الثلاثاء 02 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

كبار يكتبون عن كبار..

موسى صبرى يكتب: الباقورى.. أراد أن يكون صرافًا

حرف

تسلل رجل مديد القامة، وسيم الطلعة، إلى مسجد سيدنا الحسين وخلع نعليه ومرق إلى داخل المسجد فى زحمة عشرات المصلين الذين سرى بينهم همس خاطف يشير.. وزير الأوقاف.. وزير الأوقاف.. والمسجد الحسين، هو النادى الثانى لوزير الأوقاف بعد منزله! وقد حدث أن انتهت جلسة مجلس الوزراء، عند الثالثة بعد منتصف الليل، ولم يجد أحمد حسن الباقورى وسيلة يعود بها إلى منزله فى حلوان، فقصد إلى منزل عديله الأستاذ عوض رجب القاضى بالمحاكم الوطنية، ويقع فى حى الحلمية، وأخذ الوزير المرهق يطرق الباب. ويطرق الباب حتى استيقظ الجيران ولم يستيقظ العديل الغارق فى الأحلام، فاضطر الباقورى أن ينزل إلى الطريق.. وسار على قدميه حتى المسجد الحسينى، حيث أدى صلاة الفجر وكان فى مكتبه بالوزارة فى السادسة من الصباح!

والواقع أن للوزير الشاب حنينًا روحيًا غريبًا إلى هذا المسجد، ولهذا قصة ترجع إلى الوراء قليلًا.. فى عام ١٩٢٩، كان الفتى أحمد حسن الباقورى طالبًا بالأزهر، يسكن فى حجرة متواضعة مع زميله فى العلم الذى لم يفارقه يوسف عمر، حجرة متواضعة حقًا كانت تستعمل للنوم والطعام والاستقبال والاستذكار.. وكل شىء.. وحل شهر رمضان ومضى اليوم الأول.. ولم يصل البريد إلى الباقورى، وكان الخطاب الذى ينتظره يحمل شيئًا مهمًا.. مهمًا جدًا لا بد أن يجىء. كان يجب أن يصل الخطاب وفيه جنيه.. جنيه واحد.. مائة قرش يبعث بها والده لابنه الفتى ليقضى بها حاجات سكناه وطعامه وملبسه وكل شىء يعينه على الحياة..! وأطلق مدفع الإفطار ولم يصل الخطاب الخطير. وبحث الباقورى عن بقايا طعام فى حجرته فوجد آثارًا لحفنة صغيرة من العدس أضاف عليها بعض الماء وطهاها وأفطر.. وجاء اليوم التالى، ولم يظهر ساعى البريد.. ولم يجد الباقورى بقية لآثار من العدس، ولكن فى الماء الزلال ما يروى إفطاره، فتجرع كوبين من الماء،. وحمد الله على نعمائه وأسلم نفسه للرقاد.. وفوجئ بدقات قوية على باب الحجرة بعد منتصف الليل، وسمع صوت الحاجة أم عطيات صاحبة المنزل تقول: قوم يا سيدنا الشيخ للسحور. فقام الشيخ الصغير، وتظاهر بأنه يوقد وابور «الجاز» ليطهى طعام السحور، ولما أحس بأن الحاجة قد أوت إلى حجرتها أسلم نفسه للنوم. وفى اليوم الثالث فكر الباقورى أن يقصد إلى البقال قبيل موعد الإفطار ليشترى منه رغيفًا من العيش وقطعة من الجبن إلى ميسرة، ولكن البقال أجابه بأن الشكك ممنوع والزعل مرفوع والرزق على الله.. فابتسم الفتى الشيخ وتذكر صديقًا له هو ابن مأذون القرية، وكان المأذون صديقًا حميمًا لوالده أيضًا.. ذهب إليه فى حجرة قريبة فوجده جالسًا القرفصاء يقلى البطاطس بالزيت ويعصر الليمون على طبق الفول، ويعد مائدة الإفطار.. وقال الفتى لنفسه إذا دعانى صديقى إلى الإفطار فلا بأس، فقد سبق أن دعوته مرارًا.. ولكنه لم يهضم هذه الفكرة وطلب من صديقه أن يقرضه بعض القروش حتى يصل البريد غدًا أو بعد غد.. فأجاب الصديق فى استعلاء واستكبار بأنه قرر ألا يقرض أحدًا! وهنا نظر الباقورى إلى الطعام.. وأحس أنه شبع وعاد إلى حجرته لينام، وألقى بجسده فى هدوء واطمئنان على مخدعه.. ونام.. نام نومًا عميقًا حالمًا سعيدًا وكأنه متخوم بطعام شهى يحتاج بعده إلى راحة كبرى. ورأى الفتى الذى صام على الماء ثلاثة أيام رأى فيما يرى النائم أنه قصد إلى مسجد سيدنا الحسين ليؤدى صلاة الظهر يوم الجمعة، وهناك وجد والده الذى حضر فجأة من الإسكندرية، بعد أن كان قد سافر إليها ليؤدى دينًا عليه وهو ما تبقى من ثمن آلتين من آلات الرى كان والده قد اشتراهما فى وقت الرخاء، واستأجر بعد أن اشتراهما ١٠٠ فدان من آل بسخرون بأسيوط لزراعتها.. ثم جاءت الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وذهب كل أمواله أدراج الرياح.. رأى الفتى فيما يرى النائم، والده وقد عاد فجأة من الإسكندرية فاحتضنه فى حنان ودموع وأعطاه جنيهًا وخرجا معًا إلى السوق فاشتريا بطاطس وثومًا وطماطم وخبزًا وفولًا وتناولا معًا طعام الإفطار.. واستيقظ الباقورى فى الساعة الحادية عشرة من صباح الجمعة.. اليوم الرابع من رمضان عام ١٩٢٩، ممتلئًا نشاطًا وانتعاشًا، وقصد إلى المسجد الحسينى لصلاة الظهر.. ولمح أثناء صلاته شيخًا يجلس إلى جواره وانتهى من صلاته والتفت إلى يمينه وهو يهمس: السلام عليكم ورحمة الله.. وجحظت عيناه، ثم انهمر منهما دمع غزير. فقد رأى والده إلى جواره!!..

موسى صبرى

وقال له الوالد: لقد حضرت فجأة من الإسكندرية، بعد أن سددت ما تبقى على من دين! ثم أعطاه جنيهًا.. ونزلا إلى السوق واشتريا البطاطس والثوم والطماطم والخبز والفول.. وطهى الفتى الطعام.. وأفطر هو ووالده وقد فاض به إيمان كبير عميق. وهكذا تكون الباقورى الزاهد. هذا الشاب الذى أجمع الأزهر على أن يبايعه زعيمًا له.. متحدثًا باسمه.. وكان ذلك فى عهد حكومة صدقى.. والشعب يقاسى من الطغيان، وقاوم الأزهر.. قاوم العلماء الوطنيون الأحرار. وكان الشيخ الظواهرى شيخ الأزهر فى ذلك الوقت، سندًا من أسناد أصحاب النفوذ والسلطان.. وقد طلب منه إسماعيل صدقى أن يذيع بيانًا باسمه وباسم المفتى- وكان يشغل منصب الإفتاء الشيخ عبدالمجيد سليم- ناديًا فيه الشعب أن يطيع إسماعيل صدقى وصدراه بالآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم». فثار بعض علماء الأزهر على هذا البيان وفى مقدمتهم الشيخ عبداللطيف دراز وأصدروا بيانًا مضادًا ينيرون به الأذهان ويقولون إن شيخ الأزهر ضلل الناس بذكر الآية الكريمة ناقصة.. وكان يجب أن يكملها.. «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا»، وهكذا قالوا لإسماعيل صدقى إن الحكم بينك وبين الشعب هو حكم الله.. وكان جزاؤهم الطرد من الأزهر! وبدأ العلماء يجتمعون فى منزل الشيخ عبداللطيف دراز. وبدأ الباقورى يسمع عن المراغى.. الرجل الذى قاوم الطغيان، الرجل الذى وقف أمام الملك فؤاد ليقول له: لا.. الرجل الذى حافظ على كرامة الوطن لأنه حافظ على كرامة الدين.. وكبرت صورة المراغى فى قلب الباقورى، وكانت صورة الظوارى تتضاءل وتتضاءل فامتلأ فؤاد الشاب غضبًا على الرجل الثانى الذى تضاءلت معه كرامة الأزهر.. وجاءت وزارة توفيق نسيم.. وكان طلبة الأزهر يجتمعون بالآلاف يخطبون وينادون بحقوق الوطن وحقوق الأزهر.. وكان الباقورى يحضر هذه الاجتماعات ليسمع إلى الخطباء.. وذات يوم صدرت إحدى الصحف الوفدية وفيها عنوان كبير «توزيع نقود على طلبة الأزهر لمعارضة توفيق نسيم». وكان الوفد حينذاك يهادن وزارة توفيق نسيم، وكان نجيب الهلالى صديق الوفد ووزير التجارة هو حمامة السلام.. فقصد الباقورى إلى الأزهر.. ليخطب ويتكلم لأول مرة فى الأزهر.. صرخ من أعماقه أن اتهام الأزهر بالرشوة، اتهام دنىء يأباه الأزهريون، ويجب أن تأباه الصحافة، فحصن الوطنية الأول فى البلاد لن يصل إليه الدنانير القذرة.

أحمد حسن الباقورى

وصفق الآلاف وهتفوا أيضًا من أعماقهم مرددين كلمات هذا الخطيب الجديد، وسرى الهمس.. ما اسمه؟ من؟ الباقورى؟ من هو الباقورى؟.. ياه إنه خطيب رائع.. ثم علت صيحات «مطالبنا مطالب الأزهر»، وكانت للطلبة مطالب كثيرة خاصة بالمرتبات، وتعديل نظام الدراسة بالأزهر وغيرها.. فصرخ الباقورى: لا ليست للأزهريين مطالب.. وعلت الصيحات من جديد تعارض الخطيب. مطالب الأزهريين يجب أن تجاب.. وصرخ الباقورى: لا، ليست للأزهريين مطالب، ولكننا نجاهد لحماية كرامة الوطن والدين والعلم.. ولهذا فللمصريين جميعًا مطلب واحد، ثم انطلق الخطيب يدوى ويجلجل: «ويجب أن يخرج الإبراشى من القصر»، ثم هتفت الجماهير الثائرة: يحيا الباقورى زعيم الأزهر.. لا زعيم إلا الباقورى، وقرروا تأليف وفد ليقابل عبدالعزيز محمد «باشا» وزير الأوقاف والمتحدث باسم الوزارة، وانتخبوا الزعيم الجديد رئيسًا لهذا الوفد، فاعتذر الباقورى، وقال لهم: افعلوا ما تشاءون، ولكن ليس لى شأن بالوفود والمقابلات.. فصاح أحد الأزهريين يجب أن ننظم أنفسنا، علينا أن نكون الآن اتحادًا للأزهر برياسة الباقورى. وتكون اتحاد الأزهر.. وفى اليوم التالى قال توفيق نسيم رئيس الوزراء: أريد أن أقابل أحمد الباقورى رئيس اتحاد الأزهر، وقابله الباقورى مع بعض زملائه، وعرض المطالب الوطنية فى منطق واضح وحديث جامع مختصر.. ثم صدر أمر ملكى بتعيين المراغى شيخًا للأزهر! وعاد المراغى إلى الأزهر.. وقال الكثيرون للباقورى: اذهب وزر المراغى فى منزله بحلوان.. فرفض الباقورى وقال سيزوره الطلاب لتهنئته فى مكتبه بالأزهر وأنا واحد منهم.. ودخل الطلاب مكتب الشيخ الجديد وعلى رأسهم الباقورى.. وكانت هذه أول مرة يرى فيها الباقورى الأستاذ الأكبر!! وتكلم الباقورى باسم زملائه وكان يبكى، قال للشيخ المراغى: «لقد عدت إلى الأزهر فعادت إلينا المبادئ والكرامة والوطنية.. ونحن لا نتحدث إلى شخصك، لأن شخصك لا يهمنا فى قليل أو كثير، ولكننا نعلق الأمل على أستاذ الأزهر الأكبر».

ولم تتجاوز الصلة بين المراغى والباقورى بعد ذلك حدود الاجتماع للتشاور فى أمر الوطن.. ولم يقرب شيخ الأزهر إليه، زعيم الأزهر، بل لم يشعره بعطف خاص، وقال بعضهم مرة للمراغى: كيف لا تقرب إليك الباقورى؟ فأجاب الشيخ المحنك مبتسمًا: خليه كده كويس.. لحسن راسه تورم.. وقصد الشيخ بورم الرأس أن يصيب الزعيم الشاب غرور أو كبرياء. وكان المراغى أول من نفذ مشروع إيفاد بعوث من النابغين من طلبة الأزهر إلى أوروبا.. ورشح المسئولون أحمد الباقورى أكثر من مرة، وكان المراغى يشطب اسمه ويقول: إذا ذهب الباقورى إلى أوروبا فستفقده مصر، وأنى أخشى على وسامته ورجولته من نساء الغرب.

وقد بدأ الباقورى دراسته فى معهد أسيوط الدينى.. وقطع المرحلتين الابتدائية والثانوية فى خمس سنوات بدلًا من تسع، فكان النظام يجبر الطالب أن يؤدى امتحان علوم أربع سنوات فى عام واحد.. وفى أسيوط انضم الصبى الصغير إلى جمعية أدبية كان يناظر فيها الطلاب، وكان يقرأ جريدة الأخبار، ويضع المرحوم أمين الرافعى فى قمة مثله العليا.. واتفق يومًا مع بعض زملائه على إقامة حفلة تكريم لأمين الرافعى لبرئه من مرضه ردًا على حفلة أقيمت فى أسيوط لتأبين سعد زغلول.. وفى اليوم الذى حدد لتكريم أمين الرافعى، جاءت الأنباء تنعاه!

فألقى الباقورى قصيدة نظمها فى رثائه مطلعها: 

عزيز على من كان بالأمس مادحا

أمينًا معافى أن يرى اليوم راثيا

ولكن متى كان العزيز على الورى

عزيزًا على الدهر الذى ظل قاسيا

وكانت هذه أول قصيدة من الشعر ينظمها الباقورى، وأنشئت جمعية الشبان المسلمين فى أسيوط.. أنشأها كبار أعيان المدينة.. واقترح واحد من الناس أن يختار الباقورى عضوًا فى مجلس إدارتها، فثار أعيان المدينة واستنكروا أن مجلس «مجاور أزهرى» بينهم.. ولم يدخل هذا المجاور دار جمعية الشبان المسلمين حتى غادر أسيوط إلى القاهرة ليحصل على شهادة العالمية ثم إجازة التخصص.

وهنا يقف التاريخ مع الباقورى قليلًا، فبعد أن حصل على شهادة العالمية، كان فى حاجة إلى العيش.. الخبز.. فقال له صديقه وزميله الشيخ يوسف عمر: لقد اكتشفت شيئًا عظيمًا.. وما هو؟ لقد علمت أن مدرسة الصيارفة تقبل بين طلبتها الحاصلين على إجازة العالمية. وقصد الصديقان على الفور إلى مدرسة الصيارفة، وقدما طلبين.. وعاشا فى حلم لذيذ، فبعد دراسة مداها ستة أشهر أو عام سيصبح كل منهما صرافًا.. وسيكون معهما قروش! وتبدد الحلم الجميل بخطاب من مدرسة الصيارفة بأن إدارتها قررت عدم قبول خريجى الأزهر.. فواصل الشيخان دراستهما بالمعاهد العليا بالأزهر، وقررا أن يكتفيا بالجنيهات الثلاثة كل أشهر التى يصرفها الأزهر لطلبة التخصص.

ونزل الباقورى إلى الحياة العامة، ولعب أدواره الكبيرة على مسرح السياسة.. لعب أول دور خطير فى انتخابات محمد محمود وكان يسافر بالطائرة إلى كل بلاد القطر يدعو الشعب أن يسقطوا مرشحى الوفد، لأنه كان يريد أن يسقط الفساد.. لعب أدوارًا خطيرة فى ثورة سنة ١٩٣٦.. وقبلها ضد الملك فؤاد عندما طغى الإبراشى، وكان يذهب إلى المحامين يستشيرهم: هل هى جريمة إذا هتفنا، يحيا الملك ويسقط رجال الملك؟ ودهش المحامون لهذا التفكير فى ذهن أزهرى، ولعب دوره فى الانتخابات بعد ذلك مرتين فى عامى ١٩٤٤ و١٩٥٠، وسقط فى المرتين، وكان الناخبون هم الذين يقيمون له بتبرعاتهم الحفلات الانتخابية. ولعب أدوارًا عند حصار قصر عابدين فى ٤ فبراير بالدبابات البريطانية، وكتب منشورات هاجم فيها كل زعماء مصر، واعتقله مصطفى النحاس، وأمضى فى معتقل ماقوسة بالمنيا قرابة نصف عام، وتوفى والده وهو بين القيود، ورفض مصطفى النحاس أن يصرح له بإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان والده قبل أن يوارى التراب.. ودارت الأيام وجندت ثورة ٢٣ يوليو رجال البوليس الحربى للبحث عن أحمد حسن الباقورى لتعرض عليه وزارة الأوقاف فى حكومة الثورة.. وكان الباقورى مختفيًا، كان معتكفًا فى زيارة صديقه الشيخ يوسف عمر المدرس بالأزهر فى منزله المتواضع بحارة شيخون بحى القلعة.. وأخيرًا عثر عليه فى الساعة السابعة.. قبل أن يحلف اليمين أمام مجلس الوصاية بقصر عابدين بدقائق. وكان وزير الأوقاف يحمل فى جيبه وهو يحلف اليمين سبعة قروش!