سميحة أيوب.. سيرة امرأة استثنائية

- سنجد الكثير مما يخص تاريخ المسرح والثقافة والفن عمومًا فى حياتها الغنية
رحلت السيدة العظيمة التى ظلّت تعطى وتقاتل وتخدم الفن وخشبة المسرح عقودًا تزيد على السبعين عامًا، وهذا عمر فنى لم يصل إليه كثيرون، وهى قد وثقت ذلك العمر الفنى فى مجلد ضخم صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2002 «مشروع مكتبة الأسرة»، وفى تلك السيرة، رصدت وحللت وقرأت واعترفت فيه كثيرًا، وقدمت سِفرًا غنيًا بالمعلومات والأفكار والتأملات التى جاءت مفاجأة كاملة لواحدة عاشت تفاصيل وصعود النهضة المسرحية فى عقدى الخمسينيات والستينيات، كما رأت انهيار تلك النهضة فى عقد السبعينيات، ولكنها كانت تختار، وتطيل فى تأمل الأدوار التى تقوم بها، وفى سيرتها الذاتية سنجد الكثير الذى لا يخص سيدة المسرح الكبيرة فقط، لكننا سنجد الكثير مما يخص تاريخ المسرح والثقافة والفن عمومًا فى حياتها الغنية، والسطور القادمة كانت مساهمتى فى مهرجان المسرح المصرى الذى انعقد فى عام2023، وهو البحث الوحيد الذى تناول سيرتها وحياتها، وجدير بالذكر أن الدورة التالية تم إطلاق اسم الفنانة العظيمة كتكريم لها فى العام التالى 2024.

مقدمة لابد منها عن السير الذاتية
السيرة الذاتية أو الغيرية فى الحقل الفنى أو الأدبى أو الفكرى أو السياسى وخلاف ذلك من مجالات عديدة ومتنوعة، غالبًا ما تكون مساحة ثرية وغنية بالمعلومات والوقائع والأحداث الجادة، أو حتى غير الجادة لدى الباحثين، وغالبًا ما يعتمدها هؤلاء الباحثون كمراجع مهمة فى أبحاثهم المختلفة، وأحيانًا تكون شبه مرجع رئيسى أو وحيد، رغم أن السيرة- خاصة الذاتية- ما تكون ملغومة بكثير من المبالغات أو المغالطات أو التناقضات أو التجاوزات أو الزهو أو الانتقام التى تحفل بها عند كثير من كاتبى تلك السير فى جميع المجالات، وأنا معنىّ هنا بالسيرة الذاتية، لأنها تكاد تكون الأكثر تداولًا، أو اعتمادًا رئيسيًا عليها فى قراءة تاريخ النوع الذى ينتمى له كاتب السيرة أو صاحبها، أو الأدق الأكثر مصداقية فى اعتقاد الكثيرين، خاصة لو كان كاتب السيرة شخصًا ذا أهمية قصوى وشغل كثيرًا من المواقع المختلفة، فكلما علا شأنه، أو تعاظمت أهميته، أصبح كل ما جاء فى تلك السيرة شبه مقدس، فكيف يكون طه حسين أو محمد حسنين هيكل أو عمر الشريف أو نجيب الريحانى أو عبدالحليم حافظ أو يوسف شاهين أو زكى نجيب محمود على سبيل المثال غير دقيقين؟ كما أن الصدق لا بد أن يكون قاعدة أساسية فى كل ما يكتبون، ويحيط بهم من كل الجوانب.

من هنا تنبثق المشكلة، والتى تكمن فى الباحثين أنفسهم بشكل أساسى، وليس فى المصدر «كاتب السيرة»، فكاتب السيرة يكتب ما شاء له أن يكتب، ودائمًا يكتب أو يسرد أو يتأمل أو يحلل غالبًا من منطلق دوافع عديدة تخصه، وبالتأكيد فأى سيرة لا بد أن تكون انتقائية بعناية مفرطة للغاية، فالمصدر يسرد بعقلية اختيارية، ويضع الأحداث والوقائع التى تنتصر له فى معظم ما يسرد، وإذا كان السارد أو الساردة من الفنانين، كان اختيار الوقائع يخضع لعملية فلترة دقيقة، وتزداد تلك الفلترة حذرًا وحيطة أو فضائحية أو انتقامية إذا اقتربت من عالم السياسة المتوحش، مثلما فعلت اعتماد خورشيد فى كتابها «حكايتى مع عبدالناصر»، وكذلك ما فعلته برلنتى عبدالحميد فى كتابها «المشير وأنا»، ويعرف المتابعون والأطراف التى تناولتها تلك المذكرات شراسة المعارك التى دارت حول هذين الكتابين، وسفك دماء كل الحقائق والأحداث التى تناولتها تلك المذكرات، ولم تكن تلك المعارك التى تحاول أن تنفى أو تثبت حقائق أو وقائع أو أحداثًا بريئة من الغرض، أو نشبت من أجل وجه الحقيقة لا غير، ولكنها أديرت بأسلحة حادة فى مناخات ساخنة، تصل إلى حد تكسير العظام إلى حد النفى التام، أو القتل المجازى.
إذًا فالمصدر دائمًا ما يحتمل المراجعة التصحيحية من قبل الباحثين، أو على الأقل تدقيق الوقائع المذكورة، وطريقة سردها، وعملية تأويلها، وتفسيرها، وشرحها، المؤرخ الذى يلتقط المصدر السيرى هنا، لا بد أن يكون محايدًا بقدر ما يستطيع، فالمحايد «النيرفانى أو البيور» ليس موجودًا على أرض الواقع، فهو موجود فى الأذهان فقط، والمؤرخ أو الباحث يسعى لكل الوسائل من أجل إثبات وجهة نظره، ولا أعتقد أننى سأخرج عن السياق عندما أذكر واقعة فيها الكثير من الطرافة، كما أن فيها الكثير أيضًا من الدلالات، تلك الواقعة حدثت أمامى بين اثنين من المفكرين الكبار، وهما الناقد والمترجم إبراهيم فتحى، والمؤرخ الدكتور رفعت السعيد، وكنت طرفًا فى اللقاء بين هذين العَلمين، وكان الحديث قد تطرق فى إحدى الندوات حول واقعة حدثت فى حرم الجامعة عام ١٩٥١ بعد إلغاء معاهدة ١٩٣٦، وكان كل من الطرفين يقاتل من أجل إثبات رؤيته كما حدثت أو يعتقد، واشتد الخلاف لدرجة كبيرة، وهنا لجأ إبراهيم فتحى إلى حيلة حاسمة، وسأل رفعت السعيد: «أين كنت تقف ساعة حدوث الواقعة؟»، فرد د. رفعت: «كنت أراقبها من الدور الثانى»، هنا قال له إبراهيم فى حالة انتصار: «وأنا كنت أقف بين الحشد وفى التجمع الطلابى الذى وقعت فى قلبه الواقعة»، فأيقن د. رفعت بصحة ما قاله إبراهيم، وهذا الأمر لا يحدث كثيرًا بهذه الطريقة، ولكنه يدلّ على أن الباحث أو الشاهد أو المؤرخ، يتطرق إلى أكثر الوسائل حسمًا وصلاحية من أجل إثبات صحة ما يذهب إليه، لذا، ودون استطرادات، لا بد من مراجعة أى سيرة ذاتية بدقة وحذر، ليس من باب تكذيب المصدر، أو اتهامه بالتزوير، أو اصطياد أخطاء عبر آليات الترصد العمياء، ولكن على الأقل تفاديًا لأى سهو أو عدم تقدير دقيق لواقعة ما، فأحيانًا لا يذكر المصدر واقعة ما، ويظن أنه لا أهمية لها، بينما يرى الباحث بعد سنوات من حدوث تلك الواقعة أنها تصلح كمحور لفكرة ما لم يدرك كاتب السيرة أهميتها، أو أهمية الظاهرة التى تمثلها.

مذكرات نجيب الريحانى المجهولة
وهنا يحق لى أن أتحدث عن تجربتى فى نشر المذكرات المستبعدة للفنان نجيب الريحانى، والتى أثار صدورها جدلًا حادًا، بعضها كان حميدًا، والبعض الآخر كان خبيثًا وينطوى على قدر من التربص، والسؤال الذى كان يشغلنى وقتذاك هو: لماذا تمت الإطاحة بتلك المذكرات التى نشرت عقب رحيل الفنان نجيب الريحانى مباشرة؟، وكان قد قدّم لها رفيق مسيرته الشاعر بديع خيرى، وكانت قد صدرت عام ١٩٤٩ عن سلسلة كتب «مسامرات الجيب»، وتقريبًا تمت شبه مصادرة كاملة لتلك المذكرات، وفى ٣ يونيو ١٩٥٣ بدأت مجلة الكواكب تنشر مذكرات أخرى، كانت قد نشرت فى مطبوعة قديمة تعود للعام ١٩٣٦ «مجلة الراديو»، ولم تذكر المجلة تلك المعلومة، وهذه المذكرات هى التى تم جمعها ونشرها فى كتاب عام ١٩٥٩ بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل نجيب الريحانى، وليس هذا هو المهم فى هذا السياق، لكن الأهم أن المذكرات التى صدرت عن دار الهلال لا تعبّر عن نجيب الريحانى الإنسان، ولا عن الفنان كذلك، ويزعم المنتصرون لتلك المذكرات أنها نشرت فى حياته، وتم تقديمها من طرف رفيقه بديع خيرى، وهذا أمر مردود عليه، لأن المذكرات المستبعدة، نشرت أيضًا مُنجمة فى حياته فى مجلة مسامرات الجيب، إذًا لماذا أؤكد أن تلك المذكرات الأخيرة هى التى تعبر عن شخصيتىّ نجيب الريحانى الفنية والإنسانية، دون المذكرات الأخرى والشائعة، والتى تم الاعتماد عليها كمصدر وحيد لمسيرة نجيب الريحانى الفنية والإنسانية؟.

فى المذكرات الشائعة، وردت عبارات ووقائع وأحداث كثيرة تدين نجيب الريحانى نفسه، ومن المعروف أن الريحانى كان حريصًا للغاية على وضع الحديث عن حياته الشخصية بعيدًا عن حياته الفنية، ومن غير المعقول أن يصف الريحانى نفسه بالشخص «الفلاتى»، والذى كان قد خان صاحب الشركة التى كان يعمل فيها فى نجع حمادى، بل لا يتوقف عند ذكرها، وإخراجها فى سرد حكائى شائن، بل يتطور الأمر إلى التفاخر بمثل هذه الصفات، فضلًا عن اللغة السوقية التى جاءت بها تلك المذكرات، أو على الأقل «لغة ركيكة»، وفيها قدر من الاستعراض الذى يتنافى مع شخصية نجيب الريحانى كما شهد له الجميع، فضلًا عن هذا وذاك، ذكر الريحانى مجموعة أخبار ووقائع وأحداث توضح أنه كان سابقًا على يوسف وهبى فى إشعال جذوة المسرح منذ عام ١٩١٧، ومن المعروف أن كثيرًا من المؤرخين يضعون العام ١٩٢٣ هو البداية الأهم للمسرح المصرى، حيث كان يوسف وهبى كان الرائد، بينما المذكرات المستبعدة تذكر أن يوسف وهبى كان يقلد الريحانى فى كثير من التيمات، وأشهر تلك التيمات أو الشخصيات، شخصية «كشكش بك»، والتى حاول يوسف وهبى تقليدها بشخصية «حنجل بوبو»، وعندما عرض تلك الشخصية على الخشبة، لم تنل إلا سخرية الجمهور، ولا أنسى أن المذكرات ورد فيها أن الريحانى هو أول من استقبل الشاب الصغير محمد عبدالوهاب، ومن ثم كان لا بد من استبعاد تلك المذكرات حتى تختفى تلك المعلومات تمامًا بعدما أصبح عبدالوهاب ويوسف وهبى نجمين ساطعين فى سماء الفن.
وهنا من الممكن أن يتساءل البعض: «إذًا لماذا وافق نجيب الريحانى على شكلين من مذكراته المنشورة؟»، ولا بد من توضيح أن من عادة كثير من الفنانين ألا يكتبوا مذكراتهم بأنفسهم، لكن هناك بعض المحررين هم الذين يعملون على صياغة تلك المذكرات، وكذلك فالفنان يثق فيمن يعمل على تلك الصياغة، ومن ثم جاءت المذكرات التى نشرها الريحانى قبل رحيله، ولكى يذكر بعضًا من معلومات قد فاتت عليه ذكرها فى مذكراته السابقة، وجدير بالذكر أن الدكتور سيد على يذكرنا بأن الريحانى له أكثر من مذكرات، ومن هنا يجب على الباحث إجراء دراسة مضمون وأسلوب لكل المذكرات لاستخلاص المذكرات الأقرب إلى شخصية نجيب الريحانى الفنية والإنسانية، وأعتقد أننى حاولت ذلك بقدر ما أستطيع، كما أننى استعنت بمواد نقدية كثيرة وألحقتها بالكتاب لكتاب ومبدعين وفنانين لمحاولة فهم شخصية نجيب الريحانى المتنوعة، ومن هؤلاء: صلاح عبدالصبور، يحيى حقى، ألفريد فرج، سعد أردش، نعمان عاشور، وغير هؤلاء أوضحوا وأفصحوا عن مضمون شخصية نجيب الريحانى.

عصر النهوض النوعى فى المسرح
من نافلة القول وقديمه، أن نقول: إن عقد الخمسينيات من القرن العشرين، كان عقدًا شهدت فيه عدة فنون قولية ومرئية، صعودًا نوعيًا لم تشهده مصر من قبل، رغم كل المعوقات الديمقراطية التى كانت تقف فى وجه الإبداع والمبدعين، هذا الصعود الذى شهد اهتمامًا مؤسسيًا وفرديًا لم يسبق قبل ذلك، وهذا الأمر كان مدهشًا، إذ كانت السلطة الجديدة بعد ثوة ٢٣ يوليو، حريصة على إدارة ملف الثقافة والفنون بعناية فائقة، فجندت له رجالًا على درجة المسئولية فى إدارة ذلك الملف، فمن فتحى رضوان، إلى الدكتور ثروت محمود عكاشة، اللذين توليا حقيبة الثقافة والإرشاد القومى، ومن خلالهما تم اختيار مفكرين ومثقفين أداروا الحياة الثقافية والفنية بشكل سمح كثيرًا لتطور الآداب والفنون، وكان هؤلاء المفكرون والمبدعون من أمثال دكتور طه حسين، ويحيى حقى، وحسين فوزى، ودكتور على الراعى، ونجيب محفوظ، ودكتور محمد عوض محمد، وغيرهم من المثقفين والمبدعين المرموقين، الذين أنشأوا عدة مؤسسات أسهمت فى توفير كل متطلبات تطور وصعود ونهوض تلك الفنون والآداب، فنشأ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب الذى تولاه يوسف السباعى، وإنشاء مصلحة الفنون التى أدارها المبدع الكبير يحيى حقى، والذى اختار بعينه الثاقبة عددًا من المبدعين والمثقفين الذين استطاعوا بحسم التغلب على كثير من المعوقات البيروقراطية- الطبيعية بحكم طبيعة السلطة، ومن خلال مصلحة الفنون، تم إنشاء وتمتين دوائر أخرى مثل الفنون الشعبية، واختيار رجل ذى ثقافة وخبرة ومرونة هائلة، وهو زكريا الحجاوى، الذى عمل الكثير فى مجال الفنون الشعبية، ويكفيه فى ذلك الوقت، أوبريت «ياليل ياعين»، كذلك اختيار أحمد حمروش، الرجل الذى كان يربط بين وظيفة رجل الدولة، والمثقف، فأدار الفرقة القومية للمسرح باقتدار، ومحاولة كسر عصا البيروقرطية فى ظروف عصيبة، إذ فاجأته بوادر العدوان الثلاثى فى ٢٩ أكتوبر عام ١٩٥٦، ولم يكن قد مرّ على تنصيبه بضعة أيام، فأسرع بتكليف مخرجين لإعداد نصوص مسرحية تناسب الحدث، وفتح المسرح مجانا، وتغلّب على قضية حظر التجول، فجعل دخول المسرح من الساعة الثانية ظهرًا، حتى الخامسة عصرًا، وجعل المسرح إحدى الأدوات المهمة فى مواجهة الحدث الكبير، وتم تجييش كل العناصر الإيجابية فى مجال الفنون عمومًا، وفى المسرح بالذات لتقديم ما يليق باللحظة، فى تلك اللحظة كانت الفنانة الشابة سميحة أيوب تشهد تطورًا ملحوظًا لفنانة مسرح عظيمة وذات حضور كبير بين كل فنانى المسرح الذين صعدوا على خشبته فى تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر، وتصعد بقوة وموهبة فارقة بعد ما يقرب من عشر سنوات دخولها مجال التمثيل المسرحى والسينمائى رغم كل المعوقات الاجتماعية التى واجهتها فى بداية خطواتها نحو ذلك الصرح الفنى العظيم: فن المسرح.

كيف روت سميحة أيوب ذكرياتها؟
قبل أن ندخل إلى عالم الذكريات الذى فتحته أمامنا الفنانة سميحة أيوب، آثرت أن تكتب كلمة قصيرة لتقدم بها المذكرات، إذ كتبت: «عندما جلست لأكتب مذكراتى للمرة الأولى، ترددت كثيرًا قبل أن أمسك بالقلم لأخط مشاهد مسيرة حياتى الفنية، ماذا أكتب، ولماذا، وكيف؟، وبعد أن أمسكت بالقلم بدأت الذكريات تتداعى فى خاطرى لتتحول أمامى على الورق إلى لحظات من لحم ودم ومشاهد مسرحية وسينمائية، وأحيانًا مسامع إذاعية، لم تكن مسيرة حياتى تلك، مجرد لحظات عابرة فى حياة فنانة، وهبت حياتها لفنها ووطنها ولأمتها»، هذه بعض عبارات وردت فى مستهل الذكريات التى كتبتها للمرة الأولى بدعوة من الكاتبة سناء البيسى لكى تنشرها فى مجلة «نصف الدنيا» التى تصدر عن مؤسسة الأهرام، وكانت الأخيرة تديرها ترأس تحريرها، وبالفعل نشرت سميحة مذكراتها فى المجلة، وبعد ذلك تم جمعها ونشرها فى عدة طبعات، حتى أن نشرت فى الهيئة العامة للكتاب، وتنهى المقدمة بتلخيص واف للهدف الذى أرادت أن تشرحه الفنانة الكبيرة، حيث قالت: «هى رحلة كفاح ومعاناة ومتعة، تلك المتعة التى لا يشعر بها إلا فنان آمن بفنه وبإبداعه، وبقدرة هذا الفن، وذلك الإبداع على أن يرسم مسيرة وطن يطمح إلى مستقبل أفضل».

وقبل أن ندخل إلى عالم مذكرات سميحة أيوب، نقرأ مقدمتين، الأولى للكاتبة الصحفية سناء البيسى، والثانية للناقد الراحل الكبير رجاء النقاش، والمقدمتان تتمتعان بقدر جاد وكبير جدًا من الإنشاء الجميل دون الوقوف عند قسمات وملامح وسمات المذكرات، أو الذكريات، مقدمتان فيهما نوع من الدعاية الواضحة، وإن كنت تمنيت من الكاتبين الكبيرين غير ذلك، لأن سميحة أيوب لم تكن مذكراتها فى حاجة إلى ذلك، ونقرأ فى الاستهلال الذى جاء فى مقدمة البيسى الذى يقول: «صاحبة الصوت المميز الذى يستدعينى من أى هناك، من أفكارى، من مشوارى، من شرودى، من انشغالى، من غيبوبتى، من السقوط إلى بدروم النفس، يستدعينى على الفور فأهرول إلى حضرته لأضرب تعظيم سلام وأنا واقفة فى وضع التمام على عتبته»، وهكذا تسترسل الكاتبة الكبيرة سناء البيسى فى تعظيم المذكرات دون التوقف عند أى المحطات التى تواجهنا فى الكتاب، ربما يقول البعض بأن هذا هو المطلوب فى مثل تلك المقدمات، لكننى أعتقد أن الروح الدعائية والإنشائية التى تصاحب أى كتابة دون تأملها، وتحفيز القارئ لنقاط تثيرها الكتابة، تدخل فى باب التسويق السلعى، وربما يكون هذا جائزًا للعزيزة سناء البيسى، لكننى وجدته كذلك فى مقدمة أستاذى الكبير الناقد رجاء النقاش، وكنت أنتظر منه، وهو الناقد الأهم فى مصر، أن يشاغب المذكرات كما تعودنا منه، وفى حقيقة الأمر فإن ذكريات سميحة أيوب، ولا هى شخصيًا تحتاج إلى مثل هذه الأمور، فهى من هى، وأرست لنفسها سلسلة من النجاحات الكبيرة على أكثر من سبعين عامًا، ولم يبق سوى تأمل تلك الرحلة، والتفاعل معها بالشكل الذى يليق بها، ومما كان يدهشنى رغم أنها سميحة أيوب العظيمة، أننى كنت أفاجأ على مدى العقدين المنصرمين حتى الأعوام القليلة الفائتة، بمن يجرى تغطية لحديث تليفزيونى للفنانة، أو تغطية لندوة أو لقاء هنا وهناك، ويقول، على سبيل المثال: «الفنانة سميحة أيوب تكشف لأول مرة أسباب انفصالها عن الفنان محمود مرسى»، وهكذا نجد مواد كثيرة من هذا النوع تتواتر فى الصحف والمواقع، وكأنها نوع من السبق الصحفى، والمفاجأة أن كل ذلك سردته سميحة أيوب فى كتابها «الذكريات» الذى نشر فى مشروع مكتبة الأسرة عام ٢٠٠٢، ذلك المشروع الذى ترعاه الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتطرحه فى الأسواق بأقل الأسعار، ليصبح أوسع مشاريع النشر انتشارًا، وهذا يدلّ للأسف على ظاهرة أن لا أحد يقرأ، ولا أحد يتابع، حتى لو كان المؤلف فى عظمة وأهمية وقيمة وسيرة سميحة أيوب.

دهشة البدايات
ربطت الفنانة سميحة أيوب بين تطورها الفنى وتمثيلاته المتعددة فى المسرح والسينما والإذاعة، وبين زيجاتها الثلاث المذكورة والمعلنة والمعروفة، وهذا ما لاحظناه فى بداية المذكرات، فبعد أن سردت دهشة البدايات، عندما سمعت من الراديو أن معهد الفنون المسرحية يطلب آنسات للانضمام إلى المعهد، وسوف تأخذ كل فتاة من الفتيات عندما تنجح، مكافأة قدرها ستة جنيهات، توقفت سميحة عن عملية المذاكرة التى كانت تحدث على مائدة الطعام، ولفت انتباهها ذلك الخبر أو الإعلان الذى انطلق كمفاجأة لها من الراديو، ولم تتوقف المفاجأة عند ذلك الحد، بل تطورت عندما رأت زميلتها- فى المدرسة- تماضر، وقالت لها:
- إيه رأيك تيجى معايا؟
- فين؟
- رايحة أمتحن فى معهد التمثيل، ويارب أنجح، وهتاخد البنت اللى هتنجح فى الامتحان ستة جنيه، ما تيجى معايا يا سميحة أهو نتسلى وتتفرجى».
ودون الاسترسال فى سرد وقائع كثيرة وأحداث كلها مذكورة فى الكتاب، فهذه هى البداية التى أشعلت شرارة الفن عند سميحة أيوب عندما التحقت بمعهد التمثيل، والتقت هناك مجموعة من الدارسين الذين أصبحوا نجومًا كبارًا فيما بعد، مثل عمر الحريرى ونعيمة وصفى وحمدى غيث وعائشة حمدى، التى أصبحت زوجة حمدى غيث فيما بعد، ولا تنسى سميحة أن تخبرنا بأن حمدى غيث قد أبعد زوجته عن التمثيل بعدما أنهت الدراسة فى المعهد، وأثناء ذلك فى منتصف السنة الدراسية الأولى لها، جاء زكى طليمات الفنان الكبير وقال لطلّابه:
- سوف نعرض على دار الأوبرا مسرحية «البخيل» لموليير بعد شهر ونصف، وسوف تكون حصص التمثيل من خلال مسرحية البخيل.

هذه كانت الخطوة الثانية التى أدخلت سميحة أيوب المجال العملى فى التمثيل، وكان معها فى المسرحية: سعيد أبوبكر، عدلى كاسب، على الزرقانى، نعيمة وصفى، فاتن حمامة، وبعد عرض المسرحية أشاد كثيرون بها، وكتب زكى مبارك مقالًا أشاد فيه بالمسرحية، وبالممثلة الشابة، وقال لأستاذها زكى طليمات: «هذه الشابة عندها حضور مسرحى طاغ»، وذلك أثلج صدرها، وأعطاها كثيرًا من الثقة والقلق فى وقت واحد، بعد ذلك بحث عنها الإذاعى محمد محمود شعبان- الشهير ببابا شارو- لكى يلحقها لديه بالتمثيل فى الأوبريت الإذاعى «عذراء الربيع»، الذى ظهرت فيه باسم سميحة سامى، لأن والدتها اعترضت على أن تضع اسم العائلة «أيوب» فى القيل والقال، كما أنها ظهرت به فى أول فيلم لها، وهو «المتشردة» عام ١٩٤٧، وبعد فيلم المتشردة، عرض عليها التمثيل فى فيلم يخرجه فنان تونسى، وكان معها الفنان شكرى سرحان، الذى قال لها إنه يريد أن يخطبها، وبالفعل ذهب لكى يخطبها من والدها، لكن لم تتم الموافقة عليه، وذلك لصغر عمرها آنذاك، الذى كان ستة عشر عامًا، وليس خمسة عشر كما هو شائع، حيث إن ميلادها كان فى ٨ مارس ١٩٣١، وليس ١٩٣٢، ولكن شكرى سرحان لم ييأس، وأوصى عليها زميله الفنان محسن سرحان، الذى خطبها بدوره، وحدث معه ما حدث لشكرى سرحان، ولكن سميحة لم تستسلم فى تلك المرة مثلما حدث مع شكرى سرحان، وتركت منزل أهلها، وقررت حسم الزواج من محسن سرحان، ولكن أول قرار كان قد اتخذه محسن سرحان هو إيقافها عن مواصلة الدراسة، وتقليص نشاطها الفنى، وهذا ما عطلها كثيرًا فى تلك الفترة، وعندما حدث الطلاق عادت مرة أخرى إلى المعهد، وبالتالى إلى التمثيل، ولكن كان أقرانها الذين بدأت معهم حققوا أشكالًا من التقدم، وتجاوزوها، وكان عليها أن تبذل قصارى جهدها، وسوف نجد أن بعضًا من السخط لديها قد صرّحت به وعبّرت عنه فى المذكرات، وذكرت أن الغيرة كانت مسيطرة عليه بشكل كبير، للدرجة التى كان يغلق عليها الباب فى البيت وهو خارجه، هذا ما كتبته باستفاضة فى المذكرات، ولكننى عثرت على مقال لها، كانت قد كتبته فى مجلة روزاليوسف عام ١٩٥٤، وكان عنوانه: «كيف أنقذنى محسن سرحان؟»، واستهلت سميحة مقالها بقولها: «كانت هوايتى فى الصغر أن أشاهد الأفلام السينمائية، ثم أعود إلى البيت لأنصب فى الفناء مسرحًا صغيرًا أزينه ببعض الورود القديمة وأعيد تمثيل ما رأيته على الشاشة، وكانت هذه الهواية تعجب أهل البيت الذى أعيش فيه لأنها تسليهم..»، واستطردت سميحة فى مقالها لكى تخبرنا بأن الأهل كانوا يشجعونها على تطوير مسرحها الصغير، حتى أن كبرت، وكبرت معها موهبتها، ثم التحقت بمدرسة سان جوزيف فى عام ١٩٤٢- لا بد أن أذكر هنا، بأن عنصر ذكر التاريخ فى الذكريات شبه مهمل تمامًا- وكونت مع صديقاتها فريقًا من التمثيل لم تعترف به المدرسة، ولكنها اعترفت به بعد ذلك، وهذه كانت الخطوة الثانية، أما الخطوة الثالثة، فهى الالتحاق بمعهد التمثيل، ولكنها لم تصرّح لأهلها بتلك الخطوة حتى تسرّب الخبر إليهم بشكل ما، وهذا ما شكّل لها أزمة كبيرة، حتى أن تصل إلى قولها: «وفى وسط هذه العواصف أرسل الله لى من ينقذنى من حرجى فى شخص الزميل محسن سرحان الذى رآنى فى أحد تلك الأيام فأحبنى، وأحببته، وتزوجنا»، وأنجبا طفلهما الذى سمياه «محمود فهمى النقراشى»- تيمنًا برئيس وزراء مصر الذى تم اغتياله عام ١٩٤٨- وعاشت سميحة مع محسن عامًا ونصف العام، بعدها تم الطلاق، ولكنها كانت تشعر بالحسرة على ما فاتها، حيث تقول فى مقالها: «ولكن أنباء فرقة المسرح الحديث كانت تصلنى بين الحين والآخر، فتملأ قلبى بالحسد على أولئك الزميلات اللاتى كنت أعتبر أننى واحدة منهن»، ولذا راحت سميحة تطلب الطلاق بعدما تحولت حياتها إلى جحيم، ولم يكن زوجها مصدقًا لما تقول بعدما كانت تعتبره منقذها الأول من حياتها الرتيبة، ولكنها أصرّت على الطلاق بحسم حتى حدث، وتختم سميحة مقالها بقولها: «إننى اليوم أعيش لفنى، ولزوجى الجديد!، وتمر هذه الأحداث بذاكرتى، فأعجب كيف يتكون الفنان فى حياته».
فى هذه المرحلة باحت سميحة أيوب بأن زوجًا ما فى حياتها، ولكنها لم تعلن عن اسمه، ولم أستطع أن أستدل عليه من خلال متابعتى صحف تلك الأيام، لأن الصحف والمجلات حسب حدسى، كانت تعمل حسابًا كبيرًا لمحسن سرحان الذى تزوج فورًا بعد انفصاله عن سميحة، وكان يظهر بزوجته الجديدة فى كل المنتديات، وبالتالى لم يكن اسم زوجها الذى وصفته بالجديد متداولًا أو معروفًا، وهو قبل زواجها بالفنان محمود مرسى الذى تزوجته عام ١٩٥٥، وهو التاريخ الوحيد الذى ذكرته فى مذكراتها، وعلى عكس محسن سرحان كان محمود مرسى الذى أعطاها حريتها بشكل كامل لدرجة الإفراط، وربما لم يصلح ذلك الإفراط للزواج، ولكنه كان سببًا جديدًا فى الانفصال بعد أن ارتبطت سميحة بالمسرح والإذاعة، خاصة بعد مسلسلها الناجح «سمارة» الذى قامت ببطولته عام ١٩٥٥، وأحدث دويًا كبيرًا، وكانت شوارع القاهرة تخلو تمامًا أثناء إذاعة المسلسل، وكان وجود الفنان محمود مرسى فى حياتها كمثقف وفنان وزوج، دافعًا مهمًا للغاية لكى تبدع أكثر وتصل إلى درجات عليا فى التمثيل المسرحى والإذاعى.

لا أريد أن أنغمس فى التأريخ الشخصى لحياة سميحة أيوب، ولكن ارتباط الخاص عندها بالعام كان واضحًا تمامًا، حتى المعارك التى كانت تجد نفسها فيها، كان زوجها محمود مرسى يدفعها لها ويرشدها بنبل كبير، ويؤازرها، خاصة عندما دسّ البعض، بعضًا من الافتراءات على الفنان زكى طليمات، وتم إبلاغ لجنة التطهير بإقصاء ذلك الرجل عن منصبه، وإبعاده عن أدواره التى كان يقوم بها، وللأسف كان قائد تلك الحملة ضد طليمات، كان عبدالغنى قمر الذى تزعم حملة التوقيعات على المذكرة التى سترسل لمجلس قيادة الثورة، وكانت هى قائدة الحملة التى وقفت ضد هذا الفعل الردىء كما وصفته.
ولم يكن انفصالها عن زوجها محمود مرسى مزعجًا، بل كان هادئًا للغاية كما وصفته، رغم أن ذلك الانفصال كان محزنًا بالنسبة لها، لكنه لم يرد أن يشكل أى عقبة لها فى حياتها، وعندما كانت تطلب منه أن توافق على القيام بأكثر من دور فى أكثر من مسرحية، كان يقول لها: هذا مستقبلك، وأنت حرة فيه، ولكنه مع تقادم الأيام والزمن، لم يستطع كزوج أن يحتمل ذلك الأمر، فانسحب فى هدوء بعدما عاشت معه أيامًا جميلة، وظلّت تكن له احترامًا طوال حياتها، وكانا قد أنجبا ابنهما علاء، وانفصلت عنه وهى متأثرة، وحائرة بين حبين، حب زوجها محمود مرسى، وحب عملها للمسرح، ولكنها انتصرت للمسرح، وآثر هو ألا يكون مزعجًا لها فى ذلك، وكانت تعرف أنها فى مرحلة تكوين وتطور، فامتزجت حياتها بالمسرح، وقامت بأدوار كبيرة فى تلك الفترة، على رأسها القيام ببطولة مسرحية «المومس الفاضلة» للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى نوفمبر عام ١٩٥٨، التى ترجمها مازن الحسينى، وأخرجها الفنان حمدى غيث، وقامت هى بدور ليزى، والذى أطلق عليها «المومس الفاضلة»، التى شاركها البطولة عمر الحريرى وحسن البارودى وتوفيق الدقن وحسين رياض، وكانت سميحة أيوب قد بلغت أوجًا تمثيليًا فى المسرح عظيمًا، وبالطبع كان عنوان المسرحية صادمًا لكثير من النقاد، حتى إنها عندما طرحت عليها البطولة، توجست، وكادت ترفض، لولا أنها أجرت مناقشة مع حمدى غيث، وشرح لها بأن «ليزى» بطلة المسرحية، كانت تخفى أحد الزنوج فى مواجهة العنصريين، وتكبدت أشكالًا من المشقة والتعنت لكى تحميه دون أن تنتظر أى مكافأة، ولكنها كانت تقوم بذلك الدور بدافع النبل فقط لا غير، ودفاعًا عن العدالة المهدورة، وعندما تفهت الدور، أحبته بقوة شديدة، ولذلك قامت به وأدته ببراعة غير مسبوقة، وقد كتب عنها الناقد الفنى كامل يوسف فى ٢٤ نوفمبر بجريدة المساء قائلًا: «وقد أمتعتنا (سميحة أيوب) بدراسة مستفيضة لمعالم الغانية من حيث اللفظ والحركة»، كما أن أنيس منصور كتب مقالًا فى ٢٥ نوفمبر بجريدة الأخبار وأشاد بها وبالمسرحية وبالعرض المصرى إشادة كبيرة، وكتب عبدالفتاح الفيشاوى مقالًا فى ١ ديسمبر ١٩٥٨ مقالًا بجريدة «القاهرة»، بدأه بالإشادة بسميحة أيوب قائلًا: «سميحة أيوب فى شخصية (المومس الفاضلة)، وصلت إلى أقصى طاقتها الفنية، وسيظل هذا الدور من مفاخرها، فقد أدته فى جرأة شديدة، وليونة على الرغم من الانفعالات العنيفة التى تؤلف هذه الشخصية، فإنها ترفض أن يلمسها الزنجى، وتثور فى وجهه مخفية السبب الذى من أجله هرب من غرفتها، ثم تنتقل إلى التفكير السريع فى حمايته، وكل انفعال من هذه الانفعالات المتتابعة له عند سميحة وقع خاص، دون أن يختلط كل انفعال بآخر»، ولم يقتصر الأمر فى الكتابة عند نقاد الفن فقط، لكنه استدعى واحدًا من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو خالد محيى الدين الذى كتب مقالًا فى جريدة المساء التى كان يرأس تحريرها، ويكتب مقالًا ثابتًا ويوميًا، قال: «أما من ناحية المومس، فقد أظهرت المسرحية أن بها بقية من ضمير حاولت أن تستخدمه، ولكنها استسلمت فى النهاية لظروف مجتمعها، ولكن فى ألم وبكاء».

ورغم أن المسرحية نالت قدرًا من تجاوب مرتادى المسرح القومى عندما تم عرضها فى مصر، إلا أن المتابعات الصحفية كانت متنوعة بين السلبى والإيجابى، بينما آثرت مجلة الغد اليسارية التى صدر عددها الفصلى فى ديسمبر ١٩٥٨ ألا تقترب من الموضوع بأى كلمة، بينما نشرت مجلة روزاليوسف فى ٣ نوفمبر ١٩٥٨ على صفحة كاملة دون توقيع تحت عنوان «انقلاب فى المسرح المصرى»، ذكرت فيه كل مسرحيات الموسم، ما عدا مسرحية «المومس الفاضلة»، كما أن محمود السعدنى كتب فى ١٥ ديسمبر بذات المجلة مقالًا عن كل المسرحيات المعروضة، ولكنه لم يأت أيضًا على ذكر المسرحية، بينما نشرت المجلة خبرًا غريبًا ومثيرًا عن سميحة أيوب يقول الخبر: «بعد أن تم طلاق الممثلة سميحة أيوب من زوجها الرسام الإيطالى الأصل، قرر الزوج مغادرة القاهرة إلى الأبد ليعيش فى إيطاليا، فأقامت له سميحة أيوب حفلة وداع، وفى نهاية الحفلة قبّلت سميحة زوجها السابق قبلة الوداع وتمنت له حظًا سعيدًا».
هذا الحراك الذى حدث آنذاك، يدل على أن المسرحية أحدثت دويًا لم يحدث من قبل، خاصة أن المرحلة كانت ثورية بدرجة كبيرة، وكانت الجزائر تشهد تعاطفًا شديدًا من الحكومة المصرية، وكان جان بول سارتر أحد الذين كانوا منتصرين للقضية الجزائرية، ويبدو أن تفوق ونجومية سميحة أيوب المنقطعة النظير، قد أوغرت صدور البعض فى ذلك الوقت، وبهذه المناسبة، أن تلك المسرحية تم عرضها فى مطلع عام ١٩٦٧ عند زيارة جان بول سارتر القاهرة، وشهدتها حشود من المثقفين والكتاب والساسة وجان بول سارتر نفسه، وفى ذلك الأمر تكتب سميحة أيوب قائلة: «وانتهى العرض، وإذا بسارتر وسيمون دى بوفوار يصعدان خشبة المسرح وسارتر يقبلنى ويقول لى:
- أخيرًا وجدت ألكترا فى القاهرة.
وكان سارتر فرحًا وسعيدًا».
لا تكتفى الفنانة الكبيرة سميحة أيوب بسرد تاريخها الشخصى، وهو لم يكن تاريخًا شخصيًا بشكل محض، بقدر ما كان مرتبطًا بالمناخ العام، والأحداث العامة، وبعد ارتباطها زوجيا بالكاتب المسرحى سعد الدين وهبة، ارتفعت وتيرة الارتباط بين الأحداث العامة والخاصة بشكل لا يقبل الانفصال، خاصة أن سميحة كانت تقوم ببطولة بعض أدوار مسرحياته، بالإضافة إلى أن سعد الدين وهبة كان مسئولًا كبيرًا فى وزارة الثقافة فى مراحل كثيرة من حياته، وكان هذا ينعكس أحيانًا عليها بالسلب، وعلى سبيل المثال أنه عندما تولى إدارة السينما، وجد أن خمسة مخرجين اختاروا سميحة لكى تلعب دور البطولة فى الأفلام الخمسة، فما كان منه إلا أن يشطب ويحذف اسمها من الأفلام الخمسة حتى لا يقال إنه كان يستغل منصبه فى الاستفادات الشخصية.
لا تريد الرغبة أن تكف عن التدفق فى قراءة تلك الذكريات، أو السيرة الذاتية، التى لا تكتمل فائدتها وجدواها، إلا بالتدقيق التاريخى من خلال الوثائق والأصول التى لا تنتهى، وهذا يعنى أن تلك الذكريات تمثل ركنًا أصيلًا فى بناء الذاكرة، وبناء مدونة تاريخية عظيمة، لأن صانعى ذلك التاريخ عظماء وجادين، واستطاعوا أن يؤدوا أدوارهم بأكثر مما ينبغى، وعلى رأس هؤلاء الفنانة الكبيرة سميحة أيوب.