فلنضرب كفًا بكف تعجبًا واستنكارًا

من أسوأ الأمور الاضطرار للكلام فى مسائل اتفق الجميع على أنها صارت من البديهيات الأولى، التى لا ضرورة لتناولها مرة أخرى، لكن يبدو أن وزارة الثقافة تصر على الخوض فى البديهيات الأولى مرة أخرى، عندما تقرر إغلاق حوالى مائة وعشرين مقرًا من مقرات الهيئة العامة لقصور الثقافة المنتشرة بجميع أقاليم مصر، فتدفع الناس إلى التنبيه والتذكير بأهمية الثقافة، وضرورتها ووجودها بين الفقراء والشرائح الاجتماعية المحرومة من الأنشطة الثقافية بالمدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، كما تجعلهم يتناولون بديهية معروفة أخرى، وهى العدالة الثقافية التى نص عليها الدستور المصرى وأكد حق المواطن فى الثقافة، والغريب أن وزارة الثقافة تصدر قرار إغلاق المقرات الثقافية فى الوقت الذى أنفقت فيه ملايين الجنيهات على قصور ثقافة أخرى كقصر ثقافة الجيزة أو قصر ثقافة الفيوم، الذى جاء مبناه على غرار مكتبة الإسكندرية وتكلف وقت إنشائه خمسة وثلاثين مليونًا من الجنيهات.
ومن البديهيات التى يعرفها أى إنسان لديه قدر من العقل والاستنارة، أن الثقافة هى حائط الصد الحقيقى لكل فكر ظلامى إرهابى، يجر المجتمع إلى أزمنة العصور الوسطى المتخلفة، وبديهيًا يدرك أيضًا، أن حاجتنا للثقافة الآن وعلى وجه التحديد، زادت عن أى وقت مضى، فالأخطار التى تحيق بالمجتمع المصرى تتعاظم، وتتخذ من المجال الثقافى ملعبًا لها وتسعى لتكريس القبح والرداءة بدلًا من الخير والحق والجمال.
وكنا نظن أن قرار وزارة الثقافة، تم اتخاذه على ضوء دراسات قائمة على أساس من المرجعيات والبيانات الموضوعية، ولكن يبدو أن هذا القرار قد جاء على نحو عشوائى تقديرى، بحجة أن هذه المقرات لا تقوم بدورها على الوجه الصحيح، وأنها صارت تشكل عبئًا على الوزارة.
كلام عجيب عن قرار أعجب، لأن وزارة الثقافة ليس لديها خطة واضحة للعمل الثقافى يتم على ضوءها تقييم أداء الأنشطة الثقافية المنبثقة عن الوزارة، والوزارة عمومًا لا تطرح سؤال الجدوى الثقافية، وهو السؤال الأهم المتعلق بأى نشاط ثقافى مزمع إقامته، وعمل الوزارة بصفة عامة يكاد أن يكون عملًا عشوائيًا بلا دراسة، وفى أفضل أحواله فهو عمل يتم وفقًا لنظرية الدفع الذاتى، والعمل على غرار ما تم عمله وترسيخه فى سابق العصر والأوان.
مؤسسات وزارة الثقافة وما ينبثق عنها من أنشطة تدار على الأغلب بعقلية الموظفين وليس بعقلية المبدعين الخلاقين القادرين على الخيال والابتكار والفعل الثقافى المتجدد، والمشكلة ليست فى المقرات الثقافية التابعة للوزارة، ولكن فى الذين يديرون هذه المقرات، فمعظمهم- كما يعلم الجميع- ليس لهم علاقة بالثقافة أو بالفن أو بالإبداع عمومًا، ومعظمهم تم تعيينهم عن طريق الأقارب والمعارف والمحاسيب، والعمل فى هذه المقرات يشكل بالنسبة لمعظمهم دخلًا حكوميًا ثابتًا لا أكثر ولا أقل، ولو أديرت هذه المقرات بعقليات متفتحة مستنيرة خلاقة، لاختلف الأمر كثيرًا، ولأصبحت بؤرًا تنويرية مهمة، وحائط صد حقيقيًا ضد أفكار العنف والإرهاب، وضياع الشباب فى بؤر الإجرام والمخدرات، فشاب يتعلم الرسم أو فتاة تتذوق الموسيقى وتعزفها، معناه تفتح زهرة وازدهارها فى حقل ملىء بالألغام الخطرة المدمرة، ولكن أن تدار هذه المقرات بمدام عفاف والأستاذ محمد وأمثالهما ممن لا يفكرون إلا فى المرتب آخر الشهر، المكافآت والحوافز والإضافى، فتلك هى المسألة التى تجعل التساؤل مشروعًا عن أولئك الذين يتخرجون فى كليات الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون ذات المعاهد الفنية المتخصصة ويظلون بلا عمل سنوات وسنوات رغم مواهبهم وقدراتهم الإبداعية العديدة.
وقصور الثقافة يمكن أن تتحول إلى مراكز إنتاجية تحقق قدرًا من الربح، بحيث لا تصبح عبئًا على ميزانية الوزارة، ورغم التقدم الهائل فى صناعة الحرف اليدوية البديعة والمتنوعة بمصر والمثير للدهشة والإعجاب من خلال ما يعرض من هذه الحرف فى المعارض السنوية كمعرض ديارنا أو معارض سوق الفسطاط، إلا أن منتجات هيئة قصور الثقافة تظل رديئة، ودون المستوى، وبلا جمال، والسبب فى ذلك يعود إلى الأداء البليد للموظفين، فلماذا لا تأتى الوزارة بمبدعين مختصين فى هذه الحرف ليقودوا العمل وتدريب الشباب عليها وليكن هناك معرض أو سوق ثانوية لبيع هذه المنتجات ويصرف عائدها على تنمية أداء هذه القصور؟
كثير من مبدعى مصر وفنانيها فى كل المجالات خرجوا من هذه القصور، وتلمسوا خطواتهم الأولى نحو الإبداع من خلالها، الفنان الوزير فاروق حسنى جاء من قصر ثقافة الأنفوشى بالإسكندرية، الفنان النجم محمود ياسين جاء من قصر ثقافة بورسعيد، الشاعر محمد عفيفى مطر والفنان عز الدين نجيب، تلمسا خطواتهما الأولى فى قصر ثقافة كفر الشيخ، وهناك عشرات وعشرات غيرهما، صنعتهم قصور الثقافة التى تريد وزارة الثقافة أن تغلقها، مثلما أغلقت مجلة الخيال المختصة بالفن التشكيلى، ومثلما أهملت العديد من المسارح ومثلما ومثلما.. وكأنها تفتح ذراعيها للعنف والظلام والإرهاب قائلة لها تفضلوا خذوا مكانى.