اعترافات مؤرخ أدبى عالمى.. البروفيسور ديفيد دامروش: الشرق الأوسط أصل الأدب الغربى

- نجيب محفوظ «كاتب عالمى».. ويمكن اعتباره «ابن 3 ثقافات»
- أتمنى إعادة ترجمة كتابى عن «ملحمة جلجامش» فى مصر
- أقرأ من المعاصرين لجوخة الحارثى وريم بسيونى ومصعب أبوتوهة
- لا شىء يضاهى ز يارة سقارة والأقصر والضيافة المصرية تجربة استثنائية
منذ طرح البروفيسور الأمريكى ديفيد دامروش تساؤلاته الثاقبة حول «ما هو الأدب العالمى؟»، بدأنا نرى الأدب أكثر من مجموعة كلمات مُنمَقة، بل نوافذ مفتوحة على عوالم مختلفة تشكل تجربتنا الإنسانية، من خلال كتاباته التى لا تقتصر على تقديم الأفكار، بل تثير الفضول وتدفعنا لتجاوز الحدود الجغرافية والزمانية والثقافية فى سبيل فهم أعمق للإنسانية. من تأثير نجيب محفوظ على الأدب العالمى إلى استكشاف الأبعاد القديمة لـ«ملحمة جلجامش»، يجذبنا «دامروش» إلى عالمٍ أدبى لا يعرف الفواصل بين الشرق والغرب، ويرى فى كل نص شجرةً متجذرة فى تاريخ طويل من التواصل الثقافى.
فى هذا الحوار الخاص مع «حرف»، نغوص فى رؤية المؤرخ الأدبى الشهير، التى تسلط الضوء على الدور الحيوى للترجمة فى صهر هذه الأعمال الأدبية، وتحويلها إلى لغة عالمية تستحق أن تُسمع وتُقرأ فى كل أنحاء العالم.

■ فى كتابك «ما هو الأدب العالمى؟» تطرح فكرة أن الأدب العالمى ليس مجرد مجموعة من النصوص، بل طريقة فى القراءة.. كيف ذلك؟
- غالبًا ما يُنظر إلى الأدب العالمى على أنه مجموعة من الكتب العظيمة، أو العمل الأدبى المنشور بشكل واسع حول العالم. بهذا، فإن رواية جريمة من نوع «الواقعية الأسكندنافية السوداء» أو «Nordic Noir» تصبح عملًا من أعمال الأدب العالمى بمجرد أن تُنشر بعدة لغات، سواء امتلكت أهمية أدبية تضاهى أعمال دانتى أو نجيب محفوظ أم لا.
يمكننا أن نقرأ نجيب محفوظ كروائى مصرى، ونربطه بسياق الأدب المصرى، أو ككاتب عربى ونتأمل كيف تداولته القراءات العربية وفُهِم داخل العالم العربى. لكننا نستطيع أيضًا أن نفهمه ككاتب عالمى، أخذت أعماله أشكالًا جديدة من خلال الترجمة والاستقبال خارج الحدود. هذا امتداد عالمى للتراث الثلاثى الذى أشار إليه «محفوظ» نفسه فى خطابه، عندما تسلم جائزة «نوبل»، بعدما وصف نفسه بأنه ابن لثقافتين: الفرعونية والإسلامية، ثم أضاف ثقافة ثالثة، كما قال لمستمعيه فى ستوكهولم:
«ثم شرِبتُ من رحيق ثقافتكم الغنية الآسرة. ومن وحى كل ذلك، تسللت كلماتى كما ينساب الندى».
■ غلاف الكتاب يحمل صورة لتمثال «أبو الهول».. ما الذى يمثّله هذا الاختيار؟
- بدأ اهتمامى الأول بالأدب المصرى بدراسة اللغة المصرية فى عصر الدولة الوسطى، قبل أن أضمّن كتابى فصلًا عن إعادة اكتشاف الشعر المصرى القديم فى العصر الحديث، واختتمه بتأمل فى الصورة التى وضعتها على الغلاف.
هذه الصورة عبارة عن نقش نُفِّذ فى زمن الحملة الفرنسية القصيرة والمشئومة على مصر، وفيه يظهر ٤ علماء ممن جلبهم «نابليون» مع جيشه، وهم يحاولون قياس تمثال «أبى الهول» وفهم طبيعته وتاريخه، واستخدمتها كرمز للتحدى الذى يواجهنا حين نحاول فهم ثقافة بعيدة الجذور ومغايرة تمامًا.
فالفرنسيون فشلوا فى السيطرة على الثقافة المصرية، التى حاول «نابليون» إعادة تشكيلها على غرار النموذج الفرنسى، بل إنهم لم يحتفظوا حتى بالآثار التى اكتشفوها، إذ استولى عليها البريطانيون المنتصرون، فحصل مثلًا المتحف البريطانى على حجر رشيد. لذا تبدو مقارنة «نابليون» بالإسكندر الأكبر، الذى ظن أنه يسير على خطاه، ضربًا من الغرور الكئيب. ربما كان من الأفضل أن يتخذ الفرنسيون نهجًا أكثر حيادية، بدلًا من محاولة الهيمنة والاستحواذ على إنتاجات الثقافات العالمية. أعضاء «لجنة الفنون والعلوم» التى أنشأها «نابليون» فشلوا فى إدراك المعنى الحقيقى لـ«أبى الهول»، رغم أننا نراهم فى النقش وهم يحاولون حرفيًّا الدخول إلى رأسه!
■ كتبت أن النص يصبح «عالميًا» حين يُعاد تفعيله فى سياقات مختلفة.. كيف ترى هذه العملية فى زمن الترجمة الآلية والعولمة الرقمية؟
- أصبحت الترجمة الآلية أداة مفيدة إلى حدٍّ كبير فى مجال البحث الأكاديمى. لكنها تفقد قيمتها فى الترجمة الأدبية، التى تتطلب دومًا قدرًا من التأويل وحسًّا أدبيًا حقيقيًا. كما أن العولمة الرقمية تترك أثرًا بالغًا، أحيانًا سلبيًا، حين تدفع «الخوارزميات» بالمحتويات الشائعة إلى الواجهة وتُخفى غيرها، وأحيانًا أخرى إيجابيًا، كما هو الحال مع مواقع تتيح للقراء فى أنحاء العالم فرصة التعرف على أعمال جديدة، مثل «Words Without Borders».

■ خصصتَ كتابًا كاملًا لـ«ملحمة جلجامش».. وعُدت إليها فى أكثر من عمل لاحق.. ما الذى يجعل هذه الملحمة تفرض حضورها المتكرر فى كتاباتك؟
- هذا الكتاب يحمل عنوان: «الكتاب المدفون: ضياع وإعادة اكتشاف الملحمة العظيمة جلجامش»، صدر باللغة العربية عام ٢٠١٢ بترجمة موسى الحلول، من إصدارات المركز القومى للترجمة فى القاهرة، وهى ترجمة لم تحظَ بتوزيع جيد، وربما يمكن إعادة إصدارها من خلال المركز نفسه أو دار نشر أخرى.
كتبت من قبل عن قصة الطوفان فى «ملحمة جلجامش»، وعلاقتها بالقصة الموازية فى الكتاب المقدس. لكن بعد «أحداث ١١ سبتمبر»، بدأت أقلق بشدة من الخطاب التبسيطى الذى انتشر فى الولايات المتحدة حول ما سُمِّى بـ«صراع الحضارات»، وطرحت على نفسى سؤالًا: ما الذى يمكننى أن أكتبه لأُظهر أنه إذا عدنا حقًا إلى الجذور، سنجد حضارة واحدة مشتركة تقف وراء كل من الثقافتين الغربية والشرق أوسطية؟
هكذا قررت أن الجمهور العام بحاجة إلى كتاب عن «ملحمة جلجامش»، بفضل ما فيها من أصداء لدى «هوميروس» والكتاب المقدس و«ألف ليلة وليلة». ولكى أصل إلى جمهور غير متخصص، رويت قصة إعادة اكتشاف «الملحمة» كأنها مغامرة، وانتقلت من العصر الحديث إلى تاريخها الأقدم، فى الإمبراطورية الآشورية ثم بابل.
■ أيمكن اعتبار «ملحمة جلجامش» نوعًا من الأدب العالمى «الأصيل» قبل ظهور «العولمة»؟
- بالفعل، لأنه يجسد رؤية عالمية، إذ يسافر «جلجامش» إلى أطراف العالم المعروف ليقابل سلفه الناجى من الطوفان «أوتانابشتى»، وطوال الملحمة، يهتم باستكشاف العلاقة بين عالمنا البشرى وعوالم الحيوانات والآلهة. كما أن «ملحمة جلجامش» أصبحت حجر أساس فى الأدب العالمى منذ العصور القديمة، بعدما انتشرت على نطاق واسع بـ٤ لغات على الأقل، ليس فقط فى بلاد ما بين النهرين، بل من غرب فارس وصولًا إلى «الحيثيين» فى تركيا الحالية، وعبر الشام حتى «مجيدو».
■ هل تتغير قراءتنا لـ«جلجامش» عندما نضعها إلى جوار نصوص مثل «الأوديسة» أو الكتاب المقدس؟
- أشارك حاليًا فى تحرير مجموعة من المقالات حول أساليب تدريس «ملحمة جلجامش»، ضمن سلسلة تنشرها «جمعية اللغة الحديثة» فى الولايات المتحدة موجهة لأساتذة الجامعات. فى مقالى ضمن هذه المجموعة، ومقالات أخرى، نستعرض القواسم المشتركة العميقة والفروقات الثقافية الكبيرة التى يمكننا أن نقرأها، عندما نضع الملحمة جنبًا إلى جنب مع «الأوديسة» أو «الرامايانا» أو الكتاب المقدس، أو حتى الأعمال الحديثة التى تعود إلى الملحمة، مثل رواية «جلجامش» الرائعة للكاتبة الأسترالية جوان لندن.

■ تتحدث عن «الولادة الثانية» للنصوص عندما تُترجم وتُعاد قراءتها.. ما مدى تحقق ذلك فى ترجمات «جلجامش»؟
- أعتبر أن الأعمال التى تؤسس لحضور دائم فى الأدب العالمى هى التى تحقق مكاسب فى الترجمة، إذ تأخذ حياة جديدة فى لغة وثقافة جديدة. «ملحمة جلجامش» فازت بحظ جيد فى الترجمة على مر السنين. فى اللغة الإنجليزية، أحب بشكل خاص الترجمة الممتازة لـ«أندرو جورج»، التى نشرتها دار «بينجوين» منذ ٢٠ عامًا، والترجمة الجديدة للباحث الشاب سوفوس هيلى، التى نشرتها مؤخرًا دار نشر جامعة «ييل».
■ بما أن «جلجامش» تنتمى إلى سياق حضارى قديم جدًا وغير غربى.. هل تعتقد أنها تحدّت الفكرة التقليدية لـ«مركزية الغرب» فى تشكيل الأدب العالمى؟
- بالتأكيد. فى كتابى «الكتاب المدفون»، أتحدث عن الإحساس الذى خلقه الاكتشاف فى عام ١٨٧٢، عندما فك جورج سميث، الباحث الشاب من الطبقة العاملة فى المتحف البريطانى، شفرة النسخة البابلية من قصة الطوفان. انتشرت أخبار الاكتشاف بسرعة، وحضر رئيس الوزراء جلادستون بين جمهور محاضرة ترجمة فى «جمعية الآثار الكتابية». حتى إن أندرو جورج قال ساخرًا: «لا بد أن هذه المرة الوحيدة التى يحضر فيها رئيس وزراء بريطانى فى منصبه محاضرة عن الأدب البابلى».
فى غضون أيام من الاكتشاف، بدأت الخطب والمقالات الصحفية تنخرط فى مناقشات حادة: ما الذى تثبته النسخة البابلية، هل هى صحة التاريخ الكتابى أم زيفه؟ وهو ما أشارت إليه «نيويورك تايمز» بقولها: «شعر المؤمنون بسعادة غامرة، لما توفره هذه الاكتشافات من تأكيد للتاريخ الكتابى. لكن النقش الكلدانى، إذا كان أصليًا، يمكن أن يُعتبر تأكيدًا لوجود تقاليد متعددة عن الطوفان بخلاف التقليد الكتابى، الذى ربما يكون أسطوريًا مثل غيره».
وكانت الاستنتاجات التى أراد الناس الوصول إليها حول الطوفان، من غير شك، اكتشاف «ملحمة جلجامش»، وفك شفرة النصوص المصرية القديمة، كشفت عن أن الأدب الغربى نفسه ينحدر من عالم الشرق الأوسط.
■ لم يكن كتاب «حول العالم فى ٨٠ كتابًا» مجرد قائمة كتب.. بل رحلة فكرية... كيف جاءتك فكرته؟
- طلب منى ناشر بريطانى أن أكتب كتابًا عن الأدب العالمى للقراء العاديين. كنت أعتقد أن رواية «حول العالم فى ٨٠ يومًا» لـ«جول فيرن» يمكن أن تكون نموذجًا جيدًا لذلك. وضعت خطة للسفر إلى سلسلة من المدن حول العالم والكتابة عن آدابها. ثم جاءت جائحة «كوفيد-١٩»، ولم أتمكن من السفر إلى أى مكان. تأملت فى الأمر وتذكرت أن «فيرن» نفسه لم يسافر حول العالم، بل بطل روايته هو من فعل ذلك. لذا قررت أن أبدأ مدونة يومية، ٥ أيام فى الأسبوع لمدة ١٦ أسبوعًا، أتحدث فيها عن كتاب مختلف كل يوم.

■ لماذا اخترت هذه الكتب بالذات؟
- ذائقتى الشخصية، إلى جانب السعى لتمثيل كل منطقة جغرافية. رغبت فى تقديم أو إعادة تقديم بعض أعمالى المفضلة للقراء، ولكل مدينة أو منطقة، كنت أختار أعمالًا تخلق حوارًا جيدًا حول أى موضوع قررت التركيز عليه، مثل الذاكرة واللقاءات الاستعمارية والهجرة وسرد القصص. بالنسبة للفصل الذى يتناول القاهرة، بدأت بمناقشة شعر الحب المصرى القديم، ثم انتقلت إلى «ألف ليلة وليلة»، ثم إلى إعادة معالجة نجيب محفوظ لهذه الليالى فى روايته «ليالى ألف ليلة». بعدها وسعت التركيز ليشمل عملين معاصرين من المنطقة بشكل أوسع، ويعتمدان أيضًا على «ألف ليلة وليلة»، هما روايتا «اسمى أحمر» و«أجساد سماوية» لكل من أورهان باموق وجوخة الحارثى.
■ فى رأيك.. ما التأثير الذى أحدثه نجيب محفوظ على الأدب العالمى؟
- فوزه بجائزة «نوبل» كان حدثًا مهمًا لاستقبال أعماله عالميًا، وساعد فى جذب انتباه المزيد من القراء والناشرين إلى الكتابة من العالم العربى. لكن إحدى المشكلات التى ما زالت قائمة هى أن أعماله واسعة جدًا ومتنوعة، لدرجة أنها ما زالت معروفة جزئيًا فقط فى الخارج.
■ هل توجد أعمال عربية غير أعمال نجيب محفوظ يجب أن يطلع عليها القارئ «العالمى»؟
- عملت كمحرر عام لمجموعة من ٦ مجلدات من الأدب العالمى التى نُشرت للسوق الجامعية فى أمريكا الشمالية، أوائل الألفينيات، وكنت محظوظًا بوجود البروفيسور صبرى حافظ، الذى أحضر لى موسوعة للشعراء العرب، بدءًا من شعراء الجاهلية الذين كانوا من قُطاع الطرق، وصولًا إلى عدد من الشعراء المعاصرين، ومقتطفات واسعة من القرآن الكريم، إلى جانب «ألف ليلة وليلة» وأعمال نجيب محفوظ، و«سعيد المتشائل» لـ«إميل حبيبى». ومن الكُتاب المعاصرين هناك: جوخة الحارثى، وريم بسيونى التى تترجم أعمالها بانتظام إلى الإنجليزية، فضلًا عن الشعر المؤثر لـ«مصعب أبوتوهة»، المستند إلى تجربته فى الظروف المأساوية بقطاع غزة.

■ هل يحظى الأدب العربى بنفس الاهتمام فى الغرب مثل الآسيوى والإفريقى؟
- بدأ الاهتمام تدريجيًا فى أوروبا وأمريكا بهذه المناطق، ونحن كفريق، نسعى جاهدين لدعم هذا التوجه، لكن الطريق لا يزال طويلًا ويتطلب المزيد من الجهد. من المهم جدًا التواصل، خاصة مع الأعمال الأدبية من المناطق والثقافات غير المعروفة جيدًا لمعظم الطلاب والقراء الأمريكيين.
■ تحدثت فى كُتبك عن ز يارتك لمصر.. كيف ساعدتك فى فهم الأدب العربى؟
- أعتز بزياراتى لمصر. بما أننى بدأت بدراسة العصور القديمة، كان اللقاء المباشر مع الحياة المصرية المعاصرة مفيدًا للغاية بالنسبة لى، وكان من دواعى سرورى تجربة الضيافة المصرية الاستثنائية. بسبب اهتمامى بالعصور القديمة، فلا شىء يضاهى زيارة سقارة والأقصر. كانت تجربة لا تُنسى، مشى طويل منفرد من «وادى الملوك» إلى «وادى الملكات»، تجربة مختلفة تمامًا عن القاهرة المزدحمة. عندما كنت أكتب المدونة الخاصة بـ«حول العالم فى 80 كتابًا»، بدأ الناس فى مناطق مختلفة من العالم بمتابعتها، وترجمة المنشورات إلى لغتهم. وعندما وصلت إلى القاهرة، فوجئنا أنا وقراؤها بهدية ترحيب قدمها عدة أشخاص كانوا يتابعونها من هناك، عبارة عن إنشاء مدونة صغيرة خاصة بهم، تضم ترجماتهم لقصائد وقصص مصرية معاصرة.. كانت هدية ترحيب كريمة جدًا.