الخميس 18 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

اقرا الجمهورية.. عندما علت صيحة الانتصار فى شوارع القاهرة 1953

حرف

- كواليس ما جرى فى الحجرة 23 بمستشفى الدكتور مظهر عاشور يوم 4 يوليو 1953

نحن فى صباح الإثنين ٧ ديسمبر ١٩٥٣ بعد أن مر عام وتبعه ١٢٩ يومًا بالتمام والكمال على ثورة عارمة حركت مياه الوطن الراكدة فى ٢٣ يوليو من العام السابق.. الآن وقد انتصف الأسبوع تمامًا، يتسلل فى أرجاء القاهرة ذلك الضوء الرقيق الذى تتشقق له السماء تدريجيًا معلنة قدوم شمس دافئة فى الطريق إلينا، لتطرح برد الليل أرضًا وترفق بالعمال والموظفين الملتحفين بثقيل الثياب.

يظهر على ناصية شارع رئيسى من شوارع القاهرة العتيقة بائع الجرائد ذو الوجه المألوف يطلق صيحاته المعتادة والمتعاقبة على أذن المارة الذين يتمتمون بالدعاء للمولى أن يجعل يومهم لطيفًا خفيفًا جابرًا لخواطرهم. 

السادات بذل مجهودا كبيرا لإخراج العدد الأول من الجمهورية في أبهي صورة

اعتاد الرجل على تصفح ما يتسلمه من جرائد ومجلات اليوم الجديد فور تسلمها قبيل الفجر ليبدأ محاولات جذب الزبائن بعد استخلاص أهم ما تحويه من عناوين ليبدرها فى الأرجاء على شكل جمل إكليشيهات من قبيل «إقرا الحااادثة.. آخر أخبار الملك المخلوع.. محاكمة فلان الفلانى».

لكن هذا الصباح كان مختلفًا كليًا على الرجل.. شعر بانتشاء وتفاؤل بزيادة محتملة فى رزق اليوم، حيث يمسك بيديه العدد الأول من جريدة ترمز للعهد الجديد الذى يبدو له سعيدًا.. واسمها «الجمهورية».. لذلك كان بديهيًا أن تصير الصيحة الأهم له هذا الصباح: 

«اقرا الجمهورية.. اقرا جريدة الشعب.. اقرا جرنان الثورة الجديد»

لم يكن الرجل يحتاج إلى الاجتهاد باستخدام أهم عناوين الجريدة للبيع، لأن المارة سارعوا باختطاف النسخ من يده.. يدفعهم فضول جارف لمعرفة ما يجول فى أدمغة هؤلاء الضباط الشباب الذين حملوا أرواحهم على أكفهم قبل أشهر قليلة ليزحزحوا عهدًا كاملًا استمر قرنًا ونصف القرن لأسرة رجل ألبانى اسمه محمد على. ولم يكن هناك أفضل من جريدتهم لتعبر عنهم وعن رؤيتهم لمستقبل وطن عظيم اسمه مصر. 

ومنذ تلك اللحظة صارت صحيفة الجمهورية رقمًا مهمًا على فرشة جرائد الرجل وتطورت الصيحات لتصير صيحة صباحية واحدة جامعة مانعة تضم الثلاث صحف الكبرى خلدتها السينما بعد ذلك «أخبار أهرااام جمهورية».. ليكتمل بذلك الضلع الثالث للصحافة اليومية المصرية.

وتمر السنوات سريعًا لنكون أمام مشهد آخر الآن، يقف فيه كتيبة الزملاء فى الجمهورية تحت قيادة الزميل أحمد أيوب ليحتفلوا ونحن معهم بمرور٧٢ عامًا على المشهد السابق، والذى كان فارقًا فى تاريخ الصحافة المصرية.

الدكتور مظهر عاشور صاحب المستشفي الذي أنقذ قد ناصر من إنفجار الزائدة

مشهد «1».. الزمان- 4 يوليو 1953 المكان - مستشفى الدكتور مظهر عاشور

الجو لم يكن هادئًا فى طرقات المستشفى.. كان يبدو من تسارع الخطى فى الطرقات أن شخصًا ما على قدر كبير من الأهمية أتى على عجل وأُجريت له عملية جراحية سريعة ويقطن الآن فى حجرة ٢٣.. ساعاتٌ قليلة وعرف الجميع أن الشخص كان جمال عبدالناصر رجل الضباط الأحرار الأقوى، حيث أجرى له الدكتور مظهر عاشور عملية استئصال للزائدة الدودية «المصران الأعور» بعد أن داهمته آلام مبرحة مفاجئة أثناء اجتماع مع الرئيس محمد نجيب والقائد العام عبدالحكيم عامر.. وظل الأمر طى الكتمان وفى ساعات قليلة كان عامر يمسك بسماعة التليفون ليتصل ببيت صديقه ويعلم زوجته الست تحية وأبناءه أن كل شىء تم بسلام ويعلمهم بأمر العملية الجراحية المفاجئة.. ثم اتصل بمجلس قيادة الثورة ليعلم باقى الضباط بالأمر وسرعان ما انتشر الخبر. وفى اليوم التالى توافد الجماهير ليطمئنوا على الرجل الثانى فى الحكم، حينها، نظريًا والأول عمليًا، وتتابعت زيارات رفقاء السلاح للاطمئنان على صديقهم واحدًا بعد الآخر، إلى أن جاء دور البكباشى أنور السادات، هنا طلب منه ناصر المكوث قليلًا للتحدث معه فى أمر مهم.

فاجأ عبدالناصر السادات قائلًا:

الثورة لازم يبقى ليها جرنان يومى يعبر عنها يا أنور فى أسرع وقت.. عشان كده أنا كلفتك بالإشراف على إصدار أول جريدة يومية ناطقة بلسان الثورة وتتبنى أفكارها وتعبر عن سياستها. 

الدكتور مظهر عاشور صاحب المستشفي الذي أنقذ قد ناصر من إنفجار الزائدة

تلعثم السادات متعجبًا من ذلك الرجل الذى لا يقيم وزنًا لمرض، ولا يعترف بجراحه وكأنه كان يفكر ويخطط، بينما كان الجراح يشق بطنه.. لكن السادات على أى حال طلب منه مهلة لدراسة الأمر، لأن المسألة ليست بتلك البساطة، وحثه على التركيز على التعافى من وعكته أولًا وسيدرس الأمر ويأتى له بالجواب المفيد.

وبالفعل بعد يومين حضر أنور لصديقه قائلًا إن المهمة مستحيلة وتحتاج وقتًا طويلًا جدًا.

هنا نظر له عبدالناصر بثقة وتحدٍ وقليل من الاستنكار: 

إذن كيف قمنا بالثورة برغم كل المصاعب التى حولنا.

ثم أغلق الحوار بجملة واحدة: 

الجرنان لازم يكون فى إيد الناس قبل ما تخلص سنة ٥٣ يا أنور.

دار الهلال ومطابعها كانت ملجأ السادات لوضع قدمه على أول طريق نجاح إصدار الجمهورية

مشهد «2».. الزمان - يوليو 1953 المكان - دار الهلال

السادات وجد نفسه أمام تكليف لا يمكن الفكاك منه، فكان الخيار الأول له هو الذهاب إلى دار الهلال مكانه الذى استوعب كتاباته قبل الثورة، حيث عمل بها صحفيًا لبعض الوقت ونشر مذكراته فى السجن فى الأربعينيات.. وكان السادات يبغى من زياراته المتكررة السؤال والاستفسار عن آليات تحقيق حلم الصحيفة اليومية فى أسرع وقت ممكن، كما يريد عبدالناصر.. وكما قال السادات بعد ذلك إنه استمع إلى نصائح الزملاء والخبراء داخل دار الهلال فى كل تفصيلة تخص الإدارة والتحرير والإعلان والتوزيع والطباعة.. لم يترك شيئًا دون السؤال عنه حتى تكونت لديه صورة مبدئيًا عن الخطة التى ينبغى أن يسير عليها حتى تصدر الصحيفة. 

وكان أول شىء يشغل باله بالطبع هو مقر مناسب للجريدة، وفى أول أغسطس عام ١٩٥٣م استأجر شقتين بالطابق الخامس فى العمارة ٣٦ فى شارع شريف.. وتم فرش وتجهيز هذا المقر المؤقت بسرعة شديدة حتى يجتمع فيه السادات مع مجموعة من الذين تم اختيارهم للعمل فى الجريدة، وكان على رأسهم بالطبع حسين فهمى الذى تم ترشيحه ليكون أول رئيس تحرير للجريدة الجديدة، وقد بدأ العمل الجدى فى التحضير لإصدار الجريدة منذ سبتمبر ١٩٥٣م، وكان الاقتراح الأول لاسم الجريدة هو التحرير اليومى، على اعتبار أن الثورة أًصدرت فعلًا مجلة أسبوعية باسم التحرير.. لكن حسين فهمى كانت لديه رؤية مغايرة للاسم أعجبت ناصر والسادات، حيث اقترح اسم «الجمهورية» لتعزيز النقلة الكبيرة التى أحدثتها الثورة فى الوطن بعد أن خلصته من أغلال الملكية بعد قرن ونصف القرن.

وبالفعل صار اسم الإصدار اليومى الجديد المزمع صدوره هو «الجمهورية» وأخذ السادات فى إحضار صحف كثيرة من الشرق والغرب لدراسة كل تفصيلة ومحاولة الاستفادة من الخبرات والتجارب الأخرى.. وتعاقد مع شركة عالمية لتصدير الورق بعد أن اكتشف أن الجريدة تحتاج كميات كبيرة من الورق ليست موجودة فى مصر.. ثم جاءت الخطوة الإجرائية المهمة بعد أن وجه مدير المطبوعات خطابًا إلى هيئة التحرير يحمل الموافقة على إصدار الجريدة الجديدة، وعلى هذا الخطاب فقد بدأت منذ بداية أكتوبر ٥٣، حملة إعلانية كبرى فى الصحف المصرية تمهد لصدور جريدة الجمهورية كأول جريدة يومية تصدرها الثورة المصرية، ومن أمثلة هذه الإعلانات «جريدة الجمهورية تلهب ظهر الاستعمار، جريدة الجمهورية جريدة الشعب» وغيرها من الجمل الرنانة التى حرص ناصر والسادات ومعهما حسين فهمى على تصديرها للقارئ المنتظر للجريدة الجديدة.

 إعلان جريدة الجمهورية في مجلة التحرير ١٧ نوفمبر ١٩٥٣

ويحكى السادات بقية حكاية الجمهورية فى مقاله الذى نشره فى العدد الاحتفالى بعد عام من صدورها فيما بعد. وقال إنهم قاموا بشراء دار صحيفة الزمان ١١ شارع الصحافة، وكانت صحيفة أخبار اليوم تطبع بها لفترة من الزمن، واستمر العمل فى التجارب لعدة أسابيع، حتى تم الاتفاق على الشكل النهائى، وكان عبدالناصر فى كل خطوة مراقبًا ومتابعًا كل تفصيلة، كما قالت زوجته السيدة تحية فى مذكراتها بعد ذلك التى كشفت فيها كيف كان ناصر مهمومًا بصدور تلك الجريدة فى ذلك الوقت الحساس بأسرع ما يمكن وبأفضل صورة، وأفادت أنها كانت تسمعه وهو يتحدث بجانبها بعد رجوعه إلى البيت فى الليل ويطلع على البروفات التى يرسلها له السادات ويعدل ويغير ويبدل حتى وصلوا إلى الشكل النهائى الذى استقروا عليه، وهنا كان لا بد أن تدور المطبعة.

مشهد «3».. الزمان 7 ديسمبر 1953 الثانية بعد منتصف الليل المكان - ١١ شارع الصحافة مقر دار الزمان

يقف السادات ومعه حسين فهمى ومسئولو التحرير فى الجريدة، يتابع البكباشى أنور تحركات عمال المطبعة المدروسة من قص ولزق المادة والتوضيب مع الصور والحروف الرصاص.. وهو ينتظر بنهم أن تخرج من بين طيات تلك الماكينة مولوده الأول أو العدد الأول من جريدة الجمهورية ليقطف ثمار جهده الشاق منذ يوليو الماضى.. ويعرف أن عبدالناصر الآن يعيش نفس قلقه داخل بيته منتظرًا أن يحضر له النسخ الأولى.

وبالفعل تخرج النسخة الأولى ليتلقفها السادات بشغف ويقلبها كلها وكأنه يتأكد من أمانة المطبعة فى نقل ما صاغته أقلام كتاب العدد الأول للجمهورية، وعلى رأسهم الرجل القوى للضباط الأحرار صاحب التكليف جمال عبدالناصر.

مشهد «4».. الزمان- 7 ديسمبر 1953 قبيل الفجر المكان - بيت عبدالناصر

يدخل السادات متهلل الوجه على رفيق السلاح جمال عبدالناصر ليجده يتناول طعام الإفطار والشاى تركه فور دخوله حاملًا له النسخة الأولى لجريدة الجمهورية، أمسكها الرجل القوى سعيدًا مسرورًا وشكر السادات على جهده الوفير فى إخراج جريدة الثورة فى أسرع وقت، كما اتفقا، وأخذ ناصر النسخة الغالية ليسلمها إلى زوجته تحية سعيدًا مسرورًا بهذا الإنجاز، كما حكت هى فى مذكراتها حيث قالت بالنص:

«كانت الفرحة على وجهه وهو يسلمنى العدد الأول، وكنت أعتز بجريدة الجمهورية لما شاهدته من اهتمام جمال عبدالناصر بها».

وبعدها بدقائق كان اسم جريدة الجمهورية يملأ أرجاء الميادين لنصل إلى المشهد الأول الذى ذكرناه فى المقدمة حيث الباعة تتعالى صيحاتهم: 

«اقرا الجمهورية.. اقرا جريدة الشعب.. اقر جرنان الثورة الجديد»

أهرااام.. أخبار.. جمهورية

الصفحة الأولي من العدد الأول من الجمهورية