كنز الأرشيف الصحفى.. احتفاء خاص من حرف بمئوية المصور وروز اليوسف (1)
من ليس له تاريخ لن يمتلك حاضره، ولن تكون نظرته للمستقبل ثاقبة، ولأن الصحافة الورقية هذه الأيام تعيش حاضرًا ليس على ما يرام، ويسيطر على مستقبلها نبوءة متشائمة تشير إلى نهايتها، فكان لا بد من العودة لـ«كتاب التاريخ» علّه يوشى لنا بالحل لذلك الموقف الصعب، والحق أن صحافتنا المصرية تمتلك كنزًا هائلًا لا يقدر بمال اسمه الأرشيف الصحفى، وهو بمثابة «كتاب التاريخ» لتلك المهنة، يكمن بين صفحاته حل العقدة ومفتاح المستقبل.
والحق أن الفترة الأخيرة شهدت محاولتين كبيرتين لاستغلال كنوز الأرشيف الصحفى عبر أعداد خاصة غاية فى المهنية والإبداع، وصادفهما التوفيق والنجاح البالغ طبقًا لأرقام التوزيع والصدى الواسع لهما فى الوسط الصحفى والثقافى وخارجهما.
التجربة الأولى كانت من نصيب مجلة المصور العريقة التى كتبنا عن احتفالها بالمئوية بعدد تاريخى منذ أشهر، وأكملت تجربتها الرائدة فى استغلال الأرشيف بقيادة الزميل والصديق عبداللطيف حامد، بإصدار عدد لا يقل إدهاشًا عن سابقه، واحتوى على ١٠٠ حوار منتقى بعناية فائقة من معين المصور الذى لا ينضب.
أما التجربة الثانية المدهشة فى استغلال الأرشيف الصحفى فكانت من نصيب الزملاء فى روزاليوسف بقيادة زميل وصديق آخر هو أحمد إمبابى الذين اختاروا أن تكون احتفاليتهم بمئوية مجلتهم العظيمة الاستثنائية عبر ٥ إصدارات ملفتة، كل إصدار فيها جدير بالاقتناء، وهو ما انعكس فعليًا فى نفاد كل الأعداد المطبوعة من الإصدارات الخمسة فى وقت قياسى.

تجارب المصور وروزاليوسف الملهمة ساعدت فى إرساء جذور الأمل فى أرض المهنة المقفرة التى تشققت تربتها بندرة الماء الذى يرويها، وماء الصحافة هو رجوع الشغف بها لدى صناعها، مثلما عاد لدى الزملاء فى المجلتين.
وقد اخترنا فى العدد الـ١٠٠ من جريدة «حرف» أن نشاركهم فرحتهم وشغفهم بأن اخترنا حوارين من عدد المصور، ومجموعة منتقاة من الرسوم التى نشرت فى أحد الإصدارات الخمسة لروزاليوسف وهو «بيت الكاريكاتير»، اختارها بعناية أحد صناع التجربة، وهو الزميل محمد عطية المدير الفنى لروزاليوسف.

شارلى شابلن عند الأهرامات
ما كاد شارلى ينزل من سيارته عند سفح الهرم الكبير حتى أحاط به جمهور من الأهلين بين وطنيين وأوروبيين، هذا يقول له: «هالو شارلى» وآخر يستوقفه بقوله «دقيقة واحدة يا مستر شابلن لأخذ صورتك» وذاك ينتزع يده ليصافحه ثم يقول له: «أقدم لك زوجتى يا مستر شارلى» ورابع يدنو منه قائلًا: «أرجو أن تمضى لى اسمك هنا يا مستر شابلن» ثم هذه فتاة تبتسم له بدلال وتطلب منه أن يقف بجانبها لكى تتصور معه فتقول زميلة لها: «وأنا أيضا يا شارلى».. وبعدما انتهى شارلى من توزيع التحيات والابتسامات، والإمضاءات، التفت حوله فرأى ثلاثة جمال معدة له ولشقيقه «سدنى» وسكرتيره اليابانى، فاعتلى الجمل الأول واعتلى سدنى الجمل الثانى.
وكانت الفرصة سانحة لمحادثة شارلى وهو على ظهر الجمل فاعتليت الجمل الثالث بفضل مساعدة الجمال «عبدالباقى» وعطفه، وسرت محاذيًا لشارلى تاركًا سكرتيره اليابانى يبحث عن جمل رابع، فأتوا له به بعد فترة قصيرة فما لبث أن لحق بسيده الشهير.
ولما اقترب الممثل الكبير من هرم «خوفو» قلت له: «إن أربعين قرنًا ....» فقاطعنى على الفور قائلًا: «تنظر إليكم من أعلى».
فقلت: «لقد قرأتم إذن عبارة نابليون لجنوده».
فقال: «لقد قرأت الشىء الكثير عن مصر وعن البلدان التى سأمر بها فى خلال هذه الرحلة قبل أن أشرع فيها».
فقلت: «وهل لكم شغف بالقراءة».
فقال: «شغف كبير! وإننى أغذى مكتبتى بانتظام».
فقلت: «وما هى أحب الكتب إليكم».
فقال: «لقد قرأت طبعًا لمعظم المؤلفين الإنجليز المعروفين وقرأت أيضا كارل ماركس كما قرأت (شابنهور) فأحببته، ولى ولع خاص بقراءة سير مشاهير الرجال».
وأخبرنى «سدنى» أن شقيقه جلب معه فى رحلته هذه طائفة كبيرة من الكتب لكى يتسلى بقراءتها وأنه وضعها فى حقائب خاصة.

شارلى والكآبة
هنا كانت الجمال قد توغلت فى الرمل فقلت لشارلى «إن الفرق عظيم بين هذا الجمل والسيارة «الليموزين» التى تركبونها عادة أليس كذلك؟».
فابتسم وقال: «أجل إن الفرق عظيم ولكنى أؤكد لكم أننى ملتذ بهذه التجربة، فإن المرء يسأم السيارة فى آخر الأمر كما يسأم أحيانًا كل شىء يقتنيه».
وفى هذه اللحظة التفت شارلى إلى شقيقه سدنى وهو يناديه «سد» وقال له: «سد! ألا ترى أن منظر هذه الصحراء أجمل من منظر كثير من المدن التى رأيناها فقال سدنى: «هذا صحيح».
وكنت أريد أن يتناولوا أمرا معينا فمهدت لذلك بقولى: «ولكن فى الصحراء وحشة».
فقال شارلى للحال: «ألا تعتقد أن المرء يشعر بالوحشة حتى الضوضاء التى حولى عظيمة». فى وسط المدن، أنا على كل حال أشعر بها أحيانًا مهما كانت الضوضاء التى حولى عظيمة».
فقلت: «هذا ما أردت أن أصل إليه فى حديثى معكم يا مستر شابلن.. إن المعجبين بكم يقرأون أحيانًا فى المجلات الأمريكية أن الكآبة تجد إلى قلبكم سبيلا فتتملكهم الدهشة إذ إنهم ينتظرون عكس ذلك ممن يضحك ملايين الناس».
فقال ملك المضحكين وهو يحدق إلى أبو الهول وكان قد أطل عليه: «إننى أضحك الناس لكى أدخل السرور إلى قلوبهم فأنسيهم ما قد يكون فيها من حزن وترح.. أما أنا فقد ولدت فى شقاء، وترعرعت فى شقاء، وبلغت سن الشباب والشقاء ملازما لى فصار الحزن شطرًا منى وأصبحت الكآبة جزءًا من أخلاقى، ولكن أخبرنى هل تصل الجمال إلى أبو الهول».
فقلت: إنها تصل إلى مكان قريب منه ثم تترجلون وتطوفون حوله مشيا.. وقد كان أبوالهول مطمورا فى الرمل تقريبًا، ولكنهم أزالوا الرمال عنه منذ بضع سنوات فبدا كما ترونه الآن، وأثار تنظيفه ضجة عظيمة فى الصحف يومئذ فبعضها استنكر من هذا الأثر التاريخى الخالد والبعض أيد فكرة تنظيفه.

سر نجاحه
ولما لم يسأل سؤالًا آخر قلت له: «وإلى أى شىء تعزون نجاحكم العظيم يا مستر شبلن؟
فقال: «أأنت صحافى؟».
قلت: «نعم».
قال: «يا الله كنت بدأت أشعر بذلك وعلى كل حال أنتم أحسن جدا فى مصر من صحفى أمريكا، وقد وجدت فى زملائكم المصريين اليوم أدبًا وظرفا كان لهما أعظم وقع فى نفسى».
فقلت: «شكرًا، ولكن إلى أى شىء تعزون نجاحكم»؟.
فالتفت إلى شقيقه سدنى وقال له: «قل يا سد».
فقال سد «بل قل أنت فهل اعتراك الحياء الآن؟».
فابتسم شارلى لأول مرة منذ ما شرع فى حديثه وقال: «إنى أعزو ذلك إلى ثلاثة عوامل ..».
وكان يقصد بذلك، نجاحه العظيم.
ومضى فى حديثه فقال: إنى ابن الشعب وقد ولدت فى وسط الشعب ونشأت فى وسط الشعب مارست أخلاق الشعب وطبائعه. وخبرت مصاعب الشعب وأحزانه، فكان دأبى فى كل رواية أخرجتها أن أمثل فصلًا من فصول الحياة، ولذلك كل الناس عندما يتفرجون على رواياتى لا يرون فيها شيئًا مضحكًا، أو بعيد الاحتمال ولكنهم كانوا يرون فيها دائمًا ما تراه فى حياتنا كل يوم، أما ضحكهم فلم ينجم قط عن حركات وإشارات كنت أحاول أن أضحكهم بها. ولكننى كنت أوقع نفسى فى مأزق ومراكز حرجة ثم أحاول أن أتخلص منها فأتخبط فى سلسلة من المحاولات الفاشلة فأثير عطفهم علىّ فيضحكون».
فقلت : «هذا عامل والعاملان الآخران».
فقال: «كلا... لقد مزجت العوامل الثلاثة معًا».
فقلت: وحذاؤكم التاريخى.. وعصاكم الخيزرانية التقليدية.
فقال: «هما أبرز ما فى تمثيلى مع فعلى ولكننى كنت أتكلم التقليدية... عن روح رواياتى لأنه سر نجاحها.

شارلى ونابليون
وكانت الجمال قد وصلت إلى أبو الهول فترجل شارلى وعاد الناس فأحاطوا به، فتركته وإياهم يحادثهم ويتصور معهم، ثم أراد أن تؤخذ صورة له بالطربوش فناوله أحدهم طربوشه فوجده صغيرا فأعطيته طربوشى فتصور به ثم أعاده إلى.
وبعدما طاف أرجاء أبو الهول وأصغى إلى البيانات التى أدليت بها إليه عنه وعن الأهرام، عاد فامتطى جمله فعرض عليه أحد المصورين أن يصوره وحده أمام أبو الهول فأجابه إلى طلبه ووضع يده على جنبه الأيمن ثم قال: «هكذا، مثل نابليون».
ولما انتهت الصورة واستأنف شارلى سیره لحقت به بجملی وقلت له: وعلى ذكر نابليون أصحيح أنكم تنوون إخراج رواية عنه؟.
فقال: «لقد فكرت فى ذلك غير مرة ولا أزال أفكر فيه... غير أننى أتردد فى إخراج الفكرة إلى حيز الوجود إذ ليس من السهل تحقيقها».
ثم سألنى فجأة: كم يساوى ثمن طربوش كالطربوش الذى تلبسونه؟
فقلت: «نصف جنيه».
رأيه فى الطربوش
فقال: «إنه شعار جميل جدا للرأس».
قلت: «قامت حركة فى مصر من بضع سنوات لاستبدال الطربوش بالقبعة ولكنها لم تنجح».
فقال: «من حسن الحظ».
فقلت: «أتقولون من حسن الحظ لأن منظر الطربوش يعجبكم كسائح أم لأنكم تجدون شكله ظريفًا حقيقة؟..».
فقال: «أؤكد لكم أن شكله ظريف جدًا وإذا نظرنا إليه من هذه الناحية لا نجد محلا للمقارنة بينه وبين القبعة».
الحجاب الشفاف
وهنا مرت بنا آنسة وطنية سافرة فقلت لشارلى: «هذه آنسة مصرية ولكنها سافرة وقد طرحت الكثيرات الحجاب جانبًا.. فقال: «إننى أعتقد أن الحجاب الرقيق الذى يغطى جزءا من الأنف والفم بدون أن يحجبهما يزيد منظر المرأة رونقا وجمالًا، وهو يشبه كثيرًا «الفوال» الذى ابتدعته موضة باريس، فلماذا تطرح المرأة المصرية اليوم ما تنادى باريس به وتراه جميلا للمرأة؟».

رقة عواطفه
وهنا أقبل على شارلى ضابط إنجليزى بلباسه الملكى وقد امتطى صهوة جواده وحياه وبدأ يحادثه فقطع علينا حديثنا والتفت إلى عبد القادر الجمال وقال: «إلا ده ما نقدرشى نزنق عليه وابتعد بجمله عن جواده».
ولما وصل الممثل الكبير إلى هرم خوفو عرض عليه عربى أن يصعد إلى قمته ثم ينزل منه فى خلال ست دقائق فالتفت إلى شقيقه وقال له: «سد! هل عندنا وقت لرؤية هذه الأعجوبة؟ فقال سدنى: «نخصم الدقائق الست من وقت الشاى فقال شارلى للعربى: «أفعل» فأسرع إلى الهرم وأخذ يتسلقه كالغزال وشارلى ينظر إليه بعين الدهشة والإعجاب وقال أحدهم: «إنه أبرع من دوجلاس فيربكس فضحك شارلى وقال: «أظن ذلك».
ولما ترجل شارلى عن جمله وهم بركوب سيارته سرح طرفه فى الأهرام الثلاثة وقال: «الوداع يا أهرام!.. الوداع يا مصر ......».





