الأحد 03 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

شهادات شعبية عن الفترة الناصرية

حرف

- ما لَم يمتزج الإخلاص لمصر ضد حركات الإرهاب والتطرف بالوعى وسعة الصدر والدراية فستتحول صحفنا إلى محاكم تفتيش كارثية

- مصر حاضرة العالمين لا تستحق منا أن نسقطها دائمًا فى فلك أسراب الخراب المتطرفين

- إننى أدعو إلى مائدة مستديرة يحضرها متخصصون لا لمحاكمة الكتاب ولا لمديحه بل لمناقشة منطلقاته وآليات

فى العام ١٩٦٦ التقيت الفنانة الراحلة أمينة مرزوق «ستصبح فيما بعد زوجة الفنان عزالدين نجيب وأم وحيدته مخرجة التحريك نسرين».

كان ذلك بمعسكر لمنظمة الشباب بسموحة بالإسكندرية، وكانت أمينة هى الأولى على طالبات معاهد المعلمات على مستوى الجمهورية، ما أتاح لها الالتحاق بكلية التربية الفنية بالزمالك.

حكت لى أمينة عن عبدالناصر، وقالت إنها جرت ما يزيد على ساعة وهى صبية صغيرة- ضمن من جروا آنذاك لتستمع إلى خطبة عبدالناصر بميدان المنشية يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٦، التى أعلن فيها عن تأميم شركة قناة السويس، قالت أمينة: لم أكن أفهم ساعتها معنى كلمة تأميم، فقد كنت طفلة صغيرة فى العاشرة من العمر، ولكن أنا حتى الآن لا أنسى هذا اليوم، فلقد رأيت الدموع فى عيون كل من حولى، واستشعرت صرخات الفرح المتطايرة هنا وهناك، فبكيت مثل الجميع وصفقت وهتفت عاش جمال عبدالناصر.

فى العام ١٩٦٧ وبعد اجتياح العدو الإسرائيلى لسيناء، وإعلان أن الطريق إلى القاهرة أصبح مفتوحًا أمامه استطاع أسامة الكرداوى أن يجمع أكثر من خمسمائة شخص من أبناء أحياء شرق القاهرة، أى من الزيتون والمطرية وعين شمس ومصر الجديدة- وكنت من هؤلاء- على أن نبدأ بكفاح مسلح شعبى ضد العدو إذا ما قرر دخول القاهرة.

أسامة الذى كان يكبرنا بسنوات وظل مجندًا مخضرمًا فى حرب الاستنزاف، وضمن أبناء الجيش الثالث الذى ظل محاصرًا لبعض الوقت، هذا الشاب الهادئ الرصين الذى تخرج لتوه من كلية تجارة جامعة عين شمس، كانت له موهبة فريدة، وهى قدرته الفذة على تجميع أكبر عدد من الناس فى أقل زمن ممكن.

فى أقل من ساعة، قام أسامة الذى له شبكة علاقات واسعة، بجمع باعة جائلين، وطلاب جامعات وعمال مخابز وشابات بأعمار متفاوتة بهدف القيام بمقاومة شعبية على غرار ما حدث فى العام ١٩٥٦ أثناء العدوان الثلاثى الغاشم على مصر، ولحسن الحظ، كانت الفتيات قد تلقين تدريبًا عسكريًا فى المدارس الثانوية آنذاك، حيث كانت هناك حصص للتربية العسكرية كل أسبوع، وبدأنا بالفعل على التدريب فى نادى الشمس بمصر الجديدة، وكان وقتها قيد الإنشاء.

أسامة الكرداوى الذى أصبح مخرجًا بالتليفزيون المصرى بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، عم والده هو محمد شكرى الكرداوى الذى شارك فى محاولة لاغتيال السلطان حسين حاكم مصر فى العام ١٩١٧، وفشلت المحاولة فكتب كتابًا عن هذه التجربة هو «خمسة وخمسون يومًا فى مخبأ».

خناقة نشبت فى عمارتنا بالزيتون بين عم زخارى وزوجته نرجس. كنت صغيرة وقتها فى سنى الجامعة الأولى، ولكن من كلام من حاولوا فض الخناقة، فهمت أن طنط نرجس- هكذا كنت أناديها، لامت زوجها لأنه تبرع بدبلة الزواج للمجهود الحربى، مع بعض زملائه فى العمل.

حاول الرجل تهدئتها، وقد ظنت فى بادئ الأمر أن غياب الدبلة عن أصبع يده وراءه خيانة محتملة.

ولم تهدأ الجارة الطيبة إلا بعد أن وعدها بأنه سوف يشترى أخرى عوضًا عن الأولى عندما تسنح له الظروف.

لظروف خاصة كنت فى مدينة السنبلاوين عندما توفى جمال عبدالناصر.

يومها، تعالى الصراخ والعويل فجأة من كل مكان، وبدا الأمر وكأن هناك حالة من الانفلات الجماعى، فالناس كلها دون استثناء، رجالًا ونساء صغارًا وكبارًا، بدوا وكأنهم خارج السيطرة، وكأن شرارة حزن وحسرة هائلة أحدثتها صدمة مفاجئة غير متوقعة.

الغريب، أن نساء ريفيات شبه معدمات يبكين بحرقة ويلطمن خدودهن، ما جعلنى أتساءل وأنا حزينة بالطبع: هل يعقل ما تفعله هؤلاء النسوة؟ هل هن مسيسات إلى هذا الحد، وإلى تلك الدرجة تفهم معنى فقد جمال عبدالناصر؟ 

ما أن أتى وقت الغروب، حتى امتلأت ساحات المدينة بسرادقات للعزاء، عزاء من فقد عزيز لديه من دمه ومن لحمه.

عندما عدت إلى منزلنا بالزيتون، وجدت أمى ونساء الجيران يتشحن جميعًا بالسواد حزنًا على جمال عبدالناصر، وفى اليوم التالى ذهبن جميعًا إلى منشية البكرى لعزاء جمال عبدالناصر فى بيته، وتقديم واجب العزاء لزوجته، عجبى زاد، فسيدات عمارتنا من الجيران لا يقرأن حتى الجرائد اليومية- إن كان بعضهن يقرأ- والمجلة الوحيدة التى كان يتعاملن معها هى مجلة حواء لأجل باترونات التفصيل التى كانت تقدم مع المجلة كهدية مجانية، وللاطلاع على بعض الإرشادات المنزلية المفيدة.

أذكر جملة قالتها أمى لى وقتها ولا أنساها: «بعده البلد ضلمت».