دفاع الدكتور مختار سويلم.. قصة تنشر لأول مرة لصلاح عيسى

- إلى عينيها الجميلتين البريئتين.. أجمل العيون وأحبها.. فقد تدرك يومًا ما عانيناه من عذاب..
- أفندينا ولى النعم يأمر بتنفيذ أحكام الإعدام علنا عند منتصف الليل
- أؤكد لكم أننى برىء وأن وجودى فى السجن لا ضرورة له على الإطلاق فأنا إنسان هادئ ومسالم وليس ثمة خطورة منى كما حاول المتآمرون علىّ أن يصورونى
- زوجتى اسمها الحقيقى ليس مارجريت وإنما «ست الملك الفاطمية»
- قتيل بلا قاتل ومحكمة بلا قضاة وأفندينا ابن لذة قديم.. لهذا شنق عبدالله حيطة ورقصت «خضرة الضباطى» رقصة الانتصار
لا يحتاج أستاذنا الكبير والقدير والاستثنائى صلاح عيسى إلى كثير من أشكال البحث المعتادة التى ترصد وتسرد وتلخص كتاباته التى تم التعارف عليها من القرّاء ومتابعى حياته فى بعض مراحلها الأخيرة، لكن هناك حياة طويلة وحافلة بالأحداث العامة الكبرى، والتى تقاطعت بشكل حاسم بحياة صلاح الخاصة، وذلك على المستويين الأدبى والسياسى والبحث الاجتماعى، حيث كان «خريج» معهد الخدمة الاجتماعية، وعمل فى بداياته فى مجلة «المجتمع العربى»، ونشر كتاباته الأولى، والتى كانت تحقيقات فى تلك المجلة، بالاشتراك مع زميلته «فريدة أحمد»، وقد اقترنا فى 7 ديسمبر 1963، وكان صلاح فى ذلك الوقت شعلة نشاط فكرى وحركى وسياسى واضح، وبالطبع كان مشاغبًا، ورغم انشغاله بالفكر السياسى، إلا أن ميله العميق إلى كتابة النقد الأدبى دفعه إلى ساحة الإبداع القصصى كذلك.
كانت أولى مشاغباته عندما كتب الناقد رجاء النقاش مقالًا عن رواية «السمان والخريف»، ونشره فى مجلة الآداب اللبنانية مارس 1963، وافترض النقاش أن الأزمة التى واجهت عيسى الدباغ كانت أزمة وجودية، وهذا ما اعترض عليه واحتج ورفضه بقوة، لأن عيسى الدباغ- كما رأى، وهذا أقرب إلى الصحة- لم يكن شخصًا فى فراغ، ولكنه كان منتميًا إلى سلطة سياسية حاكمة، تلك السلطة وفرت له مناخًا اجتماعيًا مرتفعًا، وعندما أتت ثورة يوليو عام 1952، انتزعت منه السلطة السياسية، والمستوى الاجتماعى، لذلك فأزمة عيسى كانت أزمة سياسية واجتماعية بامتياز، ولأن صلاح عيسى كان «مضروبًا بالتاريخ»، راح يرصد ويسرد ويحلل كل الملابسات التى أحاطت بأحداث الرواية، وكان ذلك التعقيب أو البحث الذى عقب به صلاح عيسى على رجاء النقاش لافتًا بدرجة كبيرة، وجعل من صلاح نجمًا باسقًا فى الحياة الثقافية والأدبية والسياسية، ولكن شجاعته فى قراءة الأحداث ببصيرة تاريخية ثاقبة قد أدت إلى صدامات عنيفة وحادة بينه وبين السلطة السياسية، وكانت ذروة تلك الصدامات، عندما كتب ثلاث مقالات عن الديمقراطية فى مجلة «الحرية» اللبنانية، والتى كان يراسلها الكاتب والمترجم غالب هلسا، كانت تلك المقالات ليست إلا حجّة وذريعة لترهيب هؤلاء الكتاب والمبدعين، فتم القبض على مجموعة من المثقفين فى أكتوبر عام 1966، وتلفيق قضية سياسية ضمت نجوم الحياة الثقافية آنذاك، منهم الشعران سيد حجاب، وعبدالرحمن الأبنودى، والنقاد إبراهيم فتحى، وصبرى حافظ، وسيد خميس وغيرهم، ورغم أن بعض هؤلاء لم يعودوا إلى السجن والاعتقال مرة أخرى، بينما ظل صلاح عيسى ضيفًا دائمًا فى كل أو كثير من الحبسات التى حدثت فى أواخر عقد الستينيات، وأوائل عقد السبعينيات، كان سجينًا ومعتقلًا محترفًا، لذلك كان السجن مكانًا تقليديًا للكتابة والإبداع، ومنها تلك القصة «دفاع الدكتور مختار سويلم»، وأهداها إلى ابنته الوحيدة «سوسن»، ابنة زوجته الأولى «فريدة أحمد».
القصة كُتبت فى معتقل طرة السياسى، بين تاريخى 15 نوفمبر 1968، و6 أبريل 1969، وفى تلك الفترة كان قد بدأ يكتب فى روايته الأولى «مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا»، وهو عنوان مستوحى من عنوان كتاب للأب عيروط، كان نصه «مجموعة دراسات ووثائق لخدمة زماننا»، كما أنه راح يستكمل بحثه الرائع «الثورة العرابية» فى تلك الحبسة، ثم مجموعته القصصية «بيان مشترك ضد الزمن»، والتى كان وضع لها عنوانًا آخر، هو «جنرالات بلا جنود»، ثم تخلى عنه فيما بعد، وكان صلاح قد اهتدى إلى أن يصنع مكتبًا بدائيًا من أقفاص الجريد، وكسوته بكارتون سميك، وكان يهتز كراقصة مصابة بمغص مزمن، ولكنها كانت إمكانيات السجن.
فى تلك الفترة أنجز روايته «مجموعة شهادات..»، والتى كتب فصولها أكثر من مرة، وصودرت بعض فصولها، ولكن تم تهريبها والحفاظ عليها بواسطة السيدة فريدة أحمد، ونُشرت فى دار ابن رشد عام 1980، وأعيد نشرها مرة أخرى فى دار الهلال عام 2006، لكن بشكل معدل لأسباب طباعية، وها هى خبيئته «دفاع الدكتور مختار سويلم»، والتى لم نعثر عليها منشورة فيما تحت أيدينا من مؤلفات الأستاذ، خاصة مجموعة «بيان مشترك ضد الزمن»، وتكمن أيقونية القصة، فى كل الملابسات التى أحاطت بها، وأنها تنم عن ولع صلاح بتشابك الأدب مع التاريخ، وهذا الأمر هو مفتاح كتابات صلاح عيسى الأدبية والتاريخية والفكرية.

1
يا حضرات القضاة.. يا حضرات المستشارين...
إننى أطلب تنحية المحامى المنتدب للدفاع عنى، فهو كاذب كابتسامة الشرطى، وآهة المومس. وهو لا يدافع عنى، ولكن عن حقه فى الأتعاب. ثم إنه متآمر على رقبتى، وقد نما إلىّ أنه نذر أن ينفق الأتعاب التى سيسرقها منى، فى ليلة ملتهبة بالشهوة، حددها بليلة إعدامى، بل إنه حدد لحظة شبقة باللحظة التى تفصل المقصلة فيها رأسى عن جسدى. إنه عدو ومتآمر، بل إن المدعى العام أكثر رحمة بى منه، لذلك أطالب بتنحيته، القانون يؤيدنى، والعدالة فى صفى.. وقد تسألون عمن يدافع عنى إذا نحى هذا المحامى كما نحى سابقوه لنفس السبب، وأجيب أننى سأفعل ذلك بنفسى. وصحيح أن إلمامى بالقانون قليل، لكن بحثى عن العدل طويل، والآن فلتتهامس يا سيادة الرئيس مع عضو اليمين.. ثم مع عضو اليسار، ولتنطق حكمك بالاستجابة للطلب.
أشكرك. فلتنصرف فورًا يا سيادة المحامى، وأنصحك بأن ترتزق من مهنة أخرى كالقوادة أو ما شابهها، وأقسم لك غير حانث إنك كاسب ولست بخاسر.
«سيدى الرئيس.. سيادة القضاة».
أؤكد لكم أننى برىء، وأن وجودى فى السجن لا ضرورة له على الإطلاق، فأنا إنسان هادئ ومسالم، وليس ثمة خطورة منى كما حاول المتآمرون علىّ أن يصورونى، إن السجن الذى أُودعت به سجن غريب الشأن، لم أعثر فى قراءاتى على شبيه له فى أى مكان، فمأمور هذا السجن رجل رفيع جدًا، يلبس معطفًا أبيض ويدخن طباقًا كريه الرائحة ويتحدث بنعومة عذراء مدعية. وقد سألنى أول ما لقيته:
اسمك وسنك وعنوانك ووظيفتك؟
لم يكن يسجل ما أقول كعادة المحققين، ربما لكى يعطى نفسه فرصة تشويهه.
اسمى على حيطة، عمرى ٨٠ سنة. أقيم بمسجد الإمام الشافعى على مبعدة ثلاثين قدمًا من القبلة. وظيفتى مسحراتى عمومى.
نفخ دخان طباقه فى وجهى وتابع أسئلته:
- يا سيد على، هل تذكر تاريخ اليوم؟
- نحن فى اليوم العاشر من محرم سنة ١٩٦٨ ميلادية.
- رائع.. ولكن كيف كان الشهر بالتقويم الهجرى، بينما السنة بالتقويم الميلادى؟!
- هذه مُشكلة لا شأن لى بها، وقد قرأت التاريخ هكذا فى جريدة الصباح.
ألجمته الحجة. سكت لحظة، ثم ألقى إلى بالجريدة وتساءل:
- هل تعرف صاحبة هذه الصورة؟!

تأملتها برهة.. قلت
- بالطبع.. إنها «دوريس داى» نجمة السينما. وعلاقتى بها عادية. وقد غازلتها مرة فى دار سينما مترو. وقذفت لى بقبلة فى الهواء. ولكنى كنت حزينًا يومها على أخى الذى مات فى مشادة بإحدى حانات حى البغاء، لذلك لم أستجب لغزلها وفيما عدا هذا فليس لى بها أى علاقة.
- والذى بجوارها؟!
- هذا صديقى العزيز أرنستو شى جيفارا.
- هل هو صديقك حقًا؟
- طبعًا. لقد زارنى منذ أسابيع قليلة. حدث هذا فى المساء المتأخر، وكنت قد شربت سبع كئوس من الويسكى المعتق، ودعوته لمشاركتى أحزانى فاعتذر وعرض علىّ سيجارًا هافانيًا فاخرًا فقبلته منه، وقال لى إنهم يتعقبونه فى أحراش بوليفيا، وأنه يهرب منهم، وأكد لى أن مدينتنا غريبة، صامتة ومظلمة وموحشة وسألنى عما إذا كان الناس قد ماتوا، فلم أجب، ولم يمكث كثيرًا ليستطيع اللحاق بالطائرة.
«يا حضرات القضاة»..

إن أمامكم فى ملف الدعوى تقريرًا عن هذا التحقيق بلا شك لذلك فإنى لا أطيل فى الحديث عنه. ولكنى أريد أن أؤكد لكم أن هذا المأمور كاذب ومزور وآية كذبه أنه بعد أن تحدث معى، أخرج من درج مكتبه بطاقة شخصية وقال لى.
- اقرأ بياناتها..
تأملت فى البطاقة وقرأت.
«الاسم: الدكتور مختار حسين سويلم - تاريخ وجهة الميلاد ٤/١٠/١٩٣٦ طنامل دقهلية. الوظيفة: باحث بمعهد الأبحاث والتكنولوجيا. العنوان: فيلا مختار بالمعادى. شارع ٣٦».
وأكملت قراءة بقية البيانات، واستفهمت نظراتى عما يقصد:
- انظر إلى الصورة.
رفعت كتفى متسائلًا
أليست هذه صورتك؟
- لا طبعا.. وإن كانت تشبهنى كثيرا.
تساءل بنفاد صبر:
- كيف لا تعرف صورتك؟
- ولكنها ليست لى.
.. وهو يتأمل البطاقة فى يده
- يا دكتور مختار، تأكد أنك فى أمان، وليس هناك خطر على حياتك، فلماذا تزعم لنفسك شخصية غير شخصيتك.

متآمر هو الآخر، كشف نفسه الألعبان، يريد منى أن أعترف بأننى مختار سويلم، ربما كان هذا المختار مجرمًا من أصدقائه يريد التستر على جريمته، واختارنى لأكون كبش الفداء. ولكنى على حيطة.. على حيطة.

2
«يا حضرات القضاة»..
«إن هذا المأمور نوع من الرجال أعرفه جيدًا، إننى أثق فى أن ما كتبه من تقارير عنى كله كاذب ومزور. فلست مجنونًا كما قد يزعم، فأنا أعرف أنكم محكمة، وأن هذا هو المدعى العام، وأن العدل أساس الملك، وأنا أعرف أيضًا أن رئيس الدائرة هو المستشار المحترم «دراكيولا المصرى». وأن عضو اليمين هو المستشار «داود فرانكشتين». وأن عضو اليسار هو «الحاكم بأمر الله الفاطمى» رضى الله عنه وأرضاه، الإمام المعصوم المعتصم. كذلك فأنا أعلم جيدًا أننا نعيش فى عصر الفضاء، وأن الدكتورة «سعاد حسنى»، أستاذة علوم الذرة بمعهد التكنولوجيا، وأنها أكملت أبحاث «مارى كورى»، وليست ممثلة إغراء، كما زعم الكذاب المحتال، الذى أراد أن يضيف إلى قائمة اتهامى تهمة القذف فى حق هذه المواطنة الفاضلة.. ولكنى كنت أذكى من أن أقع فى هذا المأزق الخطير.
إننى عاقل يا حضرات القضاة.. وهو شىء لا يحتاج إلى تدليل أو تأكيد.

فشبهاته التافهة لا يمكن أن تعد دليلًا علىّ. وقد درست تاريخ حياة أعضاء هيئة المحكمة الموقرة، فأنا أعلم مثلًا أن المستشار «دراكيولا المصرى» رئيس الدائرة تخرج فى كلية الحقوق بمدينة «منف» منذ أكثر من مائة عام، وأنه عمل رئيسًا لعدة محاكم قبل ذلك، وتولى منصب المدعى العام لدى محكمة التفتيش بمقاطعة إسبانيا الوسطى، وأنه يحب القطط السيامية ولحم الضأن ويدخن طباقًا أمريكيًا، ويقضى ليلة الجمعة من كل أسبوع فى ملهى «التيفولى»، حيث تروح عن قلبه عناء العمل من أجل العدل، فنانتنا الزائعة الصيت وملاكنا الرحيم الطاهر: «مدام دو بومبادور».
سيدى الرئيس
إن هذه الأدلة التى لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها تنفى الزعم الذى قد يقول به مأمور السجن الكاذب من أننى مجنون، بل وسوف أقدم لكم الأدلة على أنه يسىء استغلال سلطته، ويتبع أساليب غير مشروعة متصورًا أنه يخدم بها العدالة! إن هذا من حقى فهو شاهد أساسى وتجريحه أحد حقوقى.
لقد أودعنى بعد التحقيق معى فى حجرة نظيفة على سرير أبيض الملاءة، بل واستبدل السجانين بسجانات فاتنات يلبسن ملابس بيضاء، قالت إحداهن:
- إذا أردت شيئًا فاطلبنى.. اسمى سامية..
هززت رأسى فى قرف.. قالت وهى تتأهب للذهاب.
- هل تريد شيئًا الآن يا دكتور مختار؟
أزعجنى قولها رغم ابتسامتها الداعية للرقاد، فأكدت لها أن اسمى على حيطة، وأن وظيفتى مسحراتى، وأن عليها أن تأتى بدلو أتبول فيه، وآخر أشرب منه، وأننى رغم براءتى من التهمة التى أحاكم من أجلها، شرس مع أمثالها من السجانات، والغريب أن ابتسامتها الداعية للرقاد لم تتقلص، بل قالت فى هدوء:
- أنت هنا فى مستشفى بهمان يا دكتور مختار.
صحت فى غضب:
- اسمعى يا ولية أنا لست دكتورًا.. ولا مختارًا.. ولا دياولو.. أنا على حيطة أكبر مسحراتى فى البلد، أيقظت ثمانية أحياء.. وأنت طبعًا لا تعرفيننى لأنك لا تصومين.
انعكس الشرر المتطاير من نظراتى انكسارًا فى عينيها المتوحشتين.. وقالت:
- لا تزعل يا عم على.. حقك علىَّ.
ولا أنكر أن انكسارها أثر فىّ وللحظة وددت لو احتضنت خوفها المرتعب، فأنا رجل أحمل قلبًا يخفق فى بعض الأحيان، ثم إنها كانت تشبه المرأة التى أحببتها منذ أعوام لا أذكرها.. ولكننى سرعان ما اكتشفت خبثها وبلاهتى، فقد غمزت بعينها وهى ماضية، وسألتنى:
- هل قرأت شيئا عن دكتور جيكل ومستر هايد!!

3
إن السؤال الماكر الذى ألقته هذه السجانة اللعوب، يضطرنى إلى توضيح هذه النقطة، لئلا تكون قد قدمت تقريرًا ضدى. إننى اعترف بأن الدكتور جيكل ظل صديقى الحميم، وأن آخر مرة لقيته فيها كانت قبل مقتله المأساوى بساعات. وقد أهدانى كل أبحاثه المنشورة والمخطوطة، وكنا أعز الأصدقاء. كان يقطن أيامها فى «ميدان الرميلة» وزرته فى معمله، وطلب منى أن أوقظه كل ليلة من ليالى الشهر الفضيل لكى يتسحر، وأن أرفع صوتى فى الليالى العشر الأخيرة، وأن أرتل أغانى التوحيش.
وقال إن صوتى جميل إذا ما رتلت «لا أوحش الله منك يا شهر الصيام».
وفى بداية الشهر زرته، وكان شاحب الوجه زائع النظرات، بدا طوله الرفيع هزيلًا كجثة تجهز للدفن، وقال لى إنه يشعر أن أحدًا يدق جدار رأسه من الداخل، كما لو كان يثبت مسامير محماة وأنه يستيقظ من النوم فيشعر بأنه كان يجوب الآفاق طوال الليل. وأنه لم يعد يجرى أبحاثه، وهو يعتقد أنه مريض.
- ولكنك كنت صحيحًا منذ فترة قصيرة..؟
- نعم.. ولكن لماذا يدق رأسى هكذا؟!
قلت كأنما تذكرت شيئًا كان غائبًا.
أنت تجرى أبحاثك فى هذه الغرفة المطلة على الميدان، ولعل هذا الدق الذى تسمعه هو دق أعواد المقصلة.
- لا أدرى.. ولكنى لم أعد أستطيع أن أنام.. أنا أنام مستيقظا فى الغالب أحلم بأننى مؤرَّق.
وقلت له إن ما يجرى فى ميدان الرميلة يجرى كل يوم منذ سنوات طويلة، وأن أفندينا ولى النعم يأمر بتنفيذ أحكام الإعدام علنا عند منتصف الليل، وأن هذا الدق عادى ومألوف. وأن عليه أن يعود لإجراء أبحاثه فى هدوء ويتجاهل الدق حوله.
- ولكنهم يقتلون إنسانًا بجوارى!!
- وما شأنك أنت..
صمت طويلًا، ثم قام ففتح النافذة وأطل على ميدان الرميلة أمامنا، فسيحًا، كان مظلمًا وموحشًا كلب ضار يطارد قطة صغيرة، والريح تعصف، بعنف أسند ظهره إلى النافذة.
- أنت تقول هذا يا على.. لقد شنقوا أخاك بنفس الطريقة..
أجل يا سادتى.. هذا حدث، كتفوه من أمام ومن خلف، وسحبوه على الأرض ثم أوقفوه على مرمى البصر منا، ومن نفس هذه النافذة كنا نطل أنا وجيكل أطفأنا الأنوار، ونظرنا إليه وهو يمضى إلى نهايته منهارًا وحزينًا وباكيًا.. وكان متشقق القدمين من السير الطويل فوق الصخور «متدلى اللسان» متورم الشفتين، وبعد لحظة، كان جسده معلقًا فى المشنقة، اهتز هزات متوالية كبندول ساعة، وقبل أن يموت تمامًا جز السياف رقبته، وضعها فى طبق كبير تخضبت لحيته بالدم، برقت عيناه الميتتان ومضى به السياف إلى أفندينا ولى النعم.
قال جيكل فجأة
- .. أمن العدل أن يموت؟
تنهدت وقلت:
- كثيرون يموتون كل يوم ولا نسأل أنفسنا هل ماتوا ميتة عادلة أم لا..
لماذا يشغلك الأمر اليوم..
- أنا أسأل نفسى لماذا لم يشغلنى الأمر قبل اليوم.
- لعل هذا هو السبب فى أنك لا تنام.
- يجوز، وأمس كنت آكل ملوخية فتذكرت أن الحاكم بأمر الله كان يكرهها.
- نعم.
لذلك حرَّم زراعتها، وأمر الناس أن يناموا نهارًا، ويعملوا ليلًا، ثم ادعى الألوهية.
- نعم..
- هل تعتقد أنه كان مجنونًا؟
- هذا مؤكد.
- ولذلك قتلته أخته ست الملك الفاطمية.
- أنقذت الناس من شره.
رفع حاجبيه وقال:
- ولكنها أخته، كيف تقتله؟!
صمت طويلًا يا سادتى. ثم قال إن شيئا غريبا حدث له أمس.. باح لى بسر مذهل، لا أستطيع أن أقوله حفظا على كرامته كعالم عظيم، ينبغى أن يتحفظ التاريخ بسيرته، نقية من كل شائبة، لذلك فإنى أطلب من عدالتكم أن تأمروا بجعل الجلسة سرية.
«يا سيادة الرئيس حضرات المستشارين
إن السر الذى باح لى به صديقى الدكتور جيكل سر غريب، وقد يساهم كشفه فى التوصل إلى جوهر مأساته، وتبديد الغموض الذى يلف ميتته الفاجعة والمفاجئة، كنا قد تحدثنا ليلتها عن أخى القتيل «عبدالله حيطة». قال جيكل إنه حلم فى الليلة السابقة أن أفندينا ولى النعم قد جلس فى قاعة العرش، وحوله الذوات الفخام، وكبار رجال المعية، فى ليلة أنس وسرور، حيث رقصت «خضرة الضباطى» أكبر الراقصات وأكثرهن فتنة، رقصة «الأردية السبعة»، فأبدعت وأحسنت، وجن الحاضرون تصفيقًا وتهليلًا. وعندما انحسر الرداء السابع عن جسدها بدا شفافا وصافيا كبلور نقى «انفلت الزمام، وشد الرجال ذقونهم فى هوس جنونى.. لحظتها دخل السياف بطبق من الفضة عليه رأس «عبدالله حيطة». بذقنه السوداء المخضبة بالدماء، فحط السكون فوق الشهوات التى عربدت فى القاعة المتسعة الأرجاء، ووقف أفندينا فداعب شفتى عبدالله بمبسم النرجيلة.. وضحك الحاضرون ضحكات طويلة لروح الفكاهة التى يتحلى بها أفندينا وأكمل جيكل قائلا إنه استيقظ فى الصباح على هزة من زوجته مارجريت ولما فتح عينيه بصعوبة. قالت له إن الحمام معد، فاستغرب إيقاظها المبكر له، وحاول أن يعود إلى النوم، فعاودت إيقاظه، فتساءل ضجرًا عن السبب الذى يدعوها لذلك، وليس ثمة ضرورة للاستحمام فى هذا الفجر الرمضانى البارد، وبدلال الأنثى على ذكرها، وهو دلال تعرفونه جميعا، قالت له.
- ولكن لابد أن تستحم يا عزيزى جيكل وإلا فسد صيامك.
- لماذا يفسد؟!
- يفسده ما فعلناه ليلة الأمس. أحيانا تبدو يا عزيزى جيكل كحيوان فى الثلاثين رغم أن العمر تقدم بنا كثيرًا.
ودهش الدكتور جيكل ما تقوله، فهو لا يذكر أن شيئا هذا قد حدث وصحيح أنه يتبع مذهب الإمام ابن حنبل رضى الله عنه، الذى يوجب عليه أن يزيل الجنابة قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، ولكنه - وهذا هو المهم - لا يذكر أن ما تقوله مسز جيكل قد حدث، بل إن آخر مرة حدث فيها شىء من هذا القبيل قد غاب عن ذاكرته منذ زمن طويل.. وتحت البرد المتساقط من الدش جزم الدكتور جيكل بأن شخصًا غريبًا قد قضى ليلته مع امرأته.
وقال لى
- أنا حائر يا على.. لا أدرى أتمكر بى، أم أنها خُدعت.. وإذا كان هذا قد حدث فكيف؟ وقد كنت راقدًا بجوارها طوال الليل.
وبعد صمت..
- والغريب أننى كنت ساهرًا طوال الليل فى حفلة أفندينا الماجنة، أتفرج على رقصة خضرة الضباطى، وأصفق لها، بينما الخيانة ترتكب فى سريرى.. آه ما أشد بلاهتى.
لعلكم قضاتى تعفون عنى إذ اضطررت إلى ذكر هذه القصة المخجلة، ولكنى أعلم أن العدل ضالة طالبه، وأن الوصول إليه صعب وعسير، والأشواك التى تزحم الطريق كثيرة ليس أقلها أن نضطر إلى ذكر ما لا نحب ولا نرضى، إذا كنتم يا حضرات القضاة قد ابتأستم لذكر هذه الحكاية، فكيف كان وقعها على صديقى المسكين لقد شتتت عقله.. حتى إنه لم يصبر عليها، وقال محاولًا أن يغير الموضوع.
- هل اقتربت ليلة القدر؟!
- بعد حوالى أسبوعين!!
- أنت مسحراتى.. فقل لى، هل صحيح ما يقال عنها..
- وماذا يقال؟
أحقيقة أن طاقة نور فى السماء، وأن من يراها تستجيب السماء لكل ما يطلبه.
- أنا لم أرها كى أحكم.. ويقول أقوام إنها طاقة الحقيقة!!
صمت لحظة وسحب نفسًا من سيجارته! ازدرده وقال:
- كانت أمس ليلة قدرى.. وفى الصباح كنت أبحث عن أوراق فى مكتبى، فعثرت على شىء غريب.. وثيقة زواجى.
وببسمة ساخرة
- تصور أن زوجتى اسمها الحقيقى ليس مارجريت.. وإنما «ست الملك الفاطمية».

4
وإذن فإن هذه السجّانة كاذبة وماكرة، وقد جاءتنى ضحى الأمس وأنا ماثل أمامكم نستمع إلى مناقشة الشهود، فشقت صفوف الحاضرين، واقتربت منى وقالت برقة حيوانية:
- ما الذى يوقفك هكذا يا دكتور مختار؟
وبمجرد أن طالعت نظراتى قالت:
- آسفة، قصدت أن أقول ماذا تفعل هنا يا عم على؟
تفاهة.. سخافة.. هكذا قالت ملامحى، ومع ذلك استمرت:
- لماذا تكلم الأشجار، هذه شجرة سرو، وتلك صفصافة، والتى فى الوسط شجرة لبخ..
تصوروا يا حضرات القضاة، أى جو أعيش فيه، مكيدة جديدة تدبرها لى، ولنفرض أننى كنت ساذجًا، وتصورت حقًا أن ما أمامى أشجار، ثم أحضرت بلطة وأردت أن أجتز شجرة اللبخ، ألا تكون تلك جريمة شروع فى قتل المستشار المحترم دراكيولا المصرى رئيس الدائرة؟ لماذا يريد الكلاب أن يدفعونى إلى المقصلة بالباطل، وكيف يمكن لامرأة مثل تلك أن تمارس الحياة بكل بساطة بينما تفتل لى حبال المشنقة.
والغريب أنها بعد رفع الجلسة دعتنى للطعام فى الزنزانة، وكانت على غير عادتها لا تلبس ملابس السجّانة التقليدية، وإنما توشحت بخضرة نضرة، بدا كيانها داخلها مزهرًا. وقالت ملامحها إنها لا بد فى الطريق إلى حبيب، وقلت لنفسى ساعتها إن تلك نهاية طبيعية لدورها الذى تقوم به.. هكذا فعلت «ست الملك» فيما تذكر كتب التاريخ.
- ألا تريد شيئا آخر؟
توقفت عن الأكل وتأملتها
- لماذا تتصورين دائمًا أننى أريد منك شيئًا؟!
غمزت بعينها
- ألا تعجبك ثيابى؟
- ربما كان السواد أليق بك.
- يا ساتر..
أشرت لها بالسكين:
- يمكنك أن تأخذى هذه معك.. وعندما يسكر بقبلتك اغمديها فى ظهره.
احمر وجهها بغضب مفاجئ وتنمرت نظراتها.
- ولتضمدى جرحه بعد ذلك بقُبلة فى موضع السكين.
اختفى الغضب أسرع مما توقعت:
- أنت قاسٍ يا عم على.. لماذا لا تحبنى؟
- ولنفرض أنى فعلت.
- ستكون سعيدًا بلا شك.
ضحكت.. قهقهت
- لماذا تضحك؟
قلت وأنا أمسح على شفتى:
- عندى فقر دم..
- ما العلاقة بين هذا وذاك. ومع ذلك اتبرع لكِ بكمية من دمى.
- أنت كريمة فيما يبدو.. كذلك كانت «ست الملك»..
- ومَن «ست الملك»؟!
لم أرد.. قالت:
- أنت تفضل أن تكلم الأشجار يا عم على.
- لماذا تلبسين إيشارب أحمر؟!
- هل يضايقك؟
.. وعندما كنت صغيرًا زرت مقبرة أمى، واسترحت فى ظل شجرة وارفة، وتأملت خضرتها المتوجة بأوراق حمراء، وبدا المنظر مبهجًا رغم الدموع التى كانت تطفر من عينى جدتى، لذلك أصررت على أن أتسلق الشجرة لأحضر ورقة حمراء، ولكن جدتى جذبتنى، وقبضت على معصمى بشدة.
- دعك منها.. هذه شجرة لبخ.
- ولكنها حمراء يا جدتى.. لونها جميل.
وقالت إنها ستعطينى ورقة من شجرة على رأس حقلنا، فقلت إن شجرتنا لا تنبت أوراقًا حمراء.. قالت جدتى إن اللبخ لا يزرع إلا على حواف القبور، وأنه يمتص دماء الموتى فتزهر أوراقه احمرارًا شديدًا. لذلك أكرهه.. رغم أن مارجريت كنت تحبه، أما «خضرة الضباطى» فكانت حمراء الشعر، وقد بحثت طوال شهور فى كتب التاريخ القديم فلم أظفر باللون الذى كانت تفضله ست الملك الفاطمية، غير أنى أوقن أنه كان اللون الأحمر بكل تأكيد، وتلك معلومة مهمة أضيفها إلى كتب التاريخ لعلها تفيد الباحثين فى تطور الأزياء.

5
استمحيكم عذرًا لأنى مريض، نمت فى اليومين الماضيين نومًا طويلًا كأصحاب الرقيم، كان حديث المدعى العام فى الجلسة السابقة قاسيًا وكاذبًا، وقد عدت مرهقًا بعد الجلسة فلم أجد سامية، وقال الممرض العجوز إنها فى إجازة، واستيقظت فى منتصف الليل ظمآن، فوجدت أخى عبدالله واقفًا فى الشرفة ينظر إلى سواد الليل الغميق، وكان بلا لحية أو شارب، يدخن بشراهة، ويصفر لحنًا شائعًا.. واحتضنته، ودعوته للجلوس بجوارى، فجلس صامتًا، والغريب أن شعره قد أصبح كتلة من الثلج الأبيض، وسألته عما أشعل الرأس منه شيبًا، فقال إنها الشمس المحرقة التى أُجبر على المشى فى مقلتها أيامًا طويلة، من «قنطرة السباع» إلى «كوبرى الليمون»، قلت له:
- هل صحيح أنك قتلت رجلًا فى إحدى حانات «وش البركة».
- من قال هذا؟!
- كثيرون..
- لا أدرى صحيح أننا كنا فى الحانة.. وكنا سكارى تمامًا.. ولكنى لا أدرى ما حدث بالضبط، كانت «خضرة» ترقص رقصتها المشهورة، والكل يغنى وفجأة انطلق الرصاص من كل الجهات ومات الرجل..
وكيف حكم القضاة إذن بإعدامك؟!
ضحك
- قضاة.. لم يكن هناك قضاة!
مضى.. حتى قبل أن أذكر له أن صديقى جيكل قد مات هو الآخر، وفكرت فى كلامه كثيرًا حتى غلبنى النوم، فنمت، وفى الصباح بدأت فى إعداد ردى على مذكرة النيابة، وقد تذكرت أن السيد المحترم المستشار «دراكيولا المصرى» رئيس الدائرة، كان يقضم ساعتها ساندوتش من البسطرة الحمراء القانية ويهتز طربًا لأكاذيب النيابة. فأردت أن ألفت النظر إلى خروج ذلك عن قواعد القانون. ذلك أنه تحيز لأحد طرفى الخصومة. وما كدت أبدأ حتى تحولت الحجرة إلى مهرجان من الضجة والضوضاء، إذ جاءت سامية ومعها رجل رفيع أسمر الوجه مهزول البدن، بدأ فى طلاء باب الشرفة الزجاجى، ونوافذها بلون أزرق قاتم، وخرجت إلى الشرفة ضجرًا، وتأملت المبنى الذى تحتله محكمتكم التى تواجه مبنى السجن، وساعتها وجدته مبنى هزيلًا ضامرًا، وآيلًا للسقوط أيضًا، وقلت لنفسى إنه لا بد من ترميم المبنى قبل أن يسقط على رءوس حضراتكم فتموتوا، ويموت آخر أمل لى فى النجاة من مأزقى. وبينما الرجل المهزول يمحو بعض الآثار التى ترتبت على العملية الوحشية التى مارسها.. اقتربت منى السجانة الحسناء، لاحظت على الفور أن فى عينيها نظرة رزينة كسحابة صيف، قالت:
- انتهينا.. وتستطيع أن تعود إلى حجرتك؟
هززت رأسى:
- زرع أفندينا ولى النعم «النيلة» وكان أول من أدخلها فى مصر.. وتصبغ بها نساء الصعيد وجوههن إذ ما مات لهن عزيز.
نفخت بيأس.
- ما هذا الكلام يا دكتور مختار؟.. أنا لا أفهم شيئًا مما تقول.
- حتى النيلة الزرقاء التى لوثتم بها شفافية الزجاج.
زمّت شفتيها، ولأول مرة لاحظت أنهما شهيتان:
- الحرب.. هناك حرب ثانية فى الطريق..
بدت الكلمة غريبة يا حضرات القضاة، أى حرب أخرى ولماذا يتفجر القلق فى ملامح الطفلة الشقية، وأين ابتسامات العبث والسخرية. وكان كيانها متفجرًا بالرغبة منذ أيام، فكيف بلغت سن اليأس بهذه السرعة المريبة؟
أم أنها لعبة أخرى.. قلت:
- قرأت فى جريدة الأمس أن هناك مشروعًا لتعميم زراعة اللبخ قدمته الحكومة لمجلس الأمة. وليس هناك أى شىء آخر.
لوت جيدها عنى، وامتصت الحديقة نظراتها..
- أنا أحدثك عن الحرب يا دكتور؟
- أى حرب يا سالومى!!
قالت بسهوم واجف:
- وهل هناك مائة حرب.. إنها حرب واحدة «ثم بعد لحظة صمت». لماذا تدعونى سالومى.. اسمى سامية.
- وما الفرق، أقرأت عن تناسخ الأرواح، كانت فاتنة كحبة كرز، ورقصت رقصة الأردية السبعة.
ضمت الباطلو الأبيض فوق صدرها بعد أن ضبطت نظراتى المتسللة.
- أنت غريب، ولن تفهمنى، ولكنى حزينة، ومن سوء حظى ألا أجد سواك لأحدثه.. أمس استدعوا خطيبى للحرب، وقد لا يعود.. ولكنك لا تهتم سوى بإطلاق أسماء وهمية للناس.
- وكيف كان ذلك؟
- أنت مثلًا تسمى نفسك على حيطة.. فى حين أنك دكتور ومثقف وأستاذ بالجامعة فلماذا تصر على ذلك؟. لك زوجة جميلة وأطفال ظرفاء، فلماذا تهين زوجتك كلما جاءت وأنت تقف فى الحديقة ساعات طويلة تكلم أشجار اللبخ والصفصاف، وتروى حكايات طويلة عن صديقك الدكتور جيكل وزوجته، وتتخيل أنك تسكن فى ميدان الرميلة، وأنك تسمع دقات أعواد المقصلة، ولكن هذا لا يحدث. لقد مُحى ميدان الرميلة منذ سنوات طويلة..
فى عينيها بريق صدق.. عادت فهزت رأسها:
- أنت نفسك فى مرة حكيت لى قصة صديقك على حيطة..
- هل قلت لكِ إنه كان لى صديق يحمل نفس اسمى؟!
- لا يا دكتور.. أنت لست على حيطة.. كان مسحراتى حيكم إذ كنت طفلًا.
- نعم، كنت أيامها ضخمًا وضاحكًا، وفى الفجر كنت أوقظ النيام.. أدق على أبواب البيوت، على نوافذ الأدوار السفلية، أنادى الكبار والصغار، وأغنى للأطفال، وأدلل الرجال، وأوقر الأمهات وأصيح بأسماء العذارى فيفرح أحباؤهن، وتحمر خدودهن ويستيقظ الجميع. ويصبح الليل نهارًا ويشتعل الظلام نورًا.. طيلة عمرى أكره الليل والصمت والقبور.
أزاحت خصلة من شعرها الأسود عابثت خدها.
- نعم يا دكتور، ولكن على حيطة هو الذى كان يفعل ذلك أما أنت فكنت تستيقظ على دقاته.. وعندما كبرت أغلقت على نفسك باب معملك تدرس وتبحث.
- كلا.. صديقى جيكل هو الذى كان يفعل ذلك!
بحدة قالت:
- لم يكن لك صديق اسمه جيكل.
- كنت أحبه.. ولكنى كرهت عمله.
- لماذا فعلتَ ما فعلتْ؟!
والشمس تذبح على مشارف الغروب قالت:
- أنا أُجلّ حزنك حقًا.. أنا نفسى انقبض صدرى عندما علمت أن خطيبى استدعى للحرب، ولكن أخاك مات فيها..
- دقوا له المقصلة فى ميدان الرميلة؟
فى يأس حزين..
- تقصد فى سيناء ١٩٦٧.
- وأكلته الصقور.. تصورى أن تترك جثته عارية فى قيظ الصحراء، وتحوم حولها الصقور، تأكل منها فى تلذذ.
وضعت كفها فوق كتفى، واجهتنى عيناها فى صمت الغروب، انعكس الشفق فى صفائهما حزنًا داميًا.. قالت.
- ولكنه مات شهيدًا.. أليس كذلك؟
ضحكت.. ضحكت.
- قتيل بلا قاتل، ومحكمة بلا قضاة، وأفندينا ابن لذة قديم.. لهذا شنق عبدالله حيطة. ورقصت «خضرة الضباطى» رقصة الانتصار.
انفجرت سامية باكية، أسندت رأسها على حائط الشرفة، أخفى شعرها دموع العين والحزن المقهور.
- ما هذا الذى تفعله يا دكتور؟ ما هذا الذى تفعله؟!

6
أجل يا ملاذ العدل.. ذلك حدث، وربما لهذا السبب لم أستطع أن أعد ردى على النيابة، أو أن أدحض اتهامها الباطل لى بإقلاق الراحة العامة فى وقت الحرب، وهى تهمة قد تودى بى إلى المقصلة، خاصة أن بعض الجهات قد شككت فى أن يكون عملى هذا جزءًا من خطة شاملة لتسهيل دخول العدو إلى بقية البلاد. وأنا رجل لا شأن لى بالسياسة ولا أفهم فيها على الإطلاق، لذلك ذهلت عندما كيفت النيابة التهمة هذا التكييف الغريب، فكيف تسمى عملى هذا إقلاقًا للراحة العامة فى وقت الحرب؟ إنه يدخل فى صميم مهنتى التى اعتمدتنى الدولة لأدائها.
وحقيقة ما حدث يا حضرات القضاة أننى فى الليلة التى قتل فيها صديقى الدكتور جيكل، كنت معه قبل الغروب، وقال لى ليلتها إنه سيهدم معمله ويكف عن بحوثه، وأنه تعب ومرهق وحدثنى عن أخى عبدالله، وقال إنه بكى عليه كثيرًا. وإنه يستغرب كيف خانته «خضرة الضباطى» ثم ضحك فى خفوت وقال:
- لذلك لا يدهشنى أن تكون زوجتى قد خانتنى، ولعل صديقى الدكتور جيكل قد قُتل فى هذه اللحظة بالذات، أو بعدها بقليل، ذلك أننى عندما استيقظت قبل السحور بدقائق. نظرت من نافذة منزلى المواجهة لمنزله، فوجدت الأنوار مطفأة.. وكنت عندما استيقظت متوترًا كحيوان حبيس، وجدت المدينة نائمة كجثة حبلى. والظلام مطبق وخانق، فقيود الإضاءة معلنة وشخير حاد ينطلق من كل نافذة. فى تلك اللحظة فقط شعرت برغبة حادة فى أن أمارس مهنتى. واكتشفت أن «البازة» التى أدق عليها صغيرة، ونقراتها ضعيفة، صعدت إلى أعلى المنزل، فتشت فى مخزن قديم، وجدت طبلة كبيرة وضخمة جدًا، وفانوسًا كبيرًا. انطلقت إلى الشارع، دققت بكل قوتى، وفتاى الصغير يحمل الفانوس أمامى.. الشوارع التى مررت بها أصبحت شعلة ضوء من مجرد فانوس.. صوتى يعلو، لا أدرى ماذا كنت أقول بالضبط.
- اصح يا نايم.. وحِّد الدايم.. أفندينا ولى النعم غدًا صائم.. وخضرة الضباطى تعيش فى أحضانه، يفطر بجسدها ويتسحر بجسدها.. عبدالله حيطة شنق فى ميدان الرميلة، جيكل انتحر.. اصح يا نايم.. وحِّد الدايم.. ثمانى ليال كاملات يا حضرات القضاة، وأنا أفعل هذا، وفى الليلة التاسعة كنت فى الحى التاسع.. فتصدى لى عسكرى الدورية.
- يا أفندى.. يا أستاذ!
- نعم؟!
وضع يدًا ثقيلة على كتفى:
- لماذا تضىء الفانوس فى عز الليل..
- ولماذا لا أفعل؟
- أنت تخالف قيود الإضاءة!
- وأنت تساعد على تربية الخفافيش.
- ولماذا تسحر الناس؟
- ولماذا لا أفعل؟
- هناك مسحراتى آخر يفعل ذلك كل ليلة!
- إنه جاهل ولا يقول كلامًا مفيدًا.
- وهذا الحى لا يصوم، إنهم خواجات وذوات، ولديهم منبهات.
- ولو..!
قال بنفاد صبر:
- أنت ابن ناس طيبين، وأفندى محترم، شفاك الله، ولكنى لا أستطيع أن أتركك تزعج الناس كل ليلة، ولو عدت لمثلها فسوف تبيت فى التخشيبة.. وقد كان..

7
كان المساء هادئًا وساكنًا ومعذبًا.. وكانت سامية تتحرك بوقار، وأنا أطالع صحيفتى، وضعت العشاء بجوارى، وسحبت المقعد وجلست أمامى تتحرك أصابعها بإبرتى التريكو بسرعة شديدة قالت:
- هل أنت على ما يرام يا دكتور؟
- نعم.. يبدو أننى أقلقكم كثيرًا.
- هذا عملنا.. فلا تشغل بالك.
نشر الصمت ظله علينا لحظة.. بددته:
- جاءت المدام فى الصباح.. ومضت غاضبة
- .......
- أحيانا تكون قاسيًا.. بكت المسكينة كثيرًا وخجلت أنا وفررت هاربة من الحجرة.
- لماذا؟
- كنت تقول كلامًا لا يُعاد عن الصباح الذى أيقظتك فيه، وكيف طلبت منك أن تذهب إلى الحمام.. و.. أشياء لا تُقال. هذه أوهام.
- ولكن هناك خيانة.
لم ترد.. وعندما استيقظت كان المقعد خاليًا منها، بينما جلس عليه شخص آخر، تنبهت تمامًا عندما رأيته، قمت احتضنته.. نفضت التراب عن ردائه..
- أنت هنا.. أين أنت يا رجل.. قال الكلاب إنهم قتلوك فى أحراش بوليفيا، وإنهم قطعوا أصابعك.
ضحك نوّر وجهه فى ضوء المصباح الخافت.. وأشعل سيجاره الهافانى الفاخر.. ناولنى واحدًا، قال:
- وهل صدقتهم؟.. سمعت أنك مريض فجئت لأزورك فوجدتك نائمًا، فاستمعت إلى الموسيقى من هذا الترانزستور الصغير، ودخلت وحدثت ممرضتك الرقيقة..
خلع جاكتته الجلدية وقال:
- هل تلاعبنى دورًا من الشطرنج.
٦/ ٤/ ١٩٦٩