الأربعاء 30 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

ومقام السيدة.. «أم العواجز» فى الجامعة الأمريكية.. جدل علمى مُتجدد حول مكان الوفاة والدفن

حرف

قبل أيام، نظمت الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مقرها التاريخى بميدان التحرير، مؤتمرًا علميًا بعنوان «السيدة زينب: دراسة عمرانية وتاريخية» وذلك بالشراكة مع مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة.. وقد فوجئت وعدد من الحاضرين أثناء نقاشات المؤتمر أن الطرح المعتمد ينفى وجود الجسد الشريف للسيدة زينب رضى الله عنها، فى القاهرة، ويقوم على سردية واحدة فقط، دون عرض للسرديات والروايات التاريخية الأخرى التى تناولت هذا الموضوع من زوايا مختلفة، وكثير منها متواتر ويحظى بأدلة علمية وتاريخية وروحية راسخة تثبت وجود الجسد الشريف لحفيدة النبى صلى الله عليه وسلم فى قلب القاهرة.

هذا الجدل العلمى حول مكان وفاة ودفن السيدة زينب، رضى الله عنها، ليس نقاشًا أكاديميًا بحتًا، بل هو قضية حاضرة فى عقل ووجدان المصريين، وفى نسيجهم الاجتماعى والدينى والثقافى، منذ قرون مضت.. وقد شهد التاريخ الإسلامى تنوعًا فى السرديات المتعلقة بمقامها الشريف، ويمكن تلخيص أبرزها فى ثلاث روايات:

١. الرواية الحجازية: تفيد بأن السيدة زينب توفيت ودفنت فى المدينة المنورة.

٢. الرواية الشامية: تشير إلى أن السيدة زينب انتقلت إلى دمشق، حيث يوجد مقام شهير يُنسب إليها.

٣. الرواية المصرية: تقول إن السيدة زينب جاءت إلى مصر بعد معركة كربلاء، واستقرت بها حتى وفاتها، ودفنت فى المكان الذى يُعرف اليوم بمسجدها وضريحها المبارك فى حى السيدة زينب بالقاهرة.

بعض منظمى المؤتمر تبنّوا الرواية الأولى أو الثانية، استنادًا إلى غياب ذكر المقريزى لوجود ضريح للسيدة زينب فى القاهرة، وكذلك عدم ورود إشارة إلى مقامها فى سجلات الحملة الفرنسية. ويُستدل فى هذا السياق بأن حى السيدة زينب لم يكن يحمل هذا الاسم فى العصور الوسطى، وأن المسجد المعروف حاليًا لم يُشيّد إلا فى القرن التاسع عشر، بعد نحو ألف عام من وفاتها.

لكن الرواية المصرية، التى أتبناها كباحث وكثير من الباحثين المصريين وغير المصريين، مدعومة بعدة مصادر تاريخية وروحية، منها:

ما نص عليه الفقيه الأديب الرحالة أبوعبدالله محمد الكهينى الفاسى الأندلسى فى رحلته التى كتبها فى القرن الرابع الهجرى.

ما أورده النسابة الحسن بن يحيى العبيدلى «المولود سنة ٢١٤هـ والمتوفى سنة ٢٧٧هـ» فى كتابه «أخبار الزينبيات».

ما ذكره السخاوى فى أوقاف مصر، حيث أشار إلى أن الحاكم بأمر الله أوقف لضريح السيدة زينب أوقافًا فى أطفيح وصُول وعدة قرى مصرية.

قبر «محمد العتريس» العابد المحب للسيدة زينب والخادم لضريحها المبارك، المتوفى فى القرن السابع الهجرى، والذى أوصى، قبل وفاته بأن يُدفن بجوار قبرها الشريف، ما يدل على قِدم الاعتقاد بوجود الجسد الطاهر لحفيدة النبى فى هذا الموضع.

حين فُتح باب النقاش فى المؤتمر حول السيدة زينب، طرحت مداخلة علمية موثقة تُبرز هذا التعدد فى السرديات المتعلقة بوجود جسدها الطاهر فى مصر، مؤكدًا أن الأمانة العلمية تقتضى عرض تلك السرديات المختلفة، لا فرض واحدة وطمس الأخريات. لكن المفاجأة كانت فى رد فعل إحدى المنظمات، التى حولت النقاش إلى خلاف شخصى، وطلبت منى لاحقًا ألّا أطرح أسئلة أخرى بزعم أن مشاركتى «تقلل من شأنهم» و«تُسفه مجهودهم».

يقينًا.. أنا لا أكتب هذا المقال بدافع الخصومة، بل بدافع الإخلاص لما أؤمن به كباحث فى تاريخ العمارة الإسلامية.. وحرصت على المشاركة فى المؤتمر للاستزادة والتعلم لا لأجادل، لكن ما جرى أثار قلقى على مستقبل البحث الأكاديمى، لاسيما فى الصروح الجامعية العريقة، إذا ما تم استبعاد الرأى المختلف أو كتمه.

وحتى لا يغيب الإنصاف، فقد التقيت بأستاذة فاضلة من منظمى المؤتمر من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أبدت احترامًا وتقديرًا لحديثى حول ضرورة إنصاف الروايات التاريخية المتعددة بشأن دفن الجسد الشريف للسيدة زينب فى مصر، وطلبت التواصل معى مستقبلًا للنقاش العلمى الجاد فى الموضوع، وهو ما يؤكد أن هناك دومًا أصواتًا عاقلة تؤمن بالحوار.

ختامًا.. أرجو أن نأخذ العبرة مما جرى، وتتسع صدورنا وعقولنا لإعادة الاعتبار لقيمة التعدد فى قراءة التاريخ، خاصة حين يكون موضوع البحث شخصية محورية كالسيدة زينب رضى الله عنها، والتى ارتبطت روحها وحضورها بوجدان المصريين على مر السنين.

ولعل المؤتمرات القادمة التى ستتطرق لمثل هذه الموضوعات تكون أكثر انفتاحًا، وأكثر وفاءً للمعنى الحقيقى للعلم.

*معمارى وباحث فى تاريخ العمارة الإسلامية