السبت 12 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

نورمان فينكلشتاين: خطة إسرائيل لغزة «إبادة جماعية.. تدمير مقومات الحياة ثم التهجير إلى سيناء»

حرف

- إسرائيل دخلت مرحلة «الحل النهائى لمسألة غزة» حيث لا ماء ولا طعام ولا كهرباء ولا مدنيون

- ما يحدث فى غزة أشبه بـ«غرف غاز هتلر» لكن بسادية علنية مدعومة بتأييد شعبى داخل إسرائيل

- عندما أنظر إلى الطلاب الإسرائيليين لا أرى سوى قتلة أطفال فكيف يمكننى أن أتسامح معهم؟

استضاف الصحفى محمد حسن المفكر والكاتب الأمريكى نورمان فينكلشتاين، فى حلقة جديدة من بودكاست «الصورة الكبرى»، دارت حول التحولات العميقة التى يشهدها الشرق الأوسط والعالم فى أعقاب الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، والتداعيات المستمرة للعدوان الإسرائيلى على غزة، فضلًا عن التغيرات السياسية فى الولايات المتحدة، خاصة فى مدينة نيويورك.

كشف «فينكلشتاين»، فى «البودكاست»، عن عمق الأزمة السياسية والأخلاقية التى تعصف بالولايات المتحدة، مُسلطًا الضوء على التحديات التى تواجه الحركات الشعبية المطالبة بالعدالة، سواء فى نيويورك، أو غزة، أو أى مكان آخر فى هذا العالم المضطرب.

وتحدث الكاتب والمفكر الأمريكى باستفاضة عن فوز السياسى التقدمى زهران ممدانى من الفوز فى الانتخابات التمهيدية لمنصب عمدة نيويورك، رغم شن حملة شرسة ضده، خاصة فى الأحياء ذات الأغلبية اليهودية.  

زهران ممدانى

بدأ النقاش من تصريح حديث لرئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، قال فيه إن «إسرائيل غيّرت وجه الشرق الأوسط والعالم بعد حربها مع إيران». بالنسبة لـ«فينكلشتاين»، ثمة قدر من الحقيقة فى هذا التصريح، لكنه لا يخلو من المبالغة والدعاية السياسية المعتادة من الجانب الإسرائيلى، معتبرًا أن التغيير الحقيقى بدأ منذ٧ أكتوبر، بعدما دخل المشهد الإقليمى والدولى مرحلة جديدة من التفاعلات على عدة جبهات: العسكرية والقانونية والسياسية، وحتى على صعيد الرأى العام.

أحد أبرز تجليات هذا التغيير الناتج عن «٧ أكتوبر»، وفق «فينكلشتاين»، هو نتائج الانتخابات الأخيرة فى نيويورك، بعدما تمكن السياسى التقدمى زهران ممدانى من الفوز، رغم شن حملة شرسة ضده، خاصة فى الأحياء ذات الأغلبية اليهودية.

وقال «فينكلشتاين» إن الحملة ضد «ممدانى» كانت غير مسبوقة من حيث الحدة والتنظيم، لدرجة أنه تلقى ٧ منشورات دعائية تهاجم الرجل مباشرة، خلال أسبوع واحد فقط، مضيفًا: «الرسالة فى جميع هذه المنشورات كانت واحدة: «ممدانى معادٍ للسامية، متطرف إسلامى، ويجب بأى ثمن منعه من الفوز»، فى محاولة واضحة لتعبئة الرأى العام ضد السياسى التقدمى.

بالنسبة لـ«فينكلشتاين»، كانت نيويورك دائمًا ما تُعتبر «معقلًا عالميًا لليهود»، خاصة فى الجانب الشرقى الأعلى من مانهاتن، الذى وصفه بأنه «أغلى قطعة أرض فى العالم»، ويضم نسبة كبيرة من الأثرياء اليهود. لذا كان الخوف من فوز «ممدانى» مضاعفًا، فهو سياسى معروف بانتقاده الحاد لإسرائيل، ومن جهة أخرى يُعد تهديدًا مباشرًا لمصالح طبقة «المليارديرات» فى المدينة.

وأضاف الكاتب والمفكر الأمريكى: «خصوم ممدانى، بدعم من لوبيات مؤيدة لإسرائيل وأصحاب رءوس الأموال، أنفقوا ما يقارب٣٠ مليون دولار لدعم منافسه أندرو كومو، بينما لم يتجاوز ما أنفقه ممدانى ١.٢ مليون دولار. ورغم هذا الفارق الهائل فى التمويل، خسروا، وهُزمت معهم جماعات ضغط كبرى مثل (آيباك) و(نيويورك تايمز) و(ذا أتلانتيك)».

ورأى أن «الخطاب السياسى الذى كان حتى وقت قريب يُعتبر غير شرعى أو متطرفًا فى نيويورك، أصبح الآن جزءًا من التيار السياسى العام، خاصة بعد الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة»، مضيفًا: «رغم أن السبب الأبرز لفوز ممدانى كان تركيزه على قضايا المعيشة وتكاليف السكن، اللافت للنظر، أن مواقفه من إسرائيل لم تُقصه من السباق الانتخابى، ولم تفقده شرعيته السياسية. بل على العكس، أصبح من الممكن الآن أن يتبنى سياسى أمريكى موقفًا نقديًا واضحًا تجاه إسرائيل ويظل منافسًا قويًا وفعالًا».

وعبّر «فينكلشتاين» عن شعوره بالغضب الشديد من الحملة الشرسة ضد «ممدانى»، وهو ما دفعه للخروج فى اليوم الأخير من الحملة الانتخابية لدعمه، مضيفًا: «كنت قد توقفت عن المشاركة، وظننت أن دورى قد انتهى، لكن عندما وصلتنى الرسائل العدائية هذه كلها، وجدت أنه من غير المقبول أن تُشترى هذه الانتخابات بأموال المليارديرات من المتطرفين اليهود».

فى يوم الانتخابات، ذهب «فينكلشتاين» إلى محطة القطارات، الواقعة بشارع «٧» فى «بروكلين»، وأخرج من حقيبته المنشورات الهجومية، وقال للناس: «الأمر بسيط، هل تريدون أن تظل هذه المدينة ملكًا للجانب الشرقى ولطبقة الأثرياء، أم تريدونها مدينة للجميع؟ يمكنكم الاختلاف مع ممدانى فى أى قضية، هذا مفهوم، لكن المسألة الآن لم تعد سياسة، بل من يملك هذه المدينة: الشعب أم المليارديرات؟». وبينما كان يعرض للناس تلك المنشورات، خاطبهم قائلًا: «انظروا إلى ما وصلنى، هذه ليست حملة انتخابية، هذه محاولة شراء».

اعترف «فينكلشتاين» بأنه دعا الناس صراحة للتصويت لـ«ممدانى»، الذى كان خلال ذروة الحملة الانتخابية من أبرز المدافعين عن الانتفاضة العالمية ضد العدوان الإسرائيلى، واتخذ مواقف جريئة مناصرة للفلسطينيين، ووصف ما يحدث فى غزة بأنه إبادة جماعية، مؤكدًا أن هذا التوصيف لم يعد رأيًا متطرفًا، بل صار جزءًا من التيار السائد عالميًا، خاصة بعد المجازر التى تحدث هناك.

7  أكتوبر

انتقل «فينكلشتاين» للحديث عن٧ أكتوبر، واصفًا ما فعلته «حماس» بأنه «مقامرة يائسة» جاءت كرد فعل على سنوات من الحصار والتجويع والتهميش، فى ظل تسارع التطبيع بين إسرائيل ودول عربية مثل السعودية، معتبرًا أن العملية لم تكن مخططة بشكل استراتيجى واسع، لكنها أظهرت براعة تكتيكية تجاوزت توقعات الجميع، خاصة فيما يتعلق باختراق النظام الأمنى الإسرائيلى.

ورأى الكاتب والمفكر الأمريكى أن «حزب الله» وإيران لم يكونا على علم مسبق بالعملية، موضحًا أن «حسن نصرالله، بصفته قائدًا متمرسًا، كان يدرك أن (حزب الله) غير جاهز لمواجهة مفتوحة، وكذلك القيادة الإيرانية التى عُرفت دائمًا بحساباتها الدقيقة»، معترفًا بأنه بالغ فى تقدير قوة «حزب الله» سابقًا، ليفاجأ بسرعة تحييد إسرائيل للحزب.

وعبّر عن صدمته من ضعف ردود الأفعال الدولية تجاه المجازر فى غزة، معتبرًا أن مبادرة جنوب إفريقيا برفع دعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية خطوة جيدة، لكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن، واصفًا ذلك بأنه انهيار لمنظومة الأمم المتحدة، التى وقفت عاجزة أمام «حربين عدوانيتين شنتهما كل من إسرائيل والولايات المتحدة دون محاسبة».

وقارن «فينكلشتاين» بين الوضع الحالى، وحرب الخليج ١٩٩١ وحرب العراق ٢٠٠٣، مشيرًا إلى أن إدارات بوش الأب والابن بذلت جهدًا للحصول على غطاء أممى، بينما إدارة «بايدن» لم تحاول حتى ذلك، واصفًا هذا السلوك بأنه «وقاحة غير مسبوقة».

وسخر من صحيفة «نيويورك تايمز» التى تساءلت على صفحتها الأولى عن مشروعية ضرب إيران، قائلًا: «الإعلام يعيش داخل فقاعة منفصلة عن العالم»، قبل أن يعبّر عن خيبة أمله الكبيرة من حجم الحراك الشعبى الهزيل، مشيرًا إلى أنه فى عام ٢٠٠٣ خرج مليون متظاهر ضد الحرب على العراق، بينما الآن بالكاد خرج ٤٠٠ شخص فى نيويورك.

ورأى أن غياب النقاش حول مشروعية الحرب على إيران يمثل «إعلان وفاة للنظام القانونى الدولى»، مضيفًا: «لم يطالب أحد بمحاسبة إسرائيل أو الولايات المتحدة، ولا حتى الأمم المتحدة أصدرت بيانًا».

وبعدما عرج على الحرب الأمريكية الإسرائيلية ضد إيران، عاد «فينكلشتاين» للحديث عن الوضع فى غزة، قائلًا إن ما يجرى هناك لم يعد كما كان فى السابق «عمليات محدودة»، بل دخل مرحلة «الحل النهائى لمسألة غزة»، حيث لا ماء ولا طعام ولا كهرباء، ولا وجود حقيقيًا للمدنيين.

وقال المفكر الأمريكى إن «نتنياهو» استغل انشغال الإعلام بالحرب على إيران ليستأنف الهجوم على غزة بأقصى درجات العنف، كاشفًا عن أن خطة إسرائيل تقوم على ٣ ركائز: ارتكاب إبادة جماعية وفقًا لتعريف اتفاقية الأمم المتحدة لعام ١٩٤٨، تحويل غزة إلى مكان غير صالح للحياة، والتهجير إلى سيناء.

ووصف المشهد فى غزة بأنه يفوق التصور، حيث الناس تموت جوعًا وعطشًا، ومؤسسات الإغاثة تفككت، والمساعدات تحولت إلى وسيلة قمع، واصفًا ما تُسمى بـ«مؤسسة غزة الإنسانية» بأنها مجرد «واجهة للخداع»، قبل أن يضيف: بمرارة: «ما يحدث أشبه بغرف الغاز، لكن هذه المرة بسادية علنية مدعومة بتأييد شعبى واسع داخل إسرائيل».

انتفاضة الجامعات الأمريكية

عن الجدل الدائر داخل الجامعات الأمريكية حول «معاداة السامية»، قال «فينكلشتاين»:

«فى الجامعات الأمريكية، يتحدث الجميع عن معاداة السامية. هناك من يعتبر أن مجرد تجنب الطلاب الإسرائيليين شكل من أشكال الكراهية. لكن عندما أنظر إلى هؤلاء الطلاب، لا أرى سوى قتلة أطفال. هل يُطلب منى أن أكون متسامحًا معهم؟ لا، لا يمكننى ذلك».

وأضاف «فينكلشتاين»: «أشجع النقاش والاختلاف داخل فصولى الدراسية، وأقبل جميع الآراء، وأحيانًا أتبنى الرأى المخالف لتحفيز الجدل، لكن هناك شرط أساسى: الأيدى النظيفة»، مستدركًا: «لا يمكننى الجلوس فى حوار أكاديمى مع من شارك فى إبادة جماعية. لا أستطيع أن أتجاوز ذلك، لا أخلاقيًا ولا إنسانيًا. كيف أتعامل مع طالب أطلق النار على طفل، أو فجّر مستشفى، ثم نشر ما فعل على وسائل التواصل الاجتماعى وهو يضحك؟ هذا فوق طاقتى!».

وواصل: «التقديرات الواقعية لعدد القتلى فى غزة تجاوزت ١٠٠ ألف شخص، أكثر من نصفهم نساء وأطفال. ربما يسبب هذا الموقف لدى مشكلات مهنية، لكن هذه قناعتى. من خدم فى غزة خلال هذه الحرب مذنب حتى تثبت براءته. مجرد التواطؤ فى تجويع الأطفال حتى الموت، هو فى حد ذاته مشاركة فى الإبادة».

ورأى «فينكلشتاين» أن انشغال العالم بالحرب على إيران سمح للإبادة فى غزة بدخول مراحلها النهائية بلا أى قيود، ولا حتى مظاهر شكلية لاحترام القانون الدولى.

وفى حديثه عن ازدواجية المعايير، هاجم بعض طلاب الخليج فى جامعة «هارفارد»، الذين وقفوا يشهدون لصالح الطلاب الإسرائيليين بدعوى «تعرضهم للتمييز»، معتبرًا ذلك موقفًا مخزيًا يثير الضحك والأسى. كما أعرب عن حزنه لغياب الشارع العربى، الذى كان فى الماضى قوة ضغط هائلة. قائلًا: «نحن اليوم نعيش فى عالمين متوازيين. أوروبا وفرنسا ما زالتا تتحدثان عن النظام القائم على القواعد، بينما الحقيقة أن الحروب والإبادات تُرتكب بلا عقاب، والناس باتوا أكثر وعيًا بذلك».

ورأى أن تجربة غزة ربما تئول إلى نفس مصير فيتنام من حيث النسيان الدولى، مضيفًا: «التقديرات تقول إن ٢ مليون فيتنامى قتلوا على يد أمريكا، إضافة إلى ما يقرب من مليون فى لاوس وبعض الكمبوديين، ليصل عدد من أبادتهم الولايات المتحدة إلى حوالى ٤ ملايين شخص».

وعبر «فينكلشتاين» عن شكوكه العميقة تجاه استمرارية ما يسمى «تغيير الوعى»، الذى شهدته الشهور الأخيرة، قائلًا: «عشت طويلًا لأشاهد أحداثًا كانت تبدو مهمة فى وقتها، ثم اختفت فى العدم. حينها يصعب أيضًا الاستمرار فى الغضب».

ممدانى مرة أخرى

فى نهاية الحوار، عاد «فينكلشتاين» للحديث عن زهران ممدانى، ومدى شعور الطبقة السياسية الأمريكية بالخطر مما يمثله، والجيل الذى انتخبه، قائلًا: «هذا سؤال كبير، وليس لدى وقت لشرحه بالتفصيل الذى يستحقه، لكننى سأقول إن ممدانى يمثل الصراع الطبقى».

وأضاف الكاتب الأمريكى: «عندما ظهر تحدى بيرنى ساندرز للنظام القائم، حاولت القوى الحاكمة أن تربك المشهد عن طريق مهاجمة بيرنى، باعتباره ضعيفًا فى قضايا السود والعرق والنساء، وقالوا إنه يمثل «الإخوة بيرنى»، فى إشارة إلى أنه كان مدعومًا من رجال بيض».

لكن حملة «بيرنى» كانت تدور حول الصراع الطبقى، وكان يهاجم الطبقة المليارديرية وجولدمان ساكس، وفق «فينكلشتاين»، الذى أضاف: «الهجوم المزدوج من الحزبين الجمهورى والديمقراطى على ساندرز كان محاولة واضحة لإخفاء هذا الصراع».

أما مع «ممدانى»، فقال «فينكلشتاين» إن هذه السياسة لن تنجح ضده، فلا يمكن القول إنه ضعيف فى قضايا العرق أو الدين أو الإثنية، مضيفًا: «لا يمكنك استخدام هذه التكتيكات، إنها صراع طبقى صريح، حملته مثل حملة بيرنى.. بيرنى كان يتحدث عن القدرة على تحمل تكاليف المعيشة، وكذلك ممدانى».

وواصل: «فى الانتخابات التمهيدية، ضخوا أموالهم بشكل غير مسبوق، خاصة شخصيات مثل مايكل بلومبرج، الملياردير اليهودى المتطرف، الذى تبرع بحوالى ٨.٣ مليون دولار لدعم كومو (منافس ممدانى)».