الجمعة 07 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

سلماوى..«شخصية العام» فى معرض الشارقة للكتاب.. محو الثقافة.. الأعداء يستهدفون آخر خطوط الدفاع العربى

حرف

- الثقافة كانت وستظل دومًا هى عنوان هويتنا العربية.. هى المرآة التى نرى فيها قسمات وجهنا العربى الأصيل

- من تفككٍ وانقسام فى الجسد العربى لا دواء له ولا شفاء منه إلا بإدراك هويتنا العربية الجامعة

أعلنت هيئة الشارقة للكتاب عن اختيار الكاتب والمسرحى المصرى محمد سلماوى «شخصية العام الثقافية»، فى الدورة الـ٤٤ من معرض الشارقة الدولى للكتاب ٢٠٢٥، تقديرًا لمسيرته الأدبية الممتدة لأكثر من ٥ عقود، وإسهاماته المتميزة فى المسرح والرواية، والعمل الثقافى العربى.

ويعد محمد سلماوى أحد أبرز الأصوات الأدبية فى مصر والعالم العربى، إذ شكل بإبداعه الغزير وكتاباته المسرحية والروائية المتفردة علامة فارقة فى الأدب العربى المعاصر، إلى جانب دوره المؤثر فى دعم قضايا المثقفين العرب والنهوض بالمشهد الثقافى العربى.

تُرجمت أعمال «سلماوى» إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والرومانية والهندية والأوردية، وعُرضت مسرحياته على مسارح فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وكندا. كما نالت رواياته اهتمام النقاد والقراء على حد سواء، لما تحمله من عمق إنسانى ورؤية فكرية، تعكس واقع الإنسان العربى، وتحولاته الاجتماعية.

وخلال كلمته، عبر الكاتب الكبير عن خالص امتنانه لهذا التكريم، الذى يعتزّ به أيّما اعتزاز، معتبرًا أنه يتعدى كونه تكريمًا شخصيًا ليغدو احتفاءً بالثقافة ذاتها، وبما تمثله من نورٍ يهدينا إلى ذواتنا فى زمنٍ كثر فيه التخبط والضياع.

فى السطور التالية، تنشر «حرف» كلمة «سلماوى» فى حفل تكريمه.. فإلى ما قاله:

صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى

راعى الثقافة العربية حفظه الله

أصحاب الرفعة والمعالى رجال الفكر والثقافة

السادة الحضور..

يسعدنى فى هذه المناسبة المفعمة بالمعانى النبيلة أن أقف أمامكم لأعبّر عن خالص امتنانى لهذا التكريم الذى أعتزّ به أيّما اعتزاز، فهو يتعدى كونه تكريمًا شخصيًا ليغدو احتفاءً بالثقافة ذاتها، وبما تمثله من نورٍ يهدينا إلى ذواتنا فى زمنٍ كثر فيه التخبط والضياع.

تحية لإمارة الشارقة نبع الثقافة المتدفق، الذى انبثق وسط صحراواتنا الذهبية كعروس تنشر جدائلها اللؤلؤية خيوطًا من الفن والجمال على العرب جميعًا. 

ولقد سبق أن كرمتنى الشارقة وكرمت كل المثقفين العرب يوم كرمت الكتاب بإقامة هذا المعرض احتفاء بالفكر والمعرفة قبل أكثر من أربعة عقود من الزمان، وكرمتنى وكرمت كل المثقفين العرب يوم شيدت المتاحف وأقامت المعارض وعقدت المؤتمرات والندوات احتفاء بتراثنا العريق وبفنوننا المعاصرة، وكرمتنى وكرمت كل المثقفين العرب يوم اختارت أن تحتضن الثقافة فصارت اليوم عن جدارة واحدًا من أهم مراكز الإشعاع الثقافى فى وطننا العربى. 

إن الشارقة باحتضانها الثقافة إنما تتبنى واحدة من أهم القضايا المصيرية التى تواجه الوطن العربى فى الوقت الحالى، وهى قضية الهوية، فالثقافة كانت وستظل دومًا هى عنوان هويتنا العربية، هى المرآة التى نرى فيها قسمات وجهنا العربى الأصيل الذى لفحته شمس حضارة مجيدة ضاربة فى عمق الزمان، وهى الوعاء الذى حفظ وجدان الأمة عبر قرون الزمان. إنها البصمة التى تفرّق بين التبعية والاستقلال، بين الذاكرة والنسيان، بين أن نكون أمةً لها صوت ورسالة، أو أن نتحوّل إلى شتاتٍ من الأصوات المبعثرة هنا وهناك.

ولعل ما نشهده اليوم من تفككٍ وانقسام فى الجسد العربى لا دواء له ولا شفاء منه إلا بإدراك هويتنا العربية الجامعة والعودة إلى ثقافتنا العربية الواحدة، فهويتنا الثقافية والقومية هى وحدها القادرة على أن تلمَّ شتاتنا الذى يزداد يوما بعد يوم، لأنها عنوان كينونتنا، بل هى شرط وجودنا.

لقد كانت هويتنا الثقافية على مر العصور هى المستهدف الأول لأعدائنا، فكانت مكتبة الإسكندرية القديمة أول ما احترق عند غزو الرومان لمصر فى القرن الأول قبل الميلاد، كما كانت متاحف بغداد هى أول ما نهب عند غزو رومان العصر الحديث للعراق فى القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، وإن ما نشهده فى غزة اليوم من تدمير وحشى هو محاولة أخرى للقضاء على الهوية العربية لهذا الجزء العزيز من الوطن بعد أن استعصت محاولات طمس تلك الهوية بمخططات التهويد البائسة على مدى العقود الماضية، لذا جاءت محاولة القضاء على الإنسان العربى نفسه عن طريق حرب الإبادة المستعرة نيرانها منذ أكثر من سنتين، فالإنسان والهوية الثقافية صنوان كنخلتين، ينموان من جذع واحد .

ولقد طغت أخبار الحرب والقتال على رؤية العالم لغزة باعتبارها بؤرة نضال صامدة اعترف لها العالم كله بالنبل والجسارة، بالشرف والشرعية، بعد ما أشهدته على إبداعها المتفرد فى المقاومة والصمود، وفى خضم الحرب نسى البعض أن غزة واحدة من أقدم مدننا العربية، وأن جذورها تعود لأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، وأن تدميرها يكاد يكون تدميرًا لحضارات العالم كلها، فهى تحتضن آثارًا مصرية قديمة وإغريقية ورومانية وبيزنطية وكنعانية وفينيقية وإسلامية ومملوكية وعثمانية، ومع حملات القتل والتجويع، غفل العالم عن خطط القضاء على تاريخ القطاع وهويته، فى الوقت الذى جرى تدمير أكثر من مائتى معلم من أهم المعالم الأثرية النادرة على أيدى جحافل التتار الجدد، من بينها مسجد السيد هاشم الذى يضم قبر هاشم بن عبد مناف جد النبى، وكنيسة برفيريوس ثالث أقدم كنائس العالم قاطبة، والمقابر الرومانية التى يعود تاريخها لأكثر من ألفى عام، إن الآثار الحجريّة قد يسهل تدميرها لكن كيف تمحو الهوية الثقافية للشعب والأرض والتاريخ؟! إننا إذ نلتقى هنا، فى كنف الشارقة الغالية، إنما نرفع معًا راية الثقافة العربية الصامدة، فى فلسطين كما فى العراق وسوريا وليبيا ومصر والمغرب والسودان، نرفعها إعلانًا للانتماء، وإيمانًا بأن الثقافة هى آخر خطوط الدفاع عن الإنسان العربى وكرامته. 

السادة الحضور..

إن الحديث عن الثقافة يقودنا حتمًا للحديث عن اللغة، فاللغة هى الحرف الأول فى الأبجدية الثقافية، ولغتنا العربية التى خلدها القرآن هى أبلغ لسان عرفه البشر، فهى أكثر اللغات ثراء وأطولها ديمومة، هى وعاء فكرنا العربى، وهى ضمير وجودنا، وقد رأينا لغات عريقة تندثر وتزول مع الأيام، كاللاتينية والعبرانية والآرامية والسومارية والأكادية وغيرها، بينما بقيت العربية نابضة فى القلب والوجدان، لسانًا للملايين وجسرًا بين الماضى والمستقبل.

ولأنها كذلك فقد كانت وما زالت وستظل مستهدفة من أعدائنا، فاستهدافها من استهداف الهوية العربية، على أن ما يدمى القلب هو أن تستهدف اللغة العربية من أبنائها أنفسهم، وما زلت أذكر حين تفضل سمو الشيخ سلطان قبل أكثر من عشر سنوات باستقبال وفود الأدباء العرب المشاركين فى مؤتمر الاتحاد العام للآدباء والكتاب العرب الذى شرفت برئاسته لثلاث دورات متتالية، أن قال سموه: أوصيكم باللغة العربية، وأشار إلى أعدائنا الذين أعادوا اختلاق لغتهم الحالية من لسان قديم كان قد اندثر منذ قرون، بينما نكاد نحن نقتل لغتنا الحية الفتية الثرية، فنطمس معالمها بكلمات وتراكيب لغوية أجنبية.. وإذا طمست اللغة فأنا لنا أن ننهض بثقافتنا إذا كان لساننا هجينًا مستعارًا من لسان الآخرين؟ 

إن اللغة هى اللبنة الأولى للثقافة، وبتطورها السليم تتخطى الثقافة كونها حصاد الحضارة والتاريخ، لتصبح أيضًا مشروع المستقبل الذى نتطلع إليه، وسلاح المقاومة ضد محاولات التذويب والتهميش والنسيان. فمن يملك لغته وفنه وتاريخه، لا يُهزم، حتى وإن خسر معركة سياسية هنا أو واجه أزمة اقتصادية هناك.

السادة الحضور..

إنى أعد لقاءنا هنا فى معرض الشارقة دعوة متجددة لمواصلة الطريق، طريق الإيمان بالثقافة وبالفكر، عبر الكلمة والكتاب، طريق الإيمان بالإنسان العربى الواحد فى كل الأقطار العربية، من مصر للإمارات، ومن اليمن للمغرب، ومن سوريا للصومال.. الإنسان القادر على النهوض بأمته متى استعاد وعيه بنفسه وبتاريخه وبثقافته. 

إنى أتصور اجتماعنا هنا دعوةً إلى مزيدٍ من الإيمان بدور المثقف العربى، لا بوصفه شاهدًا على عصره، بل باعتباره فاعلًا مؤثر فيه، ومسئولًا عن إضاءة مشاعله وسط العتمة التى يحاول البعض فرضها علينا، بقتل لغتنا وتدمير آثارنا ومحو هويتنا. إن المثقف هو المسئول عن إعادة ثقافتنا العربية إلى مكانها الأول: فعلًا من أفعال الوجود والحرية وتحقيق المستقبل المشرق الذى تستحقه هذه الأمة.

إن الثقافة فى معناها العميق، أيها السادة، هى فعلُ محبة. محبةٌ للإنسان وللحياة وللمستقبل. ومن هذه المحبة يمكن أن نبدأ رحلة لملمة الشتات العربى، لا بقراراتٍ سياسية زائلة، بل بوعيٍ ثقافى راسخ يُعيد للإنسان العربى ثقته بذاته وانتمائه لأمّته.

فالثقافة وطنٌ لا يُحتل، وجسرٌ لا يُهدَم، وصوتٌ لا يصمت. 

شكرًا لحسن إصغائكم، 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته