الأحد 09 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

مقعد بمنتصف الصف الأول.. ننشر الفصل الأول من رواية السيمفونية الأخيرة لـ«أشرف العشماوى»

حرف

- أشرف العشماوى يواصل استكشاف تقاطعات السلطة والإنسان عبر سردية تنبض بالتوتر والصدق

زخم كبير أحدثته رواية «السيمفونية الأخيرة» الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، للروائى أشرف العشماوى، بين جمهور القراء الذين رأوا فيها امتدادًا للمشروع السردى المختلف للمؤلف.

ويواصل «العشماوى» فى عمله السردى الجديد استكشافه تقاطعات السلطة والإنسان، عبر سردية تنبض بالتوتر والصدق، حيث تدور أحداث الرواية فى مرحلة مفصلية من تاريخ مصر المعاصر، من خلال شخصية موظف فى إدارة المراسم، خدم عن قرب الرئيسين محمد أنور السادات ومحمد حسنى مبارك، ليغدو شاهدًا على كواليس الحكم، حيث تُدار الأمور فى صمتٍ وتُنسج المؤامرات بدهاء.

الرواية ليست فقط عن السلطة، إنما عن هشاشة النفس البشرية حين تُحاصرها المناصب وتفتك بها التناقضات، فبطلها يعزف الكمان، لكن كل نغمة تتحول إلى مرآة لجراحه، وكل لحن إلى قناع يخفى خوفه، لتشكل رحلة تأملية جريئة فى أعماق الذات، تضع القارئ فى قلب التجربة منذ السطر الأول.

وتنشر «حرف» فى السطور التالية الفصل الأول من هذه الرواية التى تصطحب القراء فى رحلة بين التاريخ والموسيقى، وبين الحقيقة والخيال.

فُتح الستار، عند لحظة ظهوره بدا طيفًا يخرج من بين ثنايا أسطورة، كان آخر مَن دخلَ المسرح، متأخرًا عن المايسترو بخطوتين، ربما هو الوحيد الذى يُسمح له بكسر تقاليد الدخول العريقة، استقبلوه بعاصفة من التصفيق حتى جلوسه، حيَّاهم بإيماءة صغيرة، وانشغل بضبط وضعية مقعده وتهيئة الكمان الراقد بين ذقنه وكتفه، وبينما الأضواء تغمر وجهه كان صمت الترقب يسود الأرجاء.

جلس أعضاء الأوركسترا فى أماكنهم واستعدوا للعزف عدا هو، لا يزال ذهنه منشغلًا بترتيب مواضع ذاكرته على الكونشيرتو الأول لتشايكوفيسكى، تتناثر النغمات فى عقله باحثة عن لحن يجمع شتاتها، يتوتر، وترتعش كفه رعشة خفيفة لا يَلْحَظُها أحد، قلبه يعزف قبل أصابعه، مرتجفًا على وتر لا مرئى، شىء ما يقلقه منذ حفل الاستقبال بالسفارة المصرية، أصابعه الباردة تُلامس رقبة الكمان، بينما تعزف ضلوعه إيقاعًا متوترًا يسابق الحدث، قلقه ليس خوفًا من خطأ، ولا من أوركسترا فرنسية يعزف معها لأول مرة، بل من النغمة الأولى، المُفتتَح؛ الشعور ذاته يراوده من جديد، بعدما عادت كوابيسه لزيارته فى منامه وكبرت هواجسه، حتى صوَّرت له أن الكونشيرتو الأول الذى سيعزف اليوم هو الأخير، وأن الليلة مهما بدأت بالموسيقى ستنتهى بكشف الحقيقة.

تنفس بعمق ليُطمئن نفسه، لا أحد هنا يعرف ماضيه ولا حتى خطيئته، المهم أنه موجود وباريس كلها تتوق لسماع موسيقاه كعادتها، فحضوره سؤال لا يُطرح، وغيابه إجابة لا تُصدق، وكل من أجروا معه حوارًا تعلَّموا ألا يلتقوا بعينيه مرتين إذا خلع نظارته السوداء، فى ملامحه شىء ما يشبه الذنب، وفى صمته وعد لم يفِ به، بريق العينين يشى بوعيد مؤجل إلى حين، وكلما حاول أحد أن يصف الشجن الملتصق بوجهه كقناع، فقدت الكلمات معانيها، كأنها تخاف فضح حقيقته. 

خارج مسرح قصر جارنييه للفنون الذى تزينه قبة خضراء عتيقة، لفحت نسمات باردة مئات الوجوه المصطفة فى طابور يمتد حتى حافة الطريق ويتجاوزها أحيانًا، المسرح كالعادة يرفع لافتة كُتِب عليها «كامل العدد»، والمصابيح تُضىء واجهة القصر بوهج عظيم، ليبدو القلب النابض الوحيد فى صدر مدينة النور، يتذمر الواقفون فى الطوابير، ويتكاثف البخار من أنفاسهم ليهمس بأسرارهم للسماء، يأمل كل منهم فى مقعد استثنائى أو حتى حضور الحفل وقوفًا، بعدما بيعت ألف وستمئة تذكرة فى أقل من يومين.

داخل المسرح يسود صمتٌ مهيب، يليق بقداس فى الكنائس الكبيرة، لا يقطعه إلا نبض الترقُّب الذى يخفق فى القلوب، ووَقع الخطوات الرصينة على أرضية من خشب الأرو اللامع. 

بدأ العزف، لامست أصابع يسراه الأوتار، ندَّت من يُمناه أولُ حركة طويلة قبل انعطافة قصيرة مهيبة فى حركتها الثانية، سحب القوس بخِفة يُجيدها ببراعة، ليُخْرِج صوتًا مبحوحًا من الوتر أشبه بالنحيب، انسابت النغمات ناعمة آتية من السماء كما يصفها جمهوره، راحوا يتمايلون مع انحناءات قوسه الحادة على أوتار الكمان، حتى اختتم المُفتتَح بنهاية تشبه رقصة لم تكتمل. مقدمة موسيقية اشتهر بها ويتوقعها الجمهور دائمًا، مع ذلك ينبهرون كما لو أنهم يسمعونها لأول مرة، تفلت صيحات، تدمع عيون، وتهيم أرواح عاشقين؛ كثيرون ظلوا واقفين بعدما غلبهم الحماس، صفقوا بغزارة لدقيقة على الأقل، لكن فى مكان ما بالصف الأول، جلس شخص وحيد لا يُبدى أى ردة فعل، فقط يُطيل النظر للمسرح صامتًا، نظرة حادة بلا رجفة جفن، وثقيلة كنعش يحمل جثمان رجل مُثقل بالذنوب.

عقب عزف المقطوعة الرابعة، توالى التصفيقُ لدقائق طالت أكثر من المعتاد، ثم هدأت القاعة وبدأ العزف من جديد، الأوركسترا الفرنسية تتبعه ككتيبة مطيعة، مئات الهواتف المحمولة تومض أمامه لتسجل لحظات تاريخية ستخلد عبر الزمن، التصفيق يعلو فى الوقفات الموسيقية بانتظام عسكرى، بينما سامى عرفان يعزف محاولًا تفادى النظر للرجل الصامت، وكلما وقعت عيناه عليه يشعر أن كل نغمة يسحبها من الكمان تنزع طبقة رقيقة من جلده، وكل صوت يخرج من الوتر يحمل أثرَ صراخ قديم.

انتهى عزف القطعة الموسيقية الخامسة، ووقف منحنيًا فى صمت تام لتحية جمهوره، طال انحناؤه كمن يعتذر عن ذنب عظيم، ثم رفع رأسه قليلًا، لمح الشخص الصامت ذاته، لا يزال يحدّق نحوه بوجهٍ لا يحمل كراهية ولا شفقة، بل شيئًا آخرَ أشبه بالانتظار. 

تلك الليلة هى الأخيرة فى جولته الأوروبية الحالية، عادة يختتمها بباريس حيث يعيش، لكنها المرة الأولى التى تمنَّى لو تُلغى، اقترب خطوتين بحذر من حافة المسرح وانحنى ثانية، الأضواء كفيلة بإخفاء كل شىء إلا النظرات، رفع ظهره ببطء، هذه المرة ثبَّت عينيه نحوه، شابٌّ فى نهاية العشرينيات على الأكثر، يرتدى سترة رمادية باهتة لا تليق باحتفال، ظل جالسًا وسط الواقفين، لا يصفق، لا يبتسم، ولا يشيح بنظره عنه.

رمقه سامى بنظرة أخيرة، فُخيل إليه أن شفتيه تحملان ابتسامة غير مكتملة تَعِد بلقاء قريب، ليس هنا وسط الزحام إنما وجه لوجه فى مكان بعيد. تباطأت خطواته فوق المسرح، شعر بارتباك يُقيده من الهاجس الذى يحاصر عقله. مرَّر أصابعه بين خصلات شعره الأبيض الطويلة وغاب وراء الستار. فى الكواليس أسرع من خطواته فى الرواق الطويل، حيث تتنفس الجدران روائح الخشب القديم ونسيج الستائر السميكة، أول ما دخل غرفته وضع آلة الكمان على الطاولة، كما يضع شرطى مُنهَك سلاحه بعد انتهاء الخدمة، أفرغ قليلًا من زجاجة الويسكى فى كوب قصير ووضع عليه بعض الماء، تجرَّعه دفعة واحدة، ثم أغمض عينيه وهو جالس تحت ضوء خافت لمصباح أصفر اعتاد عليه، وفوق مقعد جلدى قديم لا يفارقه فى كل حفل، ظل يراقب يده اليمنى، تلك التى حملت الكمان، وهى ذاتها التى وقَّعت القرارات. مع الكأس الثالثة شعر أنه أفضل حالًا، وبينما يخلع سترته ببطء، لمح فوق الطاولة ظرفًا يحمل اسمه الفنى بحروف كبيرة وبالفرنسية، فتحه بحذر، وجد بداخله ورقة مطوية مكتوبة بخط يدٍ حاد وبحروف دقيقة للغاية تشكِّل سؤالًا من كلمتين.. «هل تتذكّرنى؟».

أغمض عينيه، قفزت فى ذهنه صورة وحيدة محفورة من زمن بعيد، تعجب لأنه لا يزال بنفس الهيئة والملامح، كأن سنينًا لم تمر، تنهَّد بعمق بعدما أدرك أن تلك الليلة لم تكن حفلًا عاديًّا، إنما موعد مؤجل مع ماضٍ لم يُدفن بعد. 

الليلة تبدَّل الحال، لن يعود العزف هواية، إنما طقسٌ تطهيرى، وسيلة يُخرِس بها صوتًا من الأصوات التى تركها خلفه؛ صوت خافت لكنه صاحب صدى مُخيف، الليلة أيقن أن الموسيقى لا تَشْفِى إنما تؤجّل النزيف، وأن كل ما كان يخشاه تحقق، الليلة عرف أن الذاكرة لا تموت، وأحيانًا تحجز لنفسها مقعدًا فى الصف الأول.