هذه الفعاليات، لكن الدور الأكبر سيكون مهنيًا واستراتيجيًا، بما يرسخ مكانة هذه المعارض فى الاقتصاد الثقافى.

الأمر الأكثر أهمية فى المرحلة المقبلة هو أن الرقمنة الشاملة- سواء فى نظم الدفع الإلكترونى أو فى إدارة المخزون أو فى استخدام الذكاء الاصطناعى- ستدمج قطاع النشر فى الاقتصاد الوطنى بشكل أعمق. سيصبح النشر جزءًا واضحًا من الصناعات الإبداعية، يرتبط بالتعليم والسياحة الثقافية والاقتصاد الرقمى، ما سيمنح القطاع قوة أكبر، ومكانة أكثر وضوحًا داخل السياسات الاقتصادية للدولة.

وأخيرًا، من المتوقع أن تعود الكتب التراثية والمراجع الكبرى إلى الواجهة، فى ظل بحث القرّاء عن الجذور والهوية، ورغبة الأجيال الجديدة فى إعادة اكتشاف مصادر الثقافة المصرية والعربية. سيشهد المستقبل إعادة نشر أمّهات الكتب، وتحقيقها وتقديمها فى شكل عصرى، ما يعزز الصلة بين التراث والحداثة، ويجعل النشر المصرى رائدًا فى تقديم التراث بثوب جديد.

بهذه الملامح مجتمعة، يبدو مستقبل النشر فى مصر واعدًا، قائمًا على التجدد والتنوع والتكامل بين الإنسان والتقنية، وممتدًا فى تأثيره كما كان دائمًا: صناعة تفكر وتبتكر وتبنى الوعى.