السبت 23 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

اعترافات صهيونى تائب.. جابور ماتيه: الصهيونية تؤمن بأن الفلسطينيين «أقل من بشر»

جابور ماتيه
جابور ماتيه

- إنكار أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض ضرورى لتحقيق «الحلم الصهيونى»

- إسرائيل فى 67 روجت لفكرة «العرب يحتشدون لتدميرنا» رغم أنها من بدأت الحرب 

فى عالم يزداد تعقيدًا، تكثر الأسئلة حول العدالة والانتماء وحقوق الإنسان، وتبرز أسماء قليلة بقدرة استثنائية على مواجهة هذه التحديات بالفكر والعمل، ومن بينها: مارثا نوسباوم «Martha Nussbaum»، التى تعد واحدة من أكثر المفكرين تأثيرًا فى عصرنا، بفضل عمقها الفلسفى والتزامها الأخلاقى. هى فيلسوفة أمريكية جمعت بين الحجة المنطقية والحساسية الإنسانية، وكرست مسيرتها لاستكشاف مفاهيم مثل: العدالة الاجتماعية، وكرامة الإنسان، وحقوق المهمشين من أول النساء وذوى الإعاقة حتى الحيوانات، واشتهرت بتطويرها «مقاربة القدرات»، كإطار فلسفى يُعيد تعريف معنى العيش بحياة إنسانية كاملة، مع التركيز على ما يستطيع الأفراد أن يكونوه ويفعلوه، وليس فقط على الموارد المادية. 

لكن مارثا نوسباوم لا تقبع فى أبراج التأمل النظرى؛ فهى تنطلق من الأدب والفنون القديمة والقانون لتسلط الضوء على قضايا راهنة، من أول «الهشاشة الإنسانية» إلى احتياجات الشعوب فى عالمنا المعاصر. فى حوارها مع «حرف»، نغوص فى عالم «مارثا» الفكرى، ونسألها عن دور الفلسفة فى زمن الأزمات، والعلاقة بين الحب والعدالة، وحقوق الحيوانات، وإمكانية بناء مستقبل أكثر إنسانية. 

استضاف الصحفى والمنتج أحمد شهاب الدين، فى أحدث حلقات برنامج البودكاست «Out Loud with Ahmed Eldin»، الدكتور جابور ماتيه، الطبيب الكندى والخبير العالمى فى الصدمات النفسية، الناجى من «الهولوكوست». 

وتحدث «ماتيه»، خلال استضافته فى البرنامج، عن رؤيته الجريئة لما يجرى فى قطاع غزة، وجذور العنف وتأثير الصدمات الجماعية التى تدفع الإسرائيليين إلى ارتكاب فظائع غير مسبوقة ضد مدنيين أبرياء، متطرقًا فى هذا الصدد إلى تأثير المحرقة النازية على السلوك الإسرائيلى حتى هذه اللحظة.

واستعرض الناجى من «الهولوكوست» ملامح التواطؤ الدولى تجاه معاناة المدنيين الفلسطينيين، وكيف أن «الإمبريالية» مسئولة مسئولية مباشرة عما يحدث فى غزة، دون اقتصار الأمر على إسرائيل وحدها.

■ كنت من اتباع الحركة الصهيونية وفجأة أصبحت ضدها.. ما الأسباب واللحظة التى كفرت فيها بالصهيونية؟

- الصهيونية كأى أيديولوجيا تنطلق من عدة فرضيات وفهم معين للعالم. فى منتصف يوليو كنت فى أوشفيتز، المكان الذى نزل فيه أجدادى من القطار ليُنقلوا إلى غرف الغاز، وكنت آنذاك رضيعًا مع أمى فى عام ١٩٤٤. من هذه الخلفية من المعاناة والاضطهاد، بدا لى، فى مرحلة معينة من حياتى، أن من المنطقى أن تكون لنا دولة يهودية نحمى فيها أنفسنا، دولة ذات حدود وجيش وثقافة خاصة حتى لا يتكرر هذا الاضطهاد مرة أخرى. هذا ما كانت الصهيونية تُقدّمه فى فترة معينة، وكان من الطبيعى أن نصدق هذا الهدف حتى بدافع عاطفى، بعد تلك التجربة القاسية فى زمن النازية.

لكن كمعظم الأيديولوجيات، تستبعد الصهيونية بعض الحقائق التى لا تتناسب مع أهدافها. أكبر ما تستبعده الصهيونية هو الاعتراف بأن هناك شعبًا يعيش فى فلسطين، هم أصحاب الأرض، ويرجع أصل بعضهم إلى فلسطين القديمة، أى أنهم شعب كان موجودًا بالفعل ويعيش على تلك الأرض. لكن لتحقيق الحلم الصهيونى كان لا بد من إنكار وجود هذا الشعب. وعندما اكتشفت هذا الإنكار والكذب تخليت عن الصهيونية.

حدث هذا التخلى بشكل تدريجى، بدأ مع حرب عام ١٩٦٧ بالتحديد، فعندما بحثت فى تاريخ هذه الحرب تبيّن لى كذب الرواية الإسرائيلية بالكامل. كانت إسرائيل تروج لفكرة أن الجيوش العربية احتشدت لتدميرها، بينما العكس هو ما حدث بالفعل، إسرائيل هى من بدأت الحرب. فى تلك السنة، كتبت مقالًا قلت فيه: «إسرائيل شنت هذه الحرب للاستيلاء على أرض لن تُعيدها أبدًا». كان المقال أشبه بنبوءة لما يحدث حتى الآن، وقد طردنى أبى بسببه من البيت حينها.

■ هل أصبت بخيبة أمل أو صدمة فى هويتك كيهودى؟

- لا يهمنى إن أُصبتُ بخيبة أمل، فلم تكن تلك المرة الأولى. أنا نشأت فى صربيا والمجر، وأنقذ السوفييت حياتى، وعشت فى ظل الشيوعية وآمنت بمبادئها من العدل والمساواة، ثم اتضح أيضًا أن كلها كانت أكاذيب، فقد سادت الدول الشيوعية ديكتاتورية وحشية، ولم يكن بإمكان والدى حينها التحدث بهذا. وعندما اندلعت ثورة ١٩٥٦ ضد الشيوعية والحكم السوفيتى على يد الجيش السوفيتى، اتضح أن الجيش الذى أنقذ حياتى كان عكس كل ما رُوّج عن نفسه، وتلك كانت خيبة أمل أيضًا.

ثم خيبة الأمل عندما أتينا إلى الغرب الذى رَوّج لديمقراطيته. وأمريكا المفترض أنها الدولة المدافعة عن الحرية حتى اندلعت حرب فيتنام. رأيت كيف أن هذه الديمقراطية الحرة تذبح الملايين من الآسيويين، والصحافة حينها كذبت فى كل ما كُتب عن هذا، لتُضاف خيبة أمل أخرى. من هنا بدأتُ بالتخلى عن كل المعتقدات والأيديولوجيات التى تبين أنها كاذبة وخاطئة، وأدركت أن هذا التخلى يُعتبر نوعًا من التحرر.

■ ماذا تقصد بفكرة أن «الصدمة هى ما يغذى العنف»، وأن هذا ما يحدث للفلسطينيين الآن؟

- بالتأكيد، الصدمة التى تعرض لها اليهود من الناحية النفسية تفسّر ما يفعله الكثيرون منهم فى الفلسطينيين الآن. لكن من ناحية أخرى، وهو الأهم، فإن أى نظام استعمارى، سواء بريطانى أو أمريكى، حيث تأسست الدولة على استعباد وإبادة السكان الأصليين، أو غيره من الأنظمة الاستعمارية، كلها تتصرف بالطريقة نفسها. وبما أن إسرائيل مؤسسة استعمارية فلم يكن ممكنًا إقامة دولة يهودية فى فلسطين دون الدخول بقوة الإمبراطورية البريطانية.

بهذا، فإن موضوع الصدمة اليهودية يُضفى على هذا الاستعمار وما يحدث صبغة عاطفية. وهو أيضًا استعمار كلاسيكى فى الوقت نفسه، يعتبر السكان الأصليين مصدر إزعاج يجب التخلّص منهم. وأذكر هنا مقولة جابوتنسكى، أول رئيس وزراء إسرائيلى، عندما قال صراحة: «بإمكاننا الادعاء بأن الفلسطينيين العرب إرهابيون، لكنهم فى الحقيقة مواطنون يدافعون عن أراضيهم، ونحن المعتدون».

■ لماذا تعتقد أن القادة الإسرائيليين ملتزمون بهذا القدر من العنف، قتل وتجويع وإطلاق نار على جوعى يحاولون الحصول على طعام، وغيرها من الفظائع؟

- من البداية، لم يكن هدف «هتلر» قتل كل اليهود، بل أراد التخلّص منهم فقط. وكانت الخطة الأصلية إرسالهم إلى مدغشقر أو أى دولة فى العالم الثالث، وبعدها تغير مسار الخطة الأصلية. لذا، فإن ما يحدث فى المجتمع هو أنه بمجرد دخولك فى دائرة العنف يصبح قلبك أقسى وأقسى وأقسى مما تتخيل، وينتهى بك الأمر إلى قتل الأطفال والتجويع وكل هذه الفظائع.

هذا ما يحدث فى المجتمع الإسرائيلى الآن، وهو الشىء نفسه الذى حدث فى المجتمعات الاستعمارية التى تؤمن بأنه من أجل الحفاظ على سلطتك، عليك تجريد الآخرين من إنسانيتهم، وعندها تجرد نفسك من صفتك الإنسانية. الصهيونية تهدف إلى نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين للسيطرة عليهم وطردهم. ولكى يستطيعوا طردهم لا بد أن يجعلوهم «أقل من بشر». ما يحدث الآن من عنف هو نتيجة حتمية لإزالة صفة الإنسانية، وهى حالة تزداد سوءًا.

مؤخرًا، فى مشاهد قتل الفلسطينيين فى مراكز توزيع الطعام، نرى ما يشبه تمامًا ما حدث فى جيتو وارسو، عندما أراد الألمان جمع الناس فى أوشاك بلانس، فعرضوا عليهم الخبز والمربى لدفعهم إلى استقلال القطار الذى سيأخذهم إلى معسكرات الموت. ما يحدث متطابق تمامًا بنفس الأسلوب: يقدمون للناس الطعام ليقتلوهم.

■ لماذا يصمت العالم على ما يحدث.. هل مثلًا يؤمنون بمسألة الصدمة النفسية؟

- أنا أحذّر من تفسير ما يحدث على أنه صدمة نفسية، فما يحدث من صمت عالمى على هذه المجازر اليومية منذ عامين هو بسبب الاستعمار، العامل الإمبريالى. لا يقتصر الأمر على إسرائيل فقط، فهى ليست سوى حشرة صغيرة. وعندما يصدر صوت يندد بفظائع إسرائيل تجاه الفلسطينيين مثل فرانشيسكا ألبانيز، يتهمونه بـ«معاداة السامية»، رغم أن هذه التهمة من أمريكا ليست سوى ذريعة، فالأمريكيون لا يهتمون فعليًا بـ«معاداة السامية» أو غيرها، ما يهمهم هو السيطرة على العالم. وشخصية كفرانشيسكا ألبانيز تُعاقب الآن لأنها تمثل تهديدًا لتلك الإمبريالية.

■ الحديث العبثى لوسائل الإعلام الأمريكية، خاصة «نيويورك تايمز»، عن «السلام الدائم فى الشرق الأوسط»، وسط الإبادة الجماعية للفلسطينيين التى تحدث منذ عامين دون محاسبة إسرائيل.. ألا يُعد استمرارًا للاستعمار والهيمنة؟

- لا يمكنك أن تكون رئيس تحرير «نيويورك تايمز» دون أن تكون أعمى. فمثلًا، كريس هيدجز، الذى كان رئيس مكتب «نيويورك تايمز» للشرق الأوسط، اضطر للاستقالة عندما كان ينقل الحقيقة ولم يعجب ذلك رؤساءه. الناس فى هذه المناصب لا يجب أن يكونوا أذكياء، وإن كانوا، فلا بد أن يكونوا عميانًا، سواء بوعى منهم أو دون وعى، فهؤلاء لديهم عائلات وأعمال لا بد أن يحافظوا عليها.

إذا نظرنا إلى «نيويورك تايمز»، فكم من مرة أضافت الطابع الإنسانى على الرهائن الإسرائيليين وسردت قصصهم وخلفياتهم، بينما نادرًا ما ذكرت الفلسطينيين حتى فى ذروة العنف. فبينما تجوب صور الأطفال القتلى والجوعى العالم، لم تذكرهم الصحيفة، بل نشرت مقالًا عن مزرعة «الكافيار» فى إسرائيل. مثل هذا العمل بالفعل يتطلب عمًى وانقطاعًا كليًا عن الحقيقة.

قديمًا، كتب ألبرت شبير، وزير اقتصاد هتلر ومهندس معمارى ومجرم حرب نازى، فى سيرته الذاتية: «يسأل الناس باستمرار عما كنتُ أعرفه آنذاك. وهذا ليس السؤال الصحيح. السؤال هو: ما الذى كان بإمكانى معرفته لو أردت؟»، فقد كان بإمكانه معرفة كل شىء، واختار عمدًا ألا يعرف.

هذه ألمانيا النازية، حيث لم تكن هناك وسائل إعلام اجتماعية أو بديلة تمكّنك من معرفة الحقيقة. لكن الآن، لدى الجميع كل الفرص لمعرفة ما يحدث. لكن من هم فى المناصب الإعلامية الكبرى، فى أمريكا خاصة، يختارون ألا يعرفوا. وهذا لا يحيرنى، فهم ملتزمون بأى شىء آخر غير قول الحقيقة.

■ كيف نحافظ على ما تبقّى من إنسانيتنا ومستقبلنا فى ظل واقع صارت فيه الإبادة الجماعية نموذجًا تجاريًا مكشوفًا.. هل لديك أمل فى الحفاظ على بقية مما كان يُروّج له الغرب من أخلاقيات وغيرها؟

- أولًا، لا يحدث شىء جديد. فـ«شركة الهند الشرقية» وشركة «خليج هدسون» فى كندا، و«الهند الشرقية الهولندية» و«رويال داتش شل»، كل هذه الشركات الضخمة لم تقم يومًا إلا على الاستغلال القاسى للموارد الطبيعية، وقتل السكان الأصليين أو قمعهم. هذا ليس جديدًا. وقد قُدمت الحجة بأن مجد الرأسمالية بُنى على ١٠٠ محرقة، وهناك كتاب يحمل العنوان ذاته «١٠٠ محرقة»، فهذا ليس جديدًا، هو نظام قائم على قواعد.

عندما خرجتُ من لدى السوفيت، وجدت أن كل ما قالوه عن الأمريكيين كان صحيحًا، ووجدت أيضًا أن كل ما قاله الأمريكيون عن السوفيت كان صحيحًا. وكل ما قاله كلاهما عن أنفسهم كان كذبًا محضًا. إذًا، الأمر كله متروك للبشر وحفاظهم على إنسانيتهم.

■ لماذا لا تعمل المحكمة الجنائية الدولية بقوة لملاحقة نتنياهو؟

- المحكمة الجنائية الدولية لا تُلاحق مجرمى الحرب الكبار. فجورج بوش وتونى بلير تحدثا بكذبة عن العراق، لا يمكن لطفل فى الخامسة تصديقها، وعلى إثرها قُتل الآلاف من العراقيين، ولم تُلاحقهما المحكمة أبدًا. هنا السؤال: مَن بالأساس الذى أنشأ هذه المؤسسات؟ ولأى غرض؟ المحكمة الجنائية الدولية لم تفقد سلطتها، فهى بالأساس لا تمتلك أى سلطة.