الصمت فى عصر الصخب.. عندما يصبح الانعزال رفاهية
فى عالم لا يهدأ، حيث التنبيهات والإشعارات والرسائل لا تتوقف على مدار اليوم، يبدو الصمت ترفًا غير متاح للجميع. الهاتف لا يكفّ عن الرنين، والأخبار تتساقط علينا كشلالات من الحمم، فيما أصبح البقاء دائمًا فى حالة «متصل» جزءًا من تعريف النجاح الاجتماعى والمهنى. لكن، هل يمكن أن تكون أعظم رفاهية فى عصرنا هو أن نكون غير متاحين؟
الفيلسوف الفرنسى بليز باسكال قال قبل أكثر من ثلاثة قرون «إن مصدر تعاسة الإنسان هو عجزه عن الجلوس وحيدًا فى غرفة صامتًا». اليوم، تؤكّد الدراسات هذا المعنى: فى تجربة بجامعتى هارفارد وفيرجينيا، وُضع متطوعون فى غرفة بلا هواتف أو كتب أو موسيقى، فقط مع أفكارهم. خلال دقائق، اعترف كثيرون بأنهم غير قادرين على الاحتمال. بعضهم فضّل أن يضغط زرًّا يمنحه صدمة كهربائية مؤلمة على أن يواصل الجلوس فى صمت.
تراوحت أعمار المشاركين بين الثامنة عشرة والسبعة والسبعين عامًا، وجاءوا من خلفيات اجتماعية متنوعة، لكن النتيجة كانت واحدة تقريبًا: معظمهم شعر بعدم الارتياح، وأكدوا أن التركيز خلال هذه الدقائق القصيرة من العزلة كان صعبًا جدًا، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لأى مقاطعة.
الصمت إذن ليس مجرد غياب الصوت، إنما مواجهة. مواجهة مع الذات، مع الفراغ، مع المخاوف الصغيرة التى نخبئها وراء ضجيج الحياة، لذلك حين نجرّب أن نغلق الهاتف أو نبتعد عن الإنترنت، نشعر بالقلق أولًا، ثم بالانكشاف، ثم— لو منحنا التجربة وقتها— بالصفاء والهدوء والسلام النفسى.
هذه الأفكار ناقشها الكاتب والمستكشف النرويجى إيرلينج كيج فى كتابه «الصمت فى عصر الضجيج»، والذى يوضح كيف أصبح «الصمت» وأن تصبح «غير متاح» شكلًا جديدًا من أشكال الترف والرفاهية فى عالمنا الحالى.
الكتاب صدر لأول مرة بالنرويجية عام ٢٠١٦، ثم تُرجم إلى الإنجليزية بعدها بعام عن دار Pantheon Books بنيويورك، وصدر حديثًا باللغة العربية تحت عنوان «الصمت فى عصر الصخب» فى ١٢٥ صفحة عن منشورات نادى الكتاب، وترجمه الكاتب اليمنى عبدالوهاب المقالح.

الصمت بوابة الاكتشاف
تأتى أهمية الكتاب من كونه تجربة ذاتية ممزوجة برؤية فلسفية تحليلية لماهية الصمت. فقد وضع «كيج» فيه خلاصة تجاربه، أبرزها رحلة إلى القطب الجنوبى استغرقت خمسين يومًا بمفرده، من دون أى وسيلة اتصال. ما جعله يتوصل لإجابات ثلاثة أسئلة لطالما شغلته؛ ما هو الصمت؟ أين يمكن أن يوجد؟ ولماذا مهم الآن أكثر من أى وقت مضى؟. ويجيب عنها فى كتابه عبر ثلاثة وثلاثين فصلًا.
يحكى فى مقدمة كتابه عن رحلته المذكورة سابقًا للقطب الجنوبى: سرت وحيدًا، وفى ذلك الامتداد الشاسع الرتيب لم يكن هناك أى صوت بشرى سوى الأصوات التى أحدثها أنا. وحدى فوق الجليد، فى قلب هذا العدم الأبيض العظيم، كنت أسمع الصمت وأحسه معًا. فى البيت دائمًا هناك سيارة عابرة، هاتف يرن، أصوات بشرية: همس وصياح. ضوضاء مستمرة. لكن هناك كان الأمر مختلفًا. الطبيعة خاطبتنى فى هيئة الصمت. وكلما ازددت صمتًا، سمعت أكثر.
ويستكمل: التصق بى الصمت. بلا أى اتصال مع العالم الخارجى، معزولًا ووحيدًا، وجدت نفسى مضطرًا لمواجهة أفكارى، وما هو أسوأ: مشاعرى.
بقراءة هذا الكتاب، نكتشف أن نصمت لا يعنى أن ندير ظهورنا للعالم ونتجاهله، بل أن نقترب منه أكثر ونراه بوضوح، وأن نتعرف على أنفسنا أكثر ونواجه مشاعرنا وأفكارنا التى نتهرب منها باستمرار، خاصة أننا لا نحتاج إلى السفر بعيدًا مثل «كيج» كى نكتشف دواخلنا. فهو يؤكد أننا لا يمكنننا أن تنتظر حتى يعمّ الصمت بل يجب أن نخلق صمتنا بأنفسنا؛ المرء يمكنه أن يجد صمته الداخلى أثناء الوقوف تحت الدش، أثناء السباحة، أثناء الطعام، أو حتى بداخل السيارة أو أثناء السير ونحن فى طريقنا للعمل. كلها يمكن أن تكون تجارب صمت تام.
ويلفت «كيج» إلى أن الصمت فى حد ذاته ثراء. فهو مفتاح لطرق جديدة للتفكير. إنه ليس تخليًا أو تأملًا أو شيئًا روحانيًا، بل انعكاس لحاجة إنسانية عميقة، وشكل أعمق لاختبار الحياة بدلًا من مجرد تشغيل التلفاز لمشاهدة الأخبار، أو التصفح على الإنترنت بلا هدف.

رفاهية أن نصمت: عن العزلة وماتبقى لنا هدوء
يؤكد الكتاب حاجتنا إلى الابتعاد قليلًا عن الهواتف، وترك مسافة تذكّرنا بأننا بشر قبل أن نكون مستخدمين دائمين لشبكة عنكبوتية لا تهدأ. ويصف هذا الترف الجديد المتنامى: أن تصمت ويصمت العالم من حولك، فلا يقطعه صوت رسالة ولا بوق سيارة. يقول «كيج»: «أنا محظوظ بقدرتى على التحديق فى السماء ليلًا دون إزعاج الضوء الصناعى. فالنجوم لا تُرى إذا أُضيئت المصابيح. من السهل نسيان أن هذا الصمت البصرى فى معظم أنحاء العالم شىء نادر. ترف. وهذا أمر مؤسف. فأن تكون قادرًا على التأمل فى سماء مليئة بالنجوم هو واحد من أكثر الأشياء المجزية التى أعرفها».
يضيف: «أؤمن أن الصمت هو الرفاهية الجديدة. الصمت أكثر حصرية وأطول عمرًا من غيره من مظاهر الرفاهية. إحدى بناتى لخّصت الأمر بعبارة أسعدتنى خلال عطلتها الصيفية: الصمت هو الحاجة الوحيدة التى لن يظفر بها الباحثون عن آخر صيحات الرفاهية».
شكل آخر من أشكال الرفاهية ذكرها «كيج» وهى أن تكون غير متاح. «أن تدير ظهرك للضجيج اليومى هو امتياز بحد ذاته، أن تترك المهام لغيرك فى غيابك، أن تختار ألا ترد على الرسائل النصية أو لا ترفع الهاتف حين يرن، أن تترك توقعات الزملاء أو المعارف أو حتى أفراد العائلة—التى لا تعنيك كثيرًا— لشخص آخر، أو أن تتجاهلها تمامًا، كل ذلك دون أن ينتابك أى شعور بالقلق أو الذنب.
قليل من الناس يمكنهم أن يتجنبوا الضوضاء تمامًا. نحن نتعلم التعايش مع الإزعاج لأننا نظن أننا مضطرون لذلك، ولكنه يقلل من جودة حياتنا، لذا ثروتك هى أن تكوّن جزيرة بداخل نفسك تحملها معك فى كل وقت.
لماذا نخاف الصمت؟
يذكر «كيج» أنه تواصل مع الكاتب المسرحى النرويجى يون فوسه، وفى محادثة بينهما أخبره الأخير: «الكلام هو بالضبط ما يجب أن يفعله الصمت. أن يتحدث، وأن نتحاور معه، لنطلق الإمكانات الكامنة فيه. وربما لأن الصمت يقترن بالدهشة، فإنه يحمل أيضًا شيئًا من الجلال، أجل.. جلال يشبه المحيط، أو امتدادًا لا نهائيًا من الثلوج. ومن لا يقف مشدوهًا أمام هذا الجلال، يشعر بالخوف منه. ولعل ذلك يفسّر لماذا يخاف كثيرون من الصمت».
الخوف من أن يفوتك شئ
واستكمالًا للمخاوف التى تراودنا فيما يخص الصمت، يطرح «كيج» تساؤلًا حول سبب عدم قدرتنا على الابتعاد قليلًا عن الشاشات والهواتف، ويشرح أن كلما غرقنا أكثر فى المثيرات، ازداد بحثنا عن مشتتات جديدة، فنقع فيما يُعرف بـ«حلقة الدوبامين». هذا ما يجعلنا نرغب ونسعى بلا توقف، فنعود مرارًا إلى محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعى. غير أن الدوبامين لا يمنحنا شعورًا بالامتلاء أبدًا؛ حتى بعد أن نحصل على ما نريد، نظل عالقين فى دوامة، ويصير الاستمرار فى التصفح أسهل بكثير من التوقف.
ويذكر أن النموذج الأساسى الذى بُنيت عليه تطبيقات التواصل الاجتماعى قائم على زرع رغبة دائمة بداخلنا لاستخدامها، وأن نخاف من أن يفوتنا شىء أو أن نُضيّع لحظة ما، وهو مصطلح عالمى يُعرف بـ«FOMO» أو «Fear of missing out» أى الخوف المزمن من الفقدان.

الحق فى الانفصال الرقمى
الفكرة السابقة ذكرتنى بحركة اجتماعية مضادة برزت قبل بضع سنوات تُعرف باسم «JOMO» أى «Joy of missing out» وتعنى «لذة الغياب». لا ترى هذه الحركة أن فى الانسحاب خسارة، بل كفعلٍ واعٍ يمنح الفرد متعة التحرر من الضجيج الرقمى والاجتماعى، وإعادة اكتشاف البساطة: نزهة بلا هاتف، مساء هادئ بلا إشعارات، أو حتى جلسة صمت تمنح الذهن فسحة للتأمل. بهذا المعنى، يصبح الغياب هنا ليس انعزالًا سلبيًا، بل اختيار يمنح صاحبه حضورًا أعمق وتواصلًا مع ذاته ومع العالم.
هناك مصطلحات مشابهة ظهرت حول العالم مثل مصطلح «الحق فى الصمت» و «الحق فى أن تكون غير متصل»، وتُستخدم كحقوق إنسانية، ليست مرتبطة بالعمل فحسب بل بالوجود.
فى عام ٢٠١٧، ظهر قانون فى فرنسا يسمى «الحق فى الانفصال الرقمى»، لمنح الموظفين الحق فى تجاهل رسائل البريد الإلكترونى والرسائل الخاصة بالعمل بعد ساعات الدوام. وأقرته دول عديدة بعد ذلك مثل كندا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.
مقالات عديدة نُشرت أيضًا تطالب بحق «العيش بلا إشعارات»، وتعتبر القدرة على تجاهل الهاتف رفاهية لا بد من تحقيقها، ما يطرح الحاجة لاعتبار الصمت واللااتصال حقوقًا إنسانية متساوية للجميع.
ضجيج المدن وحلم الصمت المفقود
يرى المؤلف أننا نعيش فى «عصر الضوضاء»، وأن الصمت يكاد ينقرض. وهو ما تؤكده بالفعل إحصائيات التلوث الضوضائى حول العالم.
تشير الدراسات إلى أن التلوث الضوضائى يمثل مشكلة كبيرة تؤثر على صحة الإنسان ورفاهيته فى المناطق الحضرية، فمع الزيادة السكانية والتوسع العمرانى، يزداد التعرض لمستويات ضوضاء مرتفعة ناتجة عن حركة المرور، والمنشآت الصناعية، وأنشطة البناء، وغيرها، ما يؤدى إلى مشاكل صحية مثل اضطرابات النوم، ارتفاع ضغط الدم، وضعف السمع، بالإضافة إلى التأثير على القدرات السمعية والعقلية بشكل عام.
وبحسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة؛ تعيش نصف البشرية تقريبًا - أى ٣.٥ مليار نسمة- فى وقتنا الراهن فى المدن، ومتوقع زيادة عددهم إلى ٥ مليارات نسمة «أى بنسبة ٧٠٪» مع حلول عام ٢٠٣٠، ما يزيد المشكلة تفاقمًا.
وفى مصر، لا توجد أرقام واضحة لمستوى التلوث الضوضائى، لكن تشير الدراسات بشكل عام إلى أن القاهرة والجيزة هما الأعلى من حيث معدلات الضوضاء، ووصلت المعدلات إلى ٨٠-٩٠ ديسيبل فى حين أن المعدل الطبيعى المعترف به عالميًا حوالى ٧٠ ديسيبل. وهو ما يشبه قضاء يوم كامل فى مصنع!
ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية والوكالة الأوروبية للبيئة، تعد الضوضاء البيئية ثانى أكبر مسبب بيئى للمشاكل الصحية بعد تلوث الهواء فى العالم. وهو ما يجعل «الصمت» ضرورة مُلحة، وتتزايد أهميته يومًا بعد يوم
الله هو الصمت
من أبرز الأفكار التى طرحها المستكشف النرويجى فى كتابه هى رؤيته الروحانية للصمت، فيقول: عيسى وبوذا لجآ إلى الصمت ليفهما كيف ينبغى أن يعيشا: عيسى إلى البرية، وبوذا إلى الجبل والنهر. فى الصمت، كرّس عيسى نفسه لله. أما النهر، فقد علّم بوذا كيف يسمع، وكيف يصغى بقلب هادئ وعقل منفتح.
وبرغم أن الآلهة ظهرت فى بعض الأديان كصوت رعد أو كعاصفة. لكن يشير «كيج» إلى أنه فى الكتاب المقدس، غالبًا ما يكون الله هو الصمت. وفى «سفر الملوك»، يُروى كيف تجلّى الله لإيلياس: أولًا جاء الإعصار، ثم زلزال، ثم نار. لكن الله لم يكن فى أى منها، إنما جاء لاحقًا فى صوت هادئ. الله فى الصمت.
يواصل الكاتب تأملاته: هناك قصة مشابهة فى الفلسفة الهندوسية، ويمكن أن تكون من البوذية أيضًا، تتحدث عن طالب سأل معلمه أن يشرح له «براهمان» أو روح العالم. وعندما سمع المعلم السؤال، ظل صامتًا. كرر الطالب السؤال مرتين أو ثلاثًا، ولم يتلقّ أى ردّ. أخيرًا، فتح المعلم فمه وقال: «لقد كنت أعلّمك الآن، لكنك لا تنصت». والإجابة بالطبع كانت: الصمت.
صمت ليس دائمًا
ما يميز الكتاب، هو التوازن الموجود به، فالكاتب لا ينتصر للصمت بشكل مطلق، إنما يعترف بأهمية التواصل، فيقول على سبيل المثال: «الإنسان كائن اجتماعى. وأن تكون متاحًا هو أمر جيد. نحن لا نستطيع أن نعمل بمفردنا. ومع ذلك، من المهم أن تكون قادرًا على إطفاء هاتفك، وأن تجلس، وألا تقول شيئًا، وأن تغلق عينيك، وتتنفس بعمق مرتين أو ثلاثًا، وتحاول أن تفكر فى شىء آخر غير ما اعتدت التفكير فيه».
وفى النهاية يصف «كيج» متعة الاكتشاف بعد الصمت، تدريجيًا ستكتشف وجوهًا أخرى من نفسك. بأن تجد طريقك الخاص. ويختتم: «اضطررت إلى الذهاب بعيدًا جدًا كى أكتشف كل هذا، لكننى أعرف الآن أنه من الممكن بلوغ الصمت فى أى مكان. الأمر لا يتطلب إلا أن تستوعب ما فى داخل نفسك قليلًا. وعليك أن تجد قطبك الجنوبى الخاص».