الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فك شفرة السلوك البشرى

البروفيسور الأمريكى كاس سنستين: سكان القاهرة يرونها عادية لأنهم فقط اعتادوا جمالها

كاس سنستين
كاس سنستين

- الاستخدام المفرط لـ«السوشيال ميديا» يحرمنا من الشعور بروعة الحياة العادية

- النجاح فى الحياة لا يعتمد فقط على الجهد.. بل يلعب الحظ دورًا

- أغلب المشاهير لم ينجحوا لموهبتهم بل لصوتهم العالى

لطالما شكّل التقاطع بين العلم والفكر ملمحًا أساسيًا فى حياتنا اليومية، وفى هذا الإطار يبرز البروفيسور كاس سنستين، أستاذ القانون فى جامعة «هارفارد»، كواحد من أهم العقول التى أعادت تشكيل فهمنا آليات صنع القرار الجماعى، وتأثيرها على السياسات العامة. 

«سنستين» هو مؤسس ومدير برنامج «الاقتصاد السلوكى والسياسة العامة» فى كلية هارفارد للحقوق بالولايات المتحدة، ويتمتع بمكانة فريدة فى عالم «الاقتصاد السلوكى»، وأحدثت أبحاثه ونظرياته تحولًا جذريًا فى كيفية تفسير خيارات الأفراد، وتوجيه هذه الخيارات لتحقيق منفعة مجتمعية أوسع دون المساس بحرياتهم الشخصية. ومن خلال مؤلفاته العديدة، لم يكتفِ بتقديم أفكار جديدة، بل أسس لمنهجية مختلفة فى تفكير الحكومات والمؤسسات تجاه عملية صنع القرار.

فى حواره التالى مع «حرف»، نستكشف مع البروفيسور كاس سنستين، الذى عمل لمدة 3 أعوام مستشارًا للرئيس الأمريكى الأسبق، باراك أوباما، التحديات المعقدة التى تواجه المجتمعات الحديثة، والسبل العلمية والاجتماعية المبتكرة لمواجهتها، مستندين فى ذلك إلى رؤيته الثاقبة التى تزاوج بين العمق الأكاديمى والتطبيق العملى فى الحياة العامة.

البروفيسور كاس سنستين فى محاضرة حول كتابه "العزل دليل المواطنين" 

■ فى كتابك «How to Become Famous» ترى أن الشهرة لا تعتمد فقط على الموهبة.. إذن كيف تفسر صعود أصحاب المحتوى السطحى مقابل تجاهل مفكرين وعلماء؟

- دعينى أبدأ بالتعبير عن مدى امتنانى لأننى أتحاور معك، وذلك لأسباب عديدة. أحدها أن رياضتى المفضلة هى الاسكواش، ومصر تمتلك أفضل لاعبى الاسكواش فى العالم، وقد تشرفت بأننى خسرت أمام العديد من اللاعبين المصريين، ومن بينهم صديقى العزيز مروان طارق، القائد السابق لفريق الاسكواش فى جامعة «هارفارد».

الكتاب يوضح أن النجاح فى الحياة لا يعتمد فقط على الجهد، بل يلعب الحظ دورًا كبيرًا فيه. ففى مجالات مثل الموسيقى والأدب والعلوم، نجد أن الأفراد الأكثر نجاحًا غالبًا ما يتمتعون بموهبة استثنائية؛ ولكن للوصول إلى تلك المكانة، كانوا بحاجة للمساعدة والدعم والإرشاد فى الأوقات المفصلية، والكثير من الموهوبين لا يحصلون على هذه العوامل، وبالتالى لا ينجحون. 

بلا شك، أنتِ محقة. فى عالم الإنترنت، يحقق البعض، رغم محدودية ما يقدمونه، حظًا غير متوقع. ربما يمتلكون حماسة لافتة، أو فكرة مبتكرة، أو خطة ذكية تسهم فى جذب الانتباه، ويتسع انتشارهم حتى النجاح، وهذا ما نشهده يوميًا. فى المقابل، نجد أحيانًا أشخاصًا لديهم الكثير من الأفكار المهمة، لكنهم لا يجذبون الانتباه، أو يتلقون اهتمامًا محدودًا، أو ربما يعبرون بأسلوب معقد.

■ كيف تؤثر هذه الظاهرة على أصحاب المواهب الحقيقية؟ وهل ترى أن شهرة «التافهين» أصبحت سلبية على الاقتصاد والثقافة وتقوّض الإبداع والابتكار؟

- كل الثقافات والأمم قادرة على جنى فوائد من مبدعيها، عندما تقدم الدعم والتشجيع لمن لديهم ما يقدمونه، فإذا اشتهر البعض فإنه ليس بسبب قيمة ما لديهم، بل لأنهم يملكون صوتًا عاليًا وحماسة مفرطة، وهذا لا يعد أمرًا إيجابيًا لبقية المجتمع. بالتأكيد، معظم الناس لا يهتمون بالشهرة، ولا يريدون سوى أن يكونوا جزءًا من شىء ذى قيمة، وهذا رائع، لكن الأروع هو معرفتنا بمن يقدمون أكبر قدر من الإسهامات القيمة، وتقديرهم بما يستحقون.

■ هل ترى أن الشهرة أصبحت نوعًا من «العملة الرمزية» تمنح صاحبها السلطة والمصداقية حتى لو لم يكن يملك معرفة حقيقية؟

- هذا ما يحدث بالفعل. فأحيانًا يتعامل نجوم السينما، على الأقل فى بلدى، كما لو أنهم خبراء فى مجالات لا علاقة ولا دراية لهم بها، كأفكارهم الخاطئة عن الطعام الصحى، أو ما يساعد فى تحسين المظهر أو فقدان الوزن. قد يكون نجم السينما ممثلًا مميزًا، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة أنه يعرف كيف يتبع نظامًا غذائيًا صحيًا، أو كيفية فقدان الوزن بطريقة فعّالة. هذه مشكلة حقيقية.

■ فى كتابك تربط بين الفرص المفقودة والعدالة الثقافية.. برأيك هل يمكن أن نتصور آليات جديدة «خارج السوق والإعلام» لإبراز المواهب الحقيقية؟

- سؤال رائع! نعم، بإمكان النظام التعليمى مكافأة مَن يتقنون الكتابة مثلًا، أو المتفوقين فى العلوم، أو مَن لديهم القدرة على الابتكار. لا يشترط أن تكون المكافأة مالًا أو شهرة، لكنه الاحترام والتقدير، بالإضافة إلى الفرص التى تتيح لهم التقدم والنمو.

■ فى كتابك «Look Again» تركز على أهمية الانتباه للتفاصيل اليومية.. كيف ترى علاقة هذا المفهوم بسلوك الناس فى العصر الرقمى حيث السرعة وتجاهل التفاصيل؟

- الفكرة الأساسية هى أن جميع الكائنات الحية تعتاد الأشياء. وهذا يعنى أننا عندما نتعود على شىء نتجاهله تدريجيًا. علميًا، نصبح أقل حساسية تجاه المحفزات. مثلًا، إذا سبحنا فى المحيط، قد نشعر بالبرد فى البداية، لكننا سرعان ما نعتاد عليه. وإذا دخلنا تحت ماء ساخن، قد نشعر فى البداية أنه حار جدًا ولكن بعد دقائق، نكتشف أنه مريح.

لم أزر القاهرة بعد وأتمنى أن أذهب قريبًا، لكننى متأكد من أنه فى الأيام الأولى هناك، سأكون فى غاية الإعجاب والدهشة من معالمها العديدة. لكن سكان القاهرة، على ما أعتقد، اعتادوا جمال مدينتهم، لذا فإنهم لا يشعرون بنفس الدهشة والحماس كما يفعل الزوار الجدد. وهذه هى طبيعة البشر.

مع وسائل التواصل الاجتماعى، أصبحت لدينا نافذة لرؤية أشياء كانت بعيدة عن متناولنا، على الأقل عبر الصور والفيديوهات. تلك الأشياء تدهشنا وتثير إعجابنا. مع مرور الوقت، نبدأ فى الاعتياد وهو ما قد يؤدى إلى مشاكل، خصوصًا لدى الشباب، فقد لا يدركون كيف أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعى يؤثر على حياتهم سلبيًا، وقد لا يعون كما ينبغى، مدى روعة الحياة العادية بعيدًا عن الشاشات.

■ فى وقتنا الحالى ورغم تطور التكنولوجيا و«الذكاء الاصطناعى» نلاحظ تسارع الحياة وزيادة الإحساس بمرور الوقت بسرعة.. كيف ترى هذا التناقض مرتبطًا بما ناقشته فى الكتاب عن أهمية الملاحظة البطيئة والانتباه العميق؟ وهل تعتقد أن سرعة الحياة المعاصرة تؤثر على قدرتنا على التوقف والتفكير العميق؟

- لست واثقًا من هذا. لكن ما يؤكده الكتاب هو أن الناس غالبًا ما تفوتهم رؤية ما هو عظيم ومدهش فى حياتهم، لأنهم يعتادون هذه الأشياء. أنا الآن أثناء الكتابة، أعيش فى منزل مريح، مع اتصال إنترنت جيد، وجهاز «لابتوب» رائع وحديقة جميلة. أنا أبتسم الآن لأننى لم ألاحظ هذه الأشياء حتى طرحتِ هذا السؤال. 

غالبًا ما نتجاهل الأشياء الرائعة من حولنا إذا كانت جزءًا من حياتنا اليومية. كذلك نعتاد الأشياء غير المثالية، مثل تدهور الصحة، وقلة المال، أو وظيفة غير مرضية. لذا، يمكننا أن نعتبر الاعتياد نعمة، لكنه أيضًا نقمة.

سؤالك عن التسارع رائع. من المنطقى القول إنه عندما تسير الأمور بسرعة كبيرة، فإن الناس لا يملكون الوقت للتوقف والانتباه. وهذا لا يعود إلى الاعتياد، بل ببساطة لأن الوقت لا يسمح بالتأمل. ومع ذلك، يبقى الاعتياد هو العامل الرئيس الذى يجعل الناس لا يلاحظون الأشياء.

■ هل تعتقد أن الانتباه إلى التفاصيل اليومية يمكن أن يساعد فى معالجة قضايا أكبر مثل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية؟ 

- بالتأكيد، الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة له دور كبير. فإذا لم نعتد على الظروف المحيطة التى لا تليق بنا، مثل بيئات العمل القاسية فى بعض الأماكن، أو الجيران غير الودودين، أو المياه الملوثة، فإننا قادرون على السعى لتغييرها. فى مختلف أنحاء العالم، تبدأ التحولات عندما يسأل الناس: هل نريد حقًا أن نعيش هكذا؟ هل هذا ما نطمح إليه؟ وماذا يمكننا أن نفعل لتحقيق الأفضل؟

■ فى كتابك «Nudge»، طرحت فكرة أن السياسات العامة يمكن أن تشجع الأفراد على اتخاذ قرارات أفضل دون فرض قيود. كيف ترى تأثير هذا النموذج فى سياقات سياسية واقتصادية متنوعة؟ وهل يتناقض تطبيق «الدَفعة» هذا مع القيم الديمقراطية؟

- لقد أدهشنى التأثير العالمى لفكرة «الدَفعة/Nudging»، لم أتوقع ذلك إطلاقًا، فالعديد من الدول تبنت نهج «وحدات الدَفعة»، وهذا العام، يُعقد مؤتمر «تبادل السلوكيات»، وهو حدث عالمى فى الإمارات العربية المتحدة، التى تعد من الدول الرائدة عالميًا فى استخدام رؤى السلوكيات المستمدة من الاقتصاد السلوكى وعلوم السلوك، وبالتالى فى استخدام «الدَفعة». أنا متحمس جدًا للمشاركة فى هذا المؤتمر

وكتاب «Nudge» يروج لفكرة إمكانية إحداث تغييرات كبيرة فى كثير من الأحيان، إذا قدمت للناس «دَفعة» صغيرة، دون أن تسلب منهم حرية الاختيار. بعض أساليب «الدَفعة» ببساطة تقدم معلومات للأشخاص. مثلًا، وضع تحذيرات صحية عن السجائر ومنتجات التبغ. هذه «دَفعة». أو تقديم معلومات عن مكونات الطعام والمواد المسببة للحساسية أو السعرات الحرارية، هذه أيضًا «دَفعة». يمكن للشركات تقديم هذه المعلومات طواعية، أو بطلب من الحكومات. 

قد تتخذ «الدَفعة» أشكالًا متعددة، مثل التسجيل التلقائى فى بعض البرامج، كضبط الطابعات للطباعة على الجانبين لتوفير الورق والمال، أو تسجيل الموظفين تلقائيًا فى برامج الصحة أو التقاعد. كما يمكن تصميم المتاجر بحيث تكون بعض العروض، مثل الأطعمة الصحية، بمتناول اليد. بينما يتطلب العثور على عروض أخرى، كالسجائر والأطعمة غير الصحية، مزيدًا من الجهد. ولخفض معدلات الوفيات على الطرق، يمكننا استخدام العديد من «الدَفعات» لتحفيز السائقين، ما يسهم فى إنقاذ الأرواح. نعمل حاليًا على تطبيق ذلك فى أمريكا الشمالية وأوروبا، عبر إعادة تصميم السيارات لتشجيع القيادة الآمنة، وتعديل الطرق والشوارع لتحقيق هذا الهدف. هذه الأولوية مهمة للغاية. فى السويد مثلًا يوجد برنامج «رؤية صفر»، الذى يعتمد على تقنيات «الدَفعة» لتحقيق ذلك. 

■ أحد الانتقادات لفكرة «الدَفعة» أنها تُعتبر تلاعبًا سلوكيًا. كيف يمكن التوازن بين توجيه الأفراد نحو قرارات أفضل واحترام حرية اختيارهم؟ وما الحدود الأخلاقية التى يجب أن تلتزم بها الحكومات أو المؤسسات عند تطبيق هذه الاستراتيجيات؟

- «الدَفعات» ليست خدعة. مثلًا، عندما تخبر الناس بأن السجائر تسبب السرطان، أنت ببساطة تقدم لهم معلومة حقيقية، ولا تحاول التأثير عليهم. وإذا صممت السيارات لتمكين السائقين من رؤية أفضل، فهذا يسهل عليهم القيادة دون فرض شىء عليهم. وفى المطارات، إذا صممت المرافق بطريقة تسهل الوصول للبوابات وتجنب تفويت الرحلات، فأنت لا تتلاعب بالمسافرين، بل تساعدهم. وإذا أرسلت تذكيرات للمرضى بأدويتهم، فأنت تدعمهم فى الحفاظ على صحتهم.

المهم وضع ضوابط أخلاقية لهذه «الدَفعات»، بحيث لا تؤذى الناس أو تتعارض مع قيمهم الشخصية.

■ فكرة «الدَفعة» تفترض أن الأفراد يتخذون قرارات سيئة بسبب نقص المعرفة أو التفكير العميق. هل ترى أن هذه الفكرة قد تتأثر بالثقافة أو الاقتصاد؟ وكيف يمكن تطبيق «الدَفعة» فى سياقات ثقافية مختلفة، حيث الفروق فى التوجهات السلوكية والمعرفية كبيرة؟

- «الدَفعة» فكرة فعالة فى العالم أجمع. فالبشر يشتركون فى شىء واحد: أنهم جميعًا بشر. هناك قصص نجاح كثيرة من دول مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة وجنوب إفريقيا والسعودية واليابان وسنغافورة ونيوزيلندا وإيطاليا والأرجنتين والدنمارك والسويد والنرويج وهولندا وألمانيا. هذه عينة صغيرة، ذكرت فقط بعض الأماكن التى زرتها أو تحدثت فيها عبر الإنترنت. بالتأكيد، يمكن أن تكون الفروقات الثقافية مؤثرة. فبعض «الدَفعات» قد تنجح فى المكسيك ولا تنجح فى روسيا. لكن فى النهاية، الطبيعة البشرية تظل هى نفسها.

■ تشرح فى الكتاب كيف يمكن للحكومات استخدام «الدَفعة» لتحفيز الأفراد على اتخاذ قرارات أفضل. هل ترى أن الحكومات تستخدم الإعلام كأداة ضمن هذه «الدَفعات» لتوجيه الناس نحو أهداف معينة؟ وكيف يؤثر ذلك فى تشكيل الرأى العام، خاصة فى القضايا السياسية والاجتماعية المهمة؟

- سؤال كبير! ليست له إجابة واحدة. بالتأكيد، تستخدم الحكومات وسائل الإعلام كأداة، أحيانًا مع فهم قوة «الدَفعة» وأحيانًا دون فهم. أحيانًا تنجح الحكومات فى تشكيل الرأى العام. لكن ليس دائمًا.

■ فى كتابك المقبل «OnLiberalism:InDefense of Freedom»، تناقش قضايا الحرية والليبرالية.. ما الأفكار الرئيسية التى يسعى الكتاب لاستكشافها؟

- الفكرة الرئيسية هى أن هناك تقليدًا ليبراليًا مشتركًا، لكن كل دولة تحمل تقاليدها الخاصة. الأكثر من ذلك، أعتقد أن الليبرالية تتجذر فى قلب كل إنسان. الليبرالية أوسع وأشد جذبًا مما يظن البعض، فهى خيمة كبيرة تضم العديد من الناس من خلفيات متنوعة: العديد منهم يؤمنون بالحرية، حتى وإن اختلفوا فى العديد من القضايا. الكثيرون يؤمنون بأن لكل فرد الحق فى أن يعيش حياة كريمة، حتى لو اختلفوا فى التفاصيل. بالطبع، فكرة الحرية وتوفير الفرص للجميع تواجه تحديات جديدة، لكننى متفائل بالمستقبل. المستقبل يحمل إمكانات كبيرة، ودعونا نأمل أن نكون جزءًا من هذا التفاؤل. وهذا نوع من «الدَفعة».