انقراض دور النشر.. «النشر الذاتى».. فرصة ذهبية للموهوبين أم باب للأعمال التافهة؟

- 28% من أعضاء «تحالف المؤلفين المستقلين» تجاوز دخلهم الـ50 ألف دولار
- «كيندل» حققت مبيعات عالمية بلغت 50.7 مليون يورو فى فبراير الماضى وحده
يدور الكثير من النقاشات حاليًا داخل الأوساط الأدبية العالمية بين المؤلفين والناشرين ورواد صناعة النشر ككل، حول تصاعد موجة «النشر الذاتى»، فى ظل اتجاه المزيد من الكُتّاب نحو نشر أعمالهم بشكل ذاتى، بدلًا من طرق النشر التقليدية، خلال العام الجارى، وهو الاتجاه الذى لم يعد على مستوى الكُتّاب الجدد فبحسب، بل يمتد إلى كُتّاب كبار ناجحين.
قبل 10 سنوات، كان «النشر الذاتى» يحمل ما يمكن اعتباره «وصمة عار»، لارتباطه فقط بالكُتاب الذين لم يتمكنوا من إقناع الناشرين التقليديين بنشر كتبهم فى دور النشر الخاصة بهم، فيلجأون إلى نشرها ذاتيًا، أو عن طريق دور نشر أو مواقع وتطبيقات إلكترونية تقدم هذه الخدمة.
لكن الآن تغير مشهد النشر جذريًا، مع اتجاه الكثير من المؤلفين المشهورين لنشر كُتبهم ورواياتهم ذاتيًا، فى توجه لا يمكن اعتباره مجرد تحول طفيف فى صناعة النشر، بل ثورة شاملة تُعيد تعريف معنى أن تكون كاتبًا.
وفى حين يرى البعض أن صعود موجة «النشر الذاتى» يُلحق الضرر بصناعة النشر، يرى آخرون أنه يمنح الكُتّاب معاملةً أكثر عدلًا، مستشهدين بإصدارات أصبحت قصص نجاح لهذا النوع من النشر، بعد أن وصلت إلى أن تصبح «الأكثر مبيعًا»، أو حتى تحولت إلى أفلام حائزة على جوائز.

أرقام عن الموجة الجديدة
نشرت صحيفة «التايمز» البريطانية تقريرًا حول قضية «النشر الذاتى»، حمل عنوان: «لم يعد النشر الذاتى الملاذ الأخير لمن يُرفضون أدبيًا»، قالت فيه إن «هناك جيلًا جديدًا من الكُتّاب يتجاوز دور النشر التقليدية، ويدخلون قوائم الكتب الأكثر مبيعًا على الإنترنت بكتبهم الإلكترونية التى يكتبونها بأنفسهم».

واستشهدت صحيفة «التايمز» برواية «خمسون ظلًا من الرمادى» لإيضاح فكرتها عن «النشر الذاتى»، وكيف يمكن للإصدارات المنشورة بهذه الطريقة أن تحقق نجاحات غير متوقعة، بعدما نُشرت الرواية فى البداية «ذاتيًا»، قبل أن تُباع بالملايين، وتُحوَّل إلى فيلم شهير من بطولة داكوتا جونسون وجيمى دورنان.
ووصفت مجلة «ذا بوكسيلر» البريطانية المناخ الأدبى الحالى بأنه «العصر الذهبى للنشر الذاتى». ونقلت تقريرًا حديثًا صادرًا عن شركة «بوكر»، أفاد بأن عدد الكتب «المنشورة ذاتيًا» وتحمل الترقيم الدولى للكتب «ISBN»، قد تضاعف خلال العقد الماضى، ونما بنسبة ٧.٢٪ فى عام ٢٠٢٣ وحده ليصل إلى أكثر من ٢.٦ مليون كتاب. والأكثر من ذلك، أن ثُلث الكتب المبيعة فى الولايات المتحدة «منشورة ذاتيًا».
وهناك العديد من المؤلفين المستقلين الذين يكسبون عيشهم من نشر كتبهم بشكل مستقل، على الرغم من أن أسماءهم ليست معروفة. ويكشف استطلاع رأى أجراه «تحالف المؤلفين المستقلين»، أنه فى عام ٢٠٢٤، تجاوزت الإيرادات السنوية لـ٤٤٪ من أعضائه ٢٠ ألف دولار، بينما تجاوز دخل ٢٨٪ منهم الـ٥٠ ألف دولار.

وأفادت دار نشر «كيندل دايركت بابلشينج»، وهى من أبرز دور «النشر الذاتى»، بتحقيق مبيعات عالمية بلغت ٥٠.٧ مليون يورو، فى فبراير ٢٠٢٥ وحده. ولا يقتصر الأمر على تزايد أعداد الكتب «المنشورة ذاتيًا» فحسب، بل يكتسب المؤلفون المستقلون أيضًا شهرة واسعة ونجاحًا تجاريًا ملحوظًا، مع مواصلة القراء طلب المزيد.
ونبه تقرير حديث لصحيفة «الجارديان» البريطانية إلى أن كون «النشر الذاتى» حكرًا على «هواة يائسين ينتجون كُتبًا لا يرغب أحد فى قراءتها»، فكرة عفا عليها الزمن، منذ عقد على الأقل، فقد بنت كاتبة الروايات الرومانسية كولين هوفر جمهورها من خلال «النشر الذاتى»، وباعت الآن حوالى ٢٠ مليون كتاب.
سارة جيه ماس، الكاتبة الأكثر مبيعًا فى العالم، خلال عام ٢٠٢٤، بدأت بنشر رواياتها الرومانسية على موقع إلكترونى، عندما كانت فى الـ١٦ من عمرها. وفريدا ماكفادين، كاتبة روايات الإثارة النفسية الناجحة، تقول إنها تجنى ٦٠٪ من دخلها عبر «النشر الذاتى» بواسطة شركة «كيندل»، حتى إنها واصلت هذا النوع من النشر رغم سعى دور النشر التقليدية إليها.
فى المقابل، هناك من يرى أن «النشر الذاتى» أثر سلبًا على الصناعة، من بينهم بيل برايسون، المؤلف الأمريكى لمجموعة كتب من الأكثر مبيعًا فى الولايات المتحدة، شملت مواضيع عن السفر واللغة والعلم، والذى قال لصحيفة «الجارديان» البريطانية إنه غير متأكد من أن نمو «النشر الذاتى» يعد تطورًا صحيًا، مضيفًا: «أتلقى الكثير من الكتب المنشورة ذاتيًا، وفى معظم الأحيان تكون مجرد حياة شخص مجهول، ولا تثير اهتمامى».
خالفته فى الرأى كاثرين توسيج، من دار «ستورم»، إحدى دور النشر الجديدة التى تُركز على «النشر الرقمى»، وتستفيد مما تصفه بـ«ثورة» فى «النشر الذاتى»، قائلة: «لطالما سادت الشكوك حول المؤلفين الذين ينشرون أعمالهم ذاتيًا منذ البداية. هناك تصور بأن الجودة متدنية. لكن ما عليك سوى إلقاء نظرة على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا».

التركيز على المشاهير
تحت عنوان «ثورة النشر الذاتى الجديدة: لماذا يتخطى المزيد من الكُتّاب الطرق التقليدية فى عام ٢٠٢٥»، نبه موقع «ميديام» الأمريكى إلى تجربة الروائى براندون ساندرسون، الذى جمع ٤١.٧ مليون دولار من نشر ٤ روايات ذاتيًا، وهو ما اضطر رواد عالم النشر إلى الاعتراف بحقيقة مُزعجة، هى أن القراء يهتمون بالقصص الرائعة، وليس بالدار التى تنشرها.
فى الوقت نفسه، شدد الموقع على أن «النشر التقليدى لا يزال يُقدم مزايا لا تُنكر، منها موارد احترافية للتحرير والتصميم، وشبكات توزيع مُدمجة، ودفعات مالية مُسبقة، وإن كانت متواضعة عادةً، بالإضافة إلى خبرة وتوجيه مُتخصص».
هذا ما أكدته واتفقت معه سامانثا تشين، المحررة السابقة فى دار النشر ذائعة الصيت «سايمون آند شوستر»، والتى قالت إن «النشر التقليدى لم ينتهِ بعد»، قبل أن تستدرك: «لكنه لم يعد السبيل الوحيد المشروع للوصول إلى القراء بأعمال عالية الجودة».

أما دانييل هاتشينسون، المديرة الإبداعية فى برنامج البودكاست «مؤلفون فى مهمة»، فقالت إن «صناعة النشر تعمل الآن بسرعة فائقة، إذ يُنشر أكثر من ١١ ألف كتاب جديد حول العالم يوميًا، وتتغير آفاق النشر بشكل كبير كل عام، ويبرز الآن اتجاه جديد هو النشر الذاتى»، مضيفة: «دور النشر الكبرى يمكن أن تكون أحد الأسباب فى تصاعد هذه الموجة، مع اتباع النشر التقليدى مسارًا مألوفًا، لكنه مُحفوف بالفرص والعقبات».
وتعمل دور النشر الكبرى، مثل «بنجوين راندوم هاوس» و«هاربر كولينز»، كبوابة صارمة. وتكشف التقارير أنهم يقبلون أقل من ١٪ من المخطوطات المقدمة. وعادةً ما يقضى المؤلفون شهورًا، وأحيانًا سنوات، فى الاستفسار من وكلاء أدبيين قبل الحصول على دعم، ثم يعرض هؤلاء الوكلاء مخطوطاتهم على الناشرين، على أمل الفوز بعقد.

واستشهدت «هاتشينسون» بـ«جيه كيه رولينج»، المؤلفة البريطانية الشهيرة، كمثال، قائلة إنها واجهت رفضًا متكررًا قبل «هارى بوتر»، حتى وجدت ضالتها فى دار نشر «بلومزبرى»، التى قبلت بنشر كتبها بعد سنوات من الرفض.
وأضافت: «بالنسبة للمؤلفين المخضرمين، الاتفاقيات التعاقدية المعقدة وقرارات التحرير وخطط التسويق، غالبًا ما تكون خارج نطاق سيطرتهم. فبينما يتولى الناشرون التقليديون تغطية تكاليف الإنتاج والتوزيع، يحتفظون أيضًا بمستوى عالٍ من التحكم الإبداعى فى أعمالهم، من تصميم الغلاف إلى تحرير المحتوى».
وواصلت: «الاتجاهات الحالية فى النشر تميل بشكل كبير نحو الأسماء المرموقة. ويبدو أن مذكرات المشاهير وكتب المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعى تُعطى أولوية أكبر بكثير على الأصوات الجديدة، إذ تبحث دور النشر عن مؤلفين لديهم جمهور راسخ، ما يُصعّب على الكُتّاب الموهوبين الذين يفتقرون إلى الهوية الثقافية تحقيق النجاح».

إيجابيات وسلبيات
قد يمثل النشر التقليدى تحديًا، لكنه يتمتع بإيجابيات كثيرة، ففيه يُضيف الناشرون عقدين من الخبرة وشبكات علاقات راسخة إلى مشروع الكتاب المُقدم، بما يجعله يحظى بفرص توزيع أوسع من خلال المكتبات العامة والخاصة.
من ضمن إيجابيات النشر التقليدى أيضًا، ما يحظى به المؤلفون الجدد من مصداقية أعلى عند العمل مع ناشر كتب محترف، فضلًا عن إمكانية العمل مع محررين ومصممين وفرق تسويقية متمرسة، وتقديم الناشرين التقليديين امتيازات طبيعية، من بينها أطر زمنية أطول، فقد يستغرق العمل مع المحترفين ما بين ١٨ و٢٤ شهرًا فى المتوسط، وهو ما يعود إلى الاهتمام بالتفاصيل، والتعاون الدقيق الذى يستثمره ناشر الكتب.
ورغم أن النشر التقليدى يحظى بالمصداقية والتوزيع الواسع، يُعاب عليه أنه انتقائى وبطىء للغاية، ما دفع العديد من المؤلفين الآن للبحث عن بدائل توفر لهم تحكمًا أكبر ومسارًا أسرع للوصول إلى السوق، وهذا ما جعل «النشر الذاتى» خيارًا شائعًا فى السنوات القليلة الماضية.
لذلك، وعلى مدى أكثر من عقد، شهدت حصة الأعمال المنشورة ذاتيًا فى السوق نموًا ملحوظًا، مقارنةً بالأعمال المنشورة تقليديًا. وتُحدث منصات «النشر الذاتى» للكتب ثورة فى النموذج التقليدى، مع إتاحتها للمؤلفين الوصول إلى خدمات شاملة لكتابة الكتب وخدمات تسويقها، فمن نواحٍ عديدة، يُحوّل «النشر الذاتى» المؤلفين إلى رواد أعمال، ورواد الأعمال إلى مؤلفين.

ويزخر مشهد «النشر الذاتى» اليوم بمسارات مُتنوعة، بدءًا من أساليب «النشر الذاتى» المُعتمدة كليًا على الذات، وصولًا إلى خدمات الدعم الاحترافية المُتكاملة، والتى يُقرر المؤلف فيها استراتيجيات التحرير والتصميم والتسعير والتسويق، ويُمكنه اختيار موعد نشر الكتاب، مع الحفاظ على التحكم الإبداعى الكامل فى العمل.
ويمنح «النشر الذاتى» الكاتب حرية إبداعية ومزايا جذابة، منها الربح، ففى المتوسط، يقدم «النشر الذاتى» عائدات أعلى من المعدلات التقليدية، تتراوح بين ٢٠ و١٠٠٪، والسلطة، إذ يتحكم الكاتب فى كل جانب من جوانب الكتاب، من تصميم الغلاف إلى توقيت الإصدار، فضلًا عن إطار زمنى مُسرّع، فالكاتب ليس مُضطرًا لانتظار الآخرين، بل يمكنه التحرك بوتيرة تُلبى احتياجاته. وعند التعامل مع شركات «نشر ذاتى» قوية، يُمكن للكاتب الوصول إلى فرق من الخبراء تُدير كل شىء من الكتابة إلى التسويق، مع الحفاظ على التحكم الإبداعى الكامل، كما سبق أن ذكرنا. ورغم أنه يمنح الكُتّاب حرية إبداعية وأرباحًا أعلى، يتطلب «النشر الذاتى» تخطيطًا واستثمارًا ذكيًا، وتنقصه المصداقية عن النشر التقليدى.
وفى حين أن هذه الطفرة فى «النشر الذاتى» قد توحى بفقدان دور النشر التقليدية أهميتها، يعد هذا ليس صحيحًا. ويرى خبراء أن صعود موجة «النشر الذاتى» لا يعنى تراجع النشر التقليدى.