«عشق» فتحى إمبابى.. الكتابة ببكارة الدهشة وجنون المغامرة

- ثمة جغرافيا سردية متنوعة هنا فى «عشق» وتبيان للجذور وارتحالات متواترة بين القاهرة والخرطوم
من روايته «نهر السماء» يمكننا أن نبدأ، من الانتخاب الجمالى للحظة مفصلية فى عمر الأمة المصرية، وهى الفترة التى تسبق مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر، حيث يمارس الكاتب الروائى فتحى إمبابى لعبًا مع التاريخ، طارحًا من خلاله سؤال الهوية بوصفه أحد أهم الأسئلة المعرفية والجمالية فى الرواية العربية، نستعيد هنا مثلًا تحولات إيليا بتروفيتش، الذى صار القائد المملوكى عمر لاجين.

وكان لدى «إمبابى» هنا عالم واقعى، ينتج تخييله الخاص الذى ينبت فى قلب المأساة، فى قلب المفارقة، حيث يتحكم العبيد المجلوبون من أصقاع الأرض فى المصريين الأصلاء من الفلاحين، وهى الفكرة التى عبّر عنها إميل لودفيج فى كتابه المهم «النيل.. حياة نهر» بأن الأمة المصرية تكاد أن تكون الأمة الوحيدة التى تحكم فيها العبيد فى الأحرار لقرون طويلة، كان كل شىء معدًا للنزال، ممهدًا للولوج فى متن التاريخ والواقع معًا، حيث ثمة قدم ظاهرة فى التاريخ، وأخرى مضمرة فى الواقع.
وفى رواية «عتبات الجنة» يمكث الضابط المصرى «حواش منتصر» فى قلب إفريقيا، لنرى كل شىء فى متن الدهشة، فالرواية التى تضع قدمًا فى التاريخ، وأخرى فى الواقع، لا تستجلى جانبًا من التاريخ المصرى الحديث فحسب، بل تتماس مع راهنها أيضًا، حين تشير إلى البسالة النادرة التى أبداها الجنود والضباط المصريون فى معاركهم النبيلة ضد تجارة الرقيق، وضد الحركات الرجعية التى حاولت أن تصنع امتدادتها فى السودان وإفريقيا آنذاك، وساعية إلى التوسع داخل الأراضى المصرية أيضًا، فالرحلة التى يقطعها الاثنى عشر ضابطًا مصريًا ومعهم ثلاثة عشر ألف جندى إلى العمق الإفريقى لقياس أعالى النيل، بحسب المعلن من هذه الرحلة التى اكتست بظلال عجائبية، كانت فى جوهرها محاولة للنفى والإقصاء المطلق من قبل السير الإنجليزى «إيفلين وود» بالتحالف مع الخديو توفيق لتوريط الجنود المصريين فى حروب لا تنتهى، وإذا كانت الرواية قد لعبت على مساحات الجدل بين التسجيل والتخييل، بين التوثيق التاريخى للمرحلة التى تلت فشل الثورة العرابية، والمتخيل الروائى، أو بين التاريخ والفن، فإنها قد صنعت منطقها الجمالى بطريقتها، حين قدمت مناطق بِكرًا فى إفريقيا، عبر حكايات يتصل ماضيها بحاضرها، ومن خلال البطل المركزى فى الرواية «حواش منتصر»، الذى أضحى فاعلًا فى فضائه الإفريقى الجديد الذى توطدت علاقته به حتى صار جزءًا أصيلًا منه.

«عشق».. تقاطعات السرد
ينتقل فتحى إمبابى خطوة ثالثة فى خماسية النهر/ كتاب النيل فى روايته «رقص الإبل»، تتلوها روايته «عشق»، الصادرة فى القاهرة حديثًا، عن دار «روافد» للنشر.
ويأتى الإهداء الدال للرواية الجديدة محملًا بالمعنى، ومسائلًا التطرف الدينى:
«على شرف آلاف الضباط والجنود من مصريين وسودانيين قاتلوا فى مديرية خط الاستواء فى أعالى النيل، ضد تجار العبيد والأصولية الدينية».
ويتماس هذا الإهداء مع الإهداء الذى رأيناه للرواية الفائتة للكاتب «رقص الإبل»، وقد جاء على النحو التالى: «على شرف آلاف الضباط والجنود المصريين والسودانيين وعائلاتهم من نساء وأطفال، قاتلوا دفاعًا عن الدولة الحديثة ووحدة وادى النيل واستشهدوا أو بيعوا رقيقًا على أبواب مدينتى الأُبيِّض عاصمة كردفان، والخرطوم عاصمة السودان الحديث»، ولو تأملنا نظيره فى الرواية الصادرة مؤخرًا «عشق» سنقف على جملة من العلائق المتشابكة بين الروايتين، فضلًا عن حضور البطلين المركزيين فى رقص الإبل فى المشهد الافتتاحى لرواية «عشق»، حيث «التلب» ورفيقته الفاتنة «مسك الجنة»، والمسير الذى يقطعانه، والترحال القلق المتواتر فى الرواية والخماسية ككل: «تحت أسعة شمس خريفية باردة خبت الناقتان ترقصان الهوينى فى سهل كردفان الفسيح، باتجاه سلسلة جبل الداير، الواقع على بعد حوالى ثمانية وثلاثين كيلومترًا جنوب بحيرة الرهد، وحيثما تسكن قممه الجبلية الشامخة قلب الضباب... فى الظهيرة بلغا منتصف الطريق، انتحيا جانبًا لأخذ قسط من الراحة، جمعت مسك الجنة بعض الحطب وأوقدت النار للطعام، وصعد التلب أعلى التلة يستكشف إذا ما كان هناك من يطاردهما، تناولا ما صنعته لهما ست النفر من الحساء، تمدد بين ساعديها، سمعها تهمس فى أذنه، وأنفاسها تلفح عنقه، متسائلة عن السبب الذى جعله يهجر زوجة صالحة مثل ست النفر، ويحمل على كاهله فتاة يتيمة شقية، نصف حرة ونصف جارية، يفر بها فى سهوب كردفان؟ غمغم مرددًا المثل الذى يقول: وما الذى رماك على المر سوى الأمر منه».

مغادرة جفاف التاريخ
عشرات الحكايات الفرعية تعج بها الرواية المزدحمة بالتفاصيل والأحداث، فخاتم السر يبحث عن أخته. مستذكرًا أبيات السيرة الهلالية «افتح يا منصور.. افتح باب السور..».
ومسك الجنة، والتلب مطاردان، يريد الأمير سعد المعرابى الفتك بهما. وست النفر تحذر العاشقين «مسك الجنة والتلب»، وتصعد إليهما فى جبل الداير. إيقاع لاهث ومحموم لم يفقد حسه باللحظة الدرامية على الرغم من المجازات المتواترة فى الرواية، والتى تشكل ركنًا فى الصورة السردية هنا بطبيعتها المشهدية المركبة، وبما أسهم فى خلق بنية روائية تتكئ على تخييل التاريخ بالأساس، إذ لا يكتفى «إمبابى» بتأمل الأحداث والوقائع التاريخية فحسب، ولا تفكيك ما جرى بعد كل هذه العقود، والأزمنة التى تقترب من قرن ونصف القرن من الزمان، وإنما يتجه إلى حكاية ما كان، متخلصًا من جفاف التاريخ، ومغادرًا السياقات الجاهزة، وإن ظل وفيًا لروايته ذات الأبنية العتيقة بنزعتها الكلاسيكية التى يسعى إلى تجديدها باستمرار، مستعينًا بتكنيك التداخلات الزمنية، وجدل التخييل والتوثيق. وتضفير المعرفى فى متن الجمالى، والاحتشاد الممنهج بالخرائط، والوعى بجغرافيا المنطقة المركبة وتبايناتها العرقية والدينية، وتنويعاتها المختلفة.
ثمة منحى جوهرى فى الرواية يتصل بمساءلة التطرف الدينى، والاتجار باسم المقدس، الذى تتبناه المهدية وأتباعها: «أوثق عمر أزوق قدمى وساعدى التلب بالحبال، وشده من عنقه وقيّد مسك الجنة بالأصفاد الحديدية، ربطهما بسرجى جوادين، وأردف ست النفر أمامه وهو يعلن أنه سوف يبيعها فى سوق العبيد بعد أن يستمتع بمضاجعتها أولًا. صرخ به التلب أن يترك زوجته وحالها فليس لها فى الأمر شأن، صرخ مهتاجًا معلنًا أنه كافر مرتد يحل عليه الموت، وعلى زوجته السبى».
يوظف الكاتب تكنيك الرسائل توظيفًا دالًا من قبيل رسالة المهدى إلى لبتون بك لتسليم مديرية بحر الغزال ١٨٨٤، والمعبرة عن خطاب لغوى مغاير، يضاف إلى جملة الخطابات المتعددة داخل النص: «من رسول الله محمد المهدى إلى الأمير لبتون بك أمير مديرية بحر الغزال، مرسل إليك الأمير كرم الله كرغساوى، القائم مقامى، فسلمه مديريتك وأت عندى فى البقعة الطاهرة لأضمك إلى جماعتى.. فإذا أطعتنى كفلت حياتك وتحاشيت إراقة الدماء، أما إذا عصيت فعليك تقع وزر مصرعك ومصرع رجالك، وقد سقطت فى يدى جميع المديريات حتى أقواها ولك عبرة فى كردفان ودارفور وسنار، وعليك أن تتدبر ما حدث لراشد بك ويوسف باشا الشلالى، وهيكس باشا.. وليكن فيما حدث للأولين أمثولة وموعظة».
ويوظف «إمبابى» أيضًا آلية اللعب على فضاء الصفحة الورقية، ويبرز هذا من خلال استخدام خطوط متباينة، وأحجام مختلفة فى الخط المكتوب، وصيغ متنوعة فى الأشكال الماثلة فى صفحات الرواية، وللكاتب تجربة متميزة فى هذا المضمار فى روايته «شرف الله».
تتقاطع الحكايات الفرعية المتخيلة، مع أخرى تاريخية، تستعاد فى المتن السردى، ليتجادل المساران الروائيان ويتوازيان فى الآن نفسه:
«أمام فرن الخبيز استمعت للست مارسيلا وهى تحكى لها كيف أسمت كبرى بناتها على اسم القديسة الشهيدة (بوتامينا)، ذلك أن أمها أخبرتها أن قس كنيسة القرية هو من أسماها مارسيلا على اسم القديسة الشهيدة مارسيلا التى ماتت بنار الرومان.. وأضافت بسعادة: اخترت لابنتى يوم ولادتها اسم (بوتامينا) ابنة القديسة مارسيلا التى ألقاها الوالى الرومانى الشرير فى إناء الزيت المغلى عندما رفضت أن تمارس مع الرجل الغنى الذى تعمل عنده الخطيئة، فوشى بها حتى ماتت وصعدت إلى عرسها السماوى»، ويتلو هذا الفصل المقطع السردى ذى الظلال التاريخية: «عرس سماوى.. لا شركة للنور مع الظلمة».
يلوح فى الجزء الثانى «رجل أبيض» البطل المركزى فى هذا القسم إيزاك إدوارد، الملقب بمحمد أمين باشا، وهنا أيضًا تلوح السيطرة على مدينة لاو من القوات المهدية، ويحضر تكنيك الرسائل من جديد، وتتجلى التباينات بين الضابط البطل حواش منتصر وقادة الثورة العرابية، حيث المفارقة بين التخطيط المنهجى، والعشوائية. ويسائل «إمبابى» التاريخ، ويفكك ما جرى لعرابى ومنه، فى المقطع التالى: «وأمام تلك الحقائق المذهلة التى جعلت من أجساد الفلاحين مرتعًا للحرب وجعلت وطنهم مطية للبريطانيين، وجد أن عليه أن يسلم نفسه للملكة الطيبة.
لكنه لم يجد بانتظاره رايات خفاقة ولا (بروجى) يصدح فى الفضاء بنوبة اللواء.. ولا تلك الطوابير التى تقام لتشريف قادة الثورات المهزومة احترامًا وتقديرًا لنضالهم الثورى وهم يصعدون منصات الإعدام، ولا تلك الدوائر الخشبية المخصصة للرقاب المعدة لنصال المقاصل.. أو مناضد التعذيب التى ينزع فيها جلادون متخصصون فى خصى رجال ينتظرهم التاريخ بمقعد النبالة والتكريم، فقط تم تجريده من رتبه ونياشينه وسيفه المُثَلَّم الصدئ المكلل بعار الجهل العسكرى، وجهل الرجال الذين تُشل إراداتهم فى ساحات المعارك، ثم ألقوا به فى غرف الثكنات الخلفية دون اهتمام يذكر، لتبقى بيارق هزيمته تخفق على صفحات التاريخ، يخفيها مؤرخون وعسكريون جهلة ومستشرقون مغرضون.
إذن رجاء لا تلم السيد إيزاك إدوارد شنيتزر المدعو بمحمد أمين باشا عندما يتخذ قراره بتسليم نفسه إلى الإمام محمد المهدى بن عبدالله بن فحل، فالجميع يفضل أن يموت على فراشه... أين يجد الفلاحون قادة من أبناء جلدتهم يقودونهم إلى النصر أو الموت، وجميعهم يستسلم عند أول منعطف فى التاريخ... لهذا لا تقسُ على إيزاك إدوارد شنيتزر الألمانى العرق، اليهودى الأم، البروتستانتى الأب، المولود فى أوبلن على نهر الراين بمقاطعة سيليزيا، والمدعو بمحمد أمين باشا، فلقد سبق لقائد ثورتك أن استسلم دون أن يسأل شعبه إذا ما كان قد أصابه الضَجَر من المقاومة، أو هل بلغه نبأ اجتماع الفلاحين وأعلنوا عن تَأَفُّفهم وتَبَرُّمهم من النضال ضد الغزاة، وخرجوا إلى الميادين والساحات يطلبون الاستسلام، هل اطلع سعادته، الذى نال شرف الحصول على الباشوية المتخمة بإقطاعاتها، أن الملكة التى قرر أن يستسلم إليها شخصيًا أملًا فى نيل عطفها، قد استدعت لتوها كابتن لوجارد لقيادة عمليات الشركة البريطانية لشرق إفريقية: British East African Company التى شكلت حديثًا، للاستيلاء على منابع النيل، وامتصاص خيراته لعيون الإمبراطورية المترعة بالنبالة».
وبعد.. ثمة جغرافيا سردية متنوعة هنا فى «عشق»، وتبيان للجذور، وارتحالات متواترة بين القاهرة والخرطوم، تجدل بين التوثيق والتخييل، فى بنية سردية متناغمة.