شاهد من أهلها.. ضابطة سابقة فى الجيش الأمريكى: «قتل العرب.. تدريبنا الرئيسى»
- «الأهداف» التى نتدرب على إصابتها صور لرجال بملابس عربية
- اللغة العربية خلفية لتدريباتنا العسكرية لربطها بالخطر لدى الجنود
- إسرائيل وراء غزو العراق وغالبية تحركاتنا فى الشرق الأوسط
- فى الشرق الأوسط رأيت كيف نسحق البشر بذريعة «الأمن القومى»
فى واحدة من أحدث حلقات برنامج «Palestine Talks»، الذى يقدمه الباحث بول سالفاتورى، ظهرت ضابطة المخابرات الأمريكية السابقة جوزفين جيلبو، التى تمردت على مؤسستها العسكرية بعدما اكتشفت حقيقة ما يحدث فى الشرق الأوسط.
وبعد سنوات طويلة فى العمل العسكرى، قررت «جوزفين» الوقوف ضد السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، بعدما رأت انتهاكات حقوق الإنسان، والتغاضى عنها فى التقارير الرسمية، لتتحول إلى ناشطة تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وتسعى لنشر الوعى بالقضايا الإنسانية التى عايشتها عن كثب.
«حرف» تترجم فيما يلى حديثها مع البرنامج، والذى تطرقت فيه لعدة قضايا مهمة، من بينها كيفية تبرير النظام العسكرى الأمريكى، التى كانت أحد أفراده، الفظائع التى يرتكبها ضد المدنيين.

■ كيف انضممتِ إلى الجيش الأمريكى؟
- جئت من خلفية فقيرة للغاية، ونشأت فى بيت كان والدى يعتمد فيه على «معاش العجز» المُخصص للمحاربين القدامى، وهى إعانة مالية يتقاضاها المحاربون المعاقون من الدولة. لكن هذا الدخل لم يكن كافيًا لتأمين حياة كريمة لنا. عندما بلغت الـ١٨، لم تتح أمامى الكثير من الخيارات، فوجدت نفسى مدفوعة نحو الانضمام إلى الجيش. فى الولايات المتحدة، يُطلق على هذه الظاهرة مصطلح «التجنيد الاقتصادى»، وهو تعبير ساخر يعكس كيف تستغل الدولة الفئات الفقيرة لدفعهم نحو الخدمة العسكرية.
■ خدمتِ فى المخابرات العسكرية بعد أحداث ١١ سبتمبر.. كيف كانت طبيعة تلك المرحلة داخل الجيش؟
- التحقتُ بالجيش ٢٠٠٦، وكنت حينها مراهقة لا تعرف الكثير عن العالم. اليوم، عندما أعود بذاكرتى إلى تلك المرحلة، أُدرك كيف يُعاد تشكيل عقولنا داخل الجيش، و«برمجتنا» لنرى الشرق الأوسط بعين الريبة والعداء.
فى التدريبات، كانت كل المحاكاة تدور حول عدوٍ واحد: رجال بملابس عربية تقليدية، يتحدثون العربية، يُفترض أنهم «الخطر». كانت تُبَث تسجيلات باللغة العربية خلال التمارين، وكأننا نتدرب على الربط بين هذه اللغة والخطر. حتى الأهداف التى كنا نتدرّب على إصابتها كانت صور لرجال عرب.
بعد قرابة عقدٍ من الخدمة كمُسعِفة قتالية، قررتُ إكمال دراستى، وأصبحتُ ضابطة مخابرات فى ٢٠١٣. ومن هناك، بدأت رحلتى داخل دوائر صنع القرار الأمنى. عملت مع وكالتى المخابرات المركزية والأمن القومى لحوالى ٥ سنوات. كانت أول مهمة لى فى الشرق الأوسط عام ٢٠١٧، ضمن عقد يتعلّق بقضايا المحتجزين فى «جوانتانامو».
هناك، وللمرة الأولى، رأيت وجهًا آخر لأمريكا، وجهًا قاسيًا غير إنسانى، رأيت كيف يُجَرَّد البشر من حقوقهم، ويُسحَق الإنسان بذريعة «الأمن القومى». كانت هذه الممارسات تُقدَّم وكأنها جزء من العمل، وتُمرّر كأمرٍ واقع. هذه اللحظة كانت بداية التحوّل.

■ ألم تتابعى آنذاك كيف كان العالم يخرج إلى الشوارع مُحتجًا على الغزو الأمريكى للشرق الأوسط؟
- خلال غزو العراق، ثم أفغانستان، لم أكن أعلم أن هناك معارضة للغزو أصلًا. داخل الجيش، كانت المظاهرات تخضع لرقابة صارمة، والإعلام الذى يصلنا مُنتقَى بعناية. لم أكتشف حجم الرفض الشعبى إلا مؤخرًا، حين انخرطت فى النشاط السياسى بسبب الإبادة فى فلسطين، والتقيت بناشطين ومحاربين قدامى كانوا فى قلب تلك الاحتجاجات.
■ هل كان الجيش يسعى متعمدًا لعزلكم عما يحدث فى الرأى العام؟
- أعتقد أن الأمر لا يقتصر على الجيش فحسب، بل يشمل جميع مؤسسات الدولة. هناك جُهد مشترك من الإعلام والحكومة التنفيذية والسلطة التشريعية، وحتى الحكومات المحلية والولايات. تقريبًا كل مؤسسة وصلت إلى مستوى من الفساد يجعلها تعمل على إخفاء الحقيقة وتشويه الواقع.
■ هدف الجيش الحفاظ على الهيمنة الأمريكية أكثر من حماية الأمن القومى.. ما رأيك؟
- هذا صحيح. هناك عدة عوامل أضعها فى اعتبارى عندما أفكر فى غزونا الشرق الأوسط، وتحديدًا العراق. أولًا، لا يمكننى تجاهل دور إسرائيل فى ذلك السياق. لقد صُدمت عندما أدركت مدى تأثير إسرائيل على الحكومة الأمريكية، خاصة فى إقناع «الكونجرس» بالانخراط فى حرب العراق بذريعة «أسلحة الدمار الشامل». لا أعتقد أن غالبية الأمريكيين يدركون الحجم الكبير لتأثير إسرائيل فى دفع الولايات المتحدة نحو هذا الغزو، خاصة بعد تصريح بنيامين نتنياهو أمام «الكونجرس»، وتأكيده وجود الأسلحة، وهو ما تبين لاحقًا كذبه. مع الوقت، اتضح لى أن تحركاتنا فى الشرق الأوسط كانت بتأثير إسرائيلى بشكل غير مباشر فى أحيان كثيرة.
هناك عامل آخر بدأت أدركه مؤخرًا، وهو «المجمع الصناعى العسكرى»، الذى كان الرئيس «آيزنهاور» أول من حذر من خطورته، مؤكدًا أن الاعتماد المتزايد على هذا «المُجمَع» سيجعل استقرار الاقتصاد الأمريكى مشروطًا بالحروب المستمرة. هذا ما نراه اليوم، إذ يتزايد الإنفاق الأمريكى على الأسلحة، تصنيعها وبيعها، ما يربط الاقتصاد الأمريكى بهذا القطاع بشكل عميق.
أخيرًا، الاستعمار كان ولا يزال جزءًا أساسيًا من المعادلة. إسرائيل، فى سعيها للهيمنة فى الشرق الأوسط، تؤثر بشكل كبير على استقرار الدول التى لا تعترف بها، مستخدمة فى ذلك سياسات تدمير الاقتصادات المحلية وإفقارها، ما يحد من قدرتها على مقاومة هذه الهيمنة. بهذه الطريقة، تتحد العوامل الاستعمارية والصناعية لتشكل صورة معقدة من النفوذ والتأثير، يُحرك كل شىء فيها وفقًا للمصالح المشتركة بين الحكومات الكبرى والصناعات العسكرية.

■ هل يمكن ربط صحوتك تجاه الجيش الأمريكى بأنشطتك الحالية المؤيدة لفلسطين؟
- بالتأكيد. طوال حياتى كنتُ أعتقد أن ميزانية الدفاع الأمريكية ضرورية لحماية بلادنا، وكان ذلك جزءًا أساسيًا من مواقفى السياسية، باعتبارى «جمهوريّة». عندما كنت فى الجيش، رأيت الجيش الأمريكى كحامٍ للحرية والأمن العالمى، وكنت أؤمن بأننا نحتاج إلى هذه الميزانية العسكرية لحماية حدودنا. لكن مع الوقت، وخاصة بعد تجاربى فى العراق وأفغانستان، اكتشفت أن هذه الميزانية لم تكن موجهة للدفاع عن الوطن، بل استخدمت لشن الحروب على دول أخرى، وتمويل ما يسمى «المُجمَع الصناعى العسكرى».
لقد خُدعت طوال سنوات عملى فى الجيش، وظننت أن الهدف من وجودنا فى تلك البلدان هو حماية الأمن القومى الأمريكى. لكن بدأت أرى كيف تستغل قوتنا العسكرية للتدخل فى شئون دول أخرى، وفى النهاية، صارت استراتيجيتنا هجومية لا دفاعية.
السابع من أكتوبر، هو اليوم الذى غيّر كل شىء بالنسبة لى. كنت أشاهد الأخبار، ليس عبر القنوات الغربية التى كانت تروّج لسردية معينة، بل عبر قنوات أخرى مثل «الجزيرة»، التى تُظهر صور ما يحدث فى غزة. ما رأيته كان صادمًا. لم يكن الأمر دفاعًا عن النفس كما روّجت وسائل الإعلام الغربية، بل كان هجومًا عشوائيًا على المدنيين: قنابل تسقط على الأطفال والنساء، والمستشفيات، بلا أى تمييز.
هنا بدأت تتكشف الحقيقة أمامى: إسرائيل لم تكن تُنفّذ عملية عسكرية كما قيل، بل كانت ترتكب إبادة جماعية بحق المدنيين. حينئذ، أدركت أن ما عشته طوال سنوات مجرد كذبة. شعرت بأننى كنت جزءًا من آلة كبيرة تروج للأكاذيب وتدعم حروبًا لا مبرر لها. الصحوة التى شعرت بها كانت بداية لفهم واقعى عن الهدف الحقيقى وراء التدخلات العسكرية الأمريكية فى الشرق الأوسط.
■ كيف كانت ردود فعل زملائك فى الجيش والحكومة تجاه نشاطك.. خاصةً مع جُرأتك فى التعبير عن مواقفك؟
- تلقيت ردود فعل متنوعة من عائلتى وزملائى السابقين والحاليين. كثير منهم مترددون فى مواجهة الحقيقة، بسبب شعورهم بالذنب والخجل والتأثير النفسى لأفعالهم. تخيل حال جندى خدم فى العراق مرتين أو ثلاثًا، وشارك فى جرائم حقيقية، وعليه الآن استيعاب ما فعله بالأبرياء هناك.
هذا التردد هو ما ألقاه عندما أتحدث مع زملائى السابقين فى الجيش. هم غير مستعدين نفسيًا للاعتراف بأن ما شاركوا فيه كان جرائم حرب، وأنهم فعلوا ذلك نيابة عن «الأوليجارشية» والنخبة، ونيابة عن إسرائيل. لذا ينتحر يوميًا ٢٢ من المحاربين القدامى فى أمريكا، والعدد قابل للزيادة.
انضممت إلى عملية «الحرية الدائمة» وشاركت فى مهام عديدة خلال تلك الفترة. لكن الآن، وعند مراجعة تلك التجارب، أبدأ فى التساؤل: هل كان الأشخاص الذين شاركنا فى استهدافهم فعلًا متورطين فى أنشطة إرهابية؟ فى البداية، كنا نعتقد أنهم إرهابيون بناء على المعلومات التى قُدمت لنا. لكن اليوم أطرح على نفسى السؤال: هل كانوا حقًا مذنبين؟ أم أنهم فقط كانوا يعارضون إسرائيل، لذا صنفوا إرهابيين؟ هذا التساؤل يلاحقنى الآن.
هذا بالإضافة للوعى المتزايد لدى البعض حول الوضع العالمى، الذى نتج عنه تنامى تحالف «بريكس»، وتزايد العزلة التى تتعرض لها أمريكا وإسرائيل. الدول فى الجنوب العالمى بدأت تتحد اقتصاديًا وأمنيًا، ما يثير تساؤلات حول مستقبل بلدى. ماذا يعنى ذلك لمستقبلنا؟ ماذا يعنى لأطفالنا وأحفادنا عندما نتحول إلى دولة معزولة تتراجع مكانتها كقوة عالمية؟.
هذا التوجه فى السياسة الأمريكية يبدو كأنه يقودنا إلى تدهور كبير، خاصة مع استمرار دعمنا لإسرائيل فى توسعها للسيطرة على المنطقة. أيضًا يتنامى القلق من هذا الاتجاه بين صفوف الجيش. زملائى، سواء الذين ما زالوا فى الخدمة أو الذين غادروا، يعبرون عن مخاوفهم العميقة.
وحتى داخل الحزب الجمهورى، هناك انقسامات، فوعود «ترامب» بعدم الانخراط فى الحروب العالمية تتلاشى تدريجيًا. والآن يحدث هجوم دام فى غزة بموافقة إدارته، فى الوقت الذى تستمر فيه الهجمات على اليمن، وتُناقش المساعدات لأوكرانيا، ما أدى لظهور مستوى من المعارضة داخل الحزب نفسه.

■ هل ترين أن المحاربين القدامى فى موقع أفضل للمشاركة فى النشاطات المناهضة للحروب الأمريكية؟
- نحن كمحاربين قدامى كُنا جزءًا من آلة الحرب، التى تقتحم بها الحكومة الأمريكية دول الشرق الأوسط وأوكرانيا الشرقية. كنا جزءًا من هذا النظام الحربى، والآن نُدرك ما شاركنا فيه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ونتحدث ضده. ندرك أن ما فعلناه كان خطأ، وأنه لا يمكننا حماية بلدنا بالاستمرار فى حروب الشرق الأوسط لعقود. من المهم أن نستخدم أصواتنا فى هذا السياق، فبوجودنا الدعاية من الطرف الآخر ستكون أقل مصداقية، لأنه من الصعب عليهم التشكيك فى كلامنا، لأننا عشنا التجربة بأنفسنا.
■ مررتِ بتجربة مؤلمة فى إسرائيل.. هل يمكنك ذكر ما حدث؟
- قررت منذ عدة أشهر القيام برحلة حج مسيحى إلى إسرائيل، التى لم أعد أعتبرها دولة ذات سيادة. فور مغادرتى الأردن واقترابى من دخول الضفة الغربية، تفاجأت بأسوار كهربائية تمتد لمسافة ميل تقريبًا، وأفراد مسلحين ببنادق «AR»، بالإضافة إلى ٣ نقاط تفتيش على الأقل.
بعد المرور بكل هذا، تصل أخيرًا إلى قسم الجمارك والحدود، حيث تقدم جواز سفرك، وتشرح ما الذى تنوى القيام به داخل إسرائيل وفلسطين المحتلة. عندما وصلت إلى المعبر، سألنى الموظف: ما سبب زيارتك؟، فأجبته: جئت فى رحلة حج مسيحى، فردّ مستفسرًا: بشكل أساسى؟، فقلت: نعم. بعدها طلبوا منى الانتظار تمهيدًا لاستجواب أوسع.
خلال الساعتين التاليتين، توافد علىّ ٣ محققين، وطرحوا أسئلة مثل: ما معنى أن تكونى مسيحية؟ لماذا تزورين المواقع المقدسة؟ وبما أننى نشأت كاثوليكية متدينة وما زلت أمارس شعائرى، كانت الإجابة سهلة. ومع ذلك، لم يبدُ أنهم اقتنعوا، وقرروا احتجازى ومواصلة الاستجواب.
اقتادونى إلى منطقة أخرى داخل المبنى، ولاحظت غيابًا تامًا لأى حضور فلسطينى، لا شرطة، ولا مسئولين للسلطة الفلسطينية. رغم أننى كنت أحاول دخول الضفة الغربية عبر الأردن، كل ما واجهته كان تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلى بالكامل، وكأننى أحاول دخول إسرائيل نفسها، لا فلسطين.
بدأت موظفة إسرائيلية فى استجوابى، وسألتنى أسئلة شخصية للغاية، عن عمل زوجى مثلًا. رفضت الإجابة لكن ذلك لم يردعها. شعرت بأنها تمارس ضغوطًا نفسية واضحة، وكأنها تبحث عن أى تفصيلة يمكن أن تستخدمها كذريعة لمنعى من الدخول.
حاولت شرح خلفيتى العسكرية، وأننى جئت لأداء رحلة دينية، وأعمل فى مجالات إنسانية لا تقتصر على فلسطين، بل تشمل أيضًا السودان وأوكرانيا. لكن كل توضيح قدمته بدا وكأنه يزيد من شكوكهم، لا يخففها. فى النهاية، أبلغونى رسميًا بمنعى من دخول الأراضى الفلسطينية لمدة ٥ سنوات، بتهمة أننى «تهديد للأمن العام». لم يكن ذلك مجرد إجراء أمنى، بل استهداف سياسى صريح.

■ ما الذى خرجتِ به من هذه التجربة؟
- ما رأيته يعكس جوهر نظام «الأبارتايد»: الفلسطينيون لا يملكون أى سيادة على حدودهم أو على مَن يدخل إلى أراضيهم، حتى لأسباب دينية أو إنسانية. الاحتلال هو من يتحكم فى كل شىء، وكل إجراء تحت سلطته. يوضح كذلك إلى أى مدى بلغ التشدد فى إسرائيل، فلم يعد الصمت كافيًا، بل يُتوقع منك أن تُظهر دعمًا صريحًا، وإلا فأنت موضع شك أو تهديد. حتى لو كنت آتيًا فى رحلة دينية، فإن مجرد الاعتراف بأن الفلسطينيين بشر يستحقون الحرية والكرامة يُعد جريمة.