مريام كوك: نوال السعداوى «مُلهمة».. ولا تزال شعاع نور

- نظيرة زين الدين رائدة الحركة النسوية الإسلامية.. وأكدت أنه لا يجوز تفضيل الحديث عن القرآن
- يحيى حقى «صائغ العربية».. وكتاباته «آسرة» وبها مزج فريد بين الروحانى والسياسى
- أعمال المبدعين السوريين حملت رسائل احتجاج خفية قبل قيام الثورة بسنوات
- وفرة الجوائز الأدبية أسهمت فى ز يادة الاهتمام بالأدب العربى
تبرز البروفيسورة الأمريكية مريام كوك كأحد الأصوات الأكاديمية الرائدة، التى تسعى لفهم دور الإبداع فى بناء الهوية السياسية والثقافية فى العالم العربى، انطلاقًا من تأثير الفن فى الثورة السورية رغم الرقابة والقمع، إلى تحول الهويات القبلية فى الخليج من مفهوم تقليدى إلى جزء أساسى من الهوية الوطنية الحديثة، علاوة على كتاباتها الثرية حول الكتابة النسائية فى الوطن العربى.
البروفيسورة الأمريكية كتبت بحب وشغف عن المفكرة الراحلة نوال السعداوى، والأديب الكبير الراحل يحيى حقى، واهتمت كثيرًا بأفكار المفكرة اللبنانية نظيرة زين الدين، ما جعل كتاباتها تتسم بالثراء الشديد، وتجذب العديد من المهتمين بالأدب العربى بصفة عامة، والكتابة النسائية على وجه التحديد.
فى حوارها التالى مع «حرف»، نستكشف أفكار الأكاديمية الأمريكية المتخصصة فى دراسات الشرق الأوسط والعالم العربى، والمهتمة بالأدب العربى وإعادة التقييم النقدى لأدوار المرأة فى المجال العام، وذلك حول الكتابة النسائية فى العالم العربى، وكيف يمكن أن يسهم الأدب والفن فى تعزيز فهم أعمق لدور المرأة فى تاريخ الأمة، وغيرها الكثير.

■ فى كتابكِ «Dancing in Damascus» تناولتِ دور الفن والإبداع فى الثورة السورية، كيف بدأ اهتمامكِ بدراسة تأثير الفن فى الثورات، وتحديدًا فى سياق الثورة السورية؟
- بعد إصدار كتاب «أصوات أخرى للحرب» عام ١٩٨٧، و«المرأة وقصة الحرب» عام ١٩٩٦، واصلت اهتمامى بكتابات النساء العربيات فى سياقات الصراع. قررت التوجه إلى سوريا للبحث فيما إذا كانت الكاتبات السوريات قد وجدن فى الكتابة وسيلة للتعبير عن رفضهن لحكم حافظ الأسد وقوانينه العرفية التى أخرست الجميع باستثناء المطيعين.
أمضيت ٧ أشهر هناك، التقيت خلالها بكاتبات وكُتّاب ومخرجين وفنانين ونحاتين، تحدثنا عن أعمالهم وحياتهم. رغم الحذر العام من نقد النظام بشكل مباشر، كانت أعمالهم تحمل رسائل احتجاج خفية. وعندما سألت بعضهم عن استخدام المجاز كوسيلة لتجاوز الرقابة، أنكروا ذلك تمامًا. لكن المخرج محمد ملص وصف الرقابة بـ«الهبة»، لأنها تدفع الفنان للتفكير بطرق بديلة للتعبير.
أما المسرحى غسان الجباعى، فشرح كيف عكست قصصه الغامضة تجربته بالسجن، وكشف لى رموزًا عن عزلة الحبس الانفرادى وشدة المعاناة. بينما الشاعر ممدوح عدوان رفض اعتبار مسرحيته «الغول» مجازًا عن «الأسد»، رغم أن «الجوقة» فيها تحذر «جمال باشا العثمانى» بأن شرّه سيلحقه إلى القبر وما بعده، تمامًا كما حدث مع «حافظ»، وما سيواجهه «بشار».
نشرت هذا البحث عام ٢٠٠٧ فى كتاب «سوريا المعارضة: جعل الفنون الاحتجاجية رسمية»، وبدا لى وقتها أن هؤلاء المبدعين كانوا يبذرون بذور ثورة، وإن بدت آنذاك حلمًا مستحيلًا. ثم جاء مارس ٢٠١١، عندما كتب أطفال درعا على جدران مدرستهم شعارات ضد بشار الأسد، ورأيت الصلة الواضحة بينهم وبين من قابلتهم. خرج الناس إلى الشوارع يهتفون ويغنون رغم بطش النظام. وراح الفنانون يردّون بالإبداع: فى السينما والموسيقى والأدب.
أسست سناء يازجى منصة «الذاكرة الإبداعية للثورة السورية» لتوثيق آلاف الأعمال الفنية الثورية، بعيدًا عن الإعلام التقليدى، لتُظهر شجاعة السوريين وإبداعهم. ولا يزال الموقع نشطًا حتى اليوم، شاهدًا على أن الثورة مستمرة رغم القصف والدمار. فهل يكون ٨ ديسمبر ٢٠٢٤، بإسقاط النظام وفتح السجون وتشكيل حكومة جديدة، هو تحقيق الحلم المؤجل منذ التسعينيات؟

■ من خلال الكتاب، تُظهرين كيف أن الرقابة الحكومية حاولت تقييد الإبداع فى سوريا. اليوم، فى ظل الوضع السياسى القائم، هل تجدين أن الفن السورى لا يزال يعانى من نفس القيود؟
- لقد حاولت سلطتا الأب والابن، حافظ وبشار الأسد، تطويق الخيال وكتم أنفاس الإبداع، لكنهما عجزتا عن إخماد شرارته. ومع أن ملامح المرحلة المقبلة لا تزال ضبابية، خاصة فيما يتعلّق بما لن يغفره النظام الجديد، كأى تعبير تُشمّ منه رائحة تجديف أو خروج عن الثوابت، فإننا أمام فصل جديد من الرقابة، مختلف فى أدواته، وإن لم يُلغِ الحذر. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا بأن تتنفس الكلمة والفكرة هواءً أرحب، ولو بعد حين.
■ على ضوء كتابكِ «The Anatomy of an Egyptian Intellectual: Yahya Haqqi».. كيف بدأتِ اهتمامكِ بالكتابة عن يحيى حقى؟ ولماذا هو بالذات؟
- حين بدأت دراساتى العليا فى جامعة «أكسفورد»، كان اهتمامى منصبًّا على استكشاف أثر التصوف فى الأدب العربى الحديث. اقترح علىّ مشرفى، الدكتور مصطفى بدوى، دراسة أعمال يحيى حقى، خاصة «قنديل أم هاشم». ومنذ اللحظة الأولى، أسرتنى كتاباته، فقد وجدت فيها تمازجًا فريدًا بين الروحانى والسياسى، يتسلل برشاقة إلى رواياته كما إلى مقالاته، كأنما ينسج بخيوط الحكمة والنقد تأملًا عميقًا فى تحولات الإنسان والمجتمع.
فى البداية، أسرنى عالمه القصصى، لكن سرعان ما أدركت أن الغوص فى أعماق يحيى حقى لا يكتمل بقراءة نصوصه الإبداعية فقط، بل يستدعى الإحاطة بمجمل إرثه الأدبى والفكرى. تواصلت مع أصدقائه وزملائه الذين زوّدونى بمقالات نادرة ومراجعات لم تُنشر فى أى مصدر متداول، ومن خلالها بدأت تتكشف لى ملامح هذا العقل المتفرّد. أما التحدى الأعمق، فكان سؤالًا ظلّ يراودنى: هل بوسعى، كامرأة أمريكية، أن أنصف دقّة وجمال لغةٍ نُقش بها لقب «صائغ العربية»؟ كان ذلك اختبارًا لترجمتى وفهمى، بل لهويتى كقارئة تسعى للإنصات حقًا.

■ هل التقيتِ يحيى حقى شخصيًا أثناء العمل على الكتاب؟
- عبر محادثات مطوّلة جمعَتنا فى قلب القاهرة، تعرّفتُ على شغفه بالتصوف وفضوله الهادئ تجاه الأديان، وكيف غذّى ذلك روحه القصصية وأضاء جوانبها الخفية. كنت أستمتع بالتجول معه فى الشوارع، ذراعه فى ذراعى، إلى أن ألتفت فأجده وقد تباطأ خطواته، منصتًا بخشوع لمحادثة بين غرباء. أوضح لى لاحقًا أن تلك اللحظات تمنحه مدخلًا صادقًا إلى وجدان الناس: همومهم الصغيرة، وانفعالاتهم الصامتة، وطريقتهم التلقائية فى التعبير، حين يظنون أن لا أحد يُصغى. ثم يضحك بخفة، وكأنّه التقط كنزًا. عرفت آنذاك أن حواراته القصصية لم تُختلق خلف مكتب، بل نُسجت من نبض الأرصفة، ومن شتات العبارات العابرة.

■ فى «Tribal Modern» تتحدثين عن إعادة تعريف القبيلة كجزء من الهوية الوطنية الحديثة فى الخليج. هل ترين أن هذا الدمج يعيد تشكيل مفهوم الحداثة نفسه؟
- فى القرن العشرين، ساد بين علماء «الأنثروبولوجيا» تصور سلبى للهويات القبلية، إذ ارتبطت لديهم بالمجتمعات البدائية المنعزلة عن مسار التحديث. لكننى وجدت نفسى على خلاف مع هذا التصور، خاصة بعد إقامتى فى قطر، حيث لاحظت أن كثيرًا من أبناء الخليج الذين يستطيعون تتبّع أنسابهم لما يزيد على قرن، ينظرون إلى الروابط القبلية كجزء لا يتجزأ من هويتهم المعاصرة، بل كعلامة على الحداثة. وفى القرن الـ٢١، بات مصطلح «قبلى» يُستخدم غالبًا للإشارة إلى هويات جماعية حديثة، سواء كانت سياسية أو تجارية أو اجتماعية، ترى فى الانتماء المشترك مصدرًا للقوة والفاعلية.

■ فى كتابكِ «Nazira Zeineddine» تذكرين كيف استخدمت نظيرة زين الدين نصوصًا دينية لإعادة تفسير قضايا مثل الحجاب والتعليم والزواج.. لماذا نناقش نفس القضايا اليوم بنفس الردود؟
- فى عام ١٩٢٨، كانت اللبنانية نظيرة زين الدين رائدة الحركة النسوية الإسلامية، التى لم تنطلق إلا فى الثمانينيات كرد فعل على الثورات الإسلامية الأصولية فى إيران وباكستان والسعودية. كان كتابها «الحجاب والكشف» نقدًا دقيقًا للتفسيرات الذكورية للقرآن والأحاديث. وأكدت أن القرآن يجب أن يأتى أولًا باعتباره كلمة الله، وأنه لا يجوز تفضيل أقوال النبى محمد عليه.
من خلال مقارنة القرآن بالأحاديث، أظهرت أن النبى الذى أحب النساء، لم يكن ليعتقد أبدًا أنهن ناقصات فى الدين والعقل. دعت النساء إلى دراسة النصوص الإسلامية بأنفسهن لتجنب الوقوع ضحايا لتفسير السلطات الذكورية. لم ترفض الحجاب، لكنها أكدت أن للمرأة الحق فى أن تختار ارتداءه أو خلعه.
هاجمتها السلطات المحلية بعنف لدرجة أن زوجها نصحها بالبقاء فى المنزل والابتعاد عن نشاطها النسوى. خلال بحثى فى حياتها وكتاباتها، شعرت بالدهشة من تجاهلها فى كتابات النسويات الإسلاميات. يجب على الكتّاب الاعتراف بالإصدارات السابقة، لأن عدم فعل ذلك يمحو جهود الرواد، ويضعف حججهم، ويعزز معارضيهم. لذا، ما زلنا نناقش نفس القضايا اليوم بنفس ردود الأفعال.

■ فى كتابكِ «War’s Other Voices»، كيف أسهمت الكتابة النسائية فى إعادة تشكيل فهمنا لصوت النساء فى زمن النزاع؟
- عند بحثى وكتابة هذا الكتاب، كنت مقتنعًة أن كتابات هؤلاء النساء ستسهم فى إعادة تشكيل فهمنا لأصوات النساء فى أوقات النزاع. تركيزهن على العنف اليومى أظهر تأثيره على النساء اللواتى كان يُفترض بهن أن يكن بعيدات عن جبهة الحرب، لكنهن فى الواقع كنَّ دائمًا هناك.
تناقضت كتاباتهن مع قصة الحرب التى يرويها الرجال، كما كتبت فى «النساء وقصة الحرب» عن النساء اللواتى كتبن عن فلسطين والجزائر والعراق، ولبنان بعد الاحتلال الإسرائيلى. عادة ما تروى قصة الحرب الواحدة التبرير وتعرض سردًا بسيطًا يتجاهل التجارب الفردية غير البطولية. مع الأسف، يبدو أن هذه الكتابات لم تسهم بشكل كبير فى تشكيل الهوية الوطنية اللبنانية بعد الحرب، وذلك ربما بسبب الهامشية التى يُنظر بها إلى الأدب الروائى فى لبنان، وزيادة تأثير وسائل التواصل الاجتماعى التى حلت محل القراء التقليديين.

■ كيف ترين دور الأدب العربى فى تشكيل الهوية الثقافية والسياسية فى العالم العربى؟ وهل تعتقدين أن الكتابة النسائية فى المنطقة قد حققت أو ستتمكن من تحقيق التغيير فى فهم المجتمع لدور النساء فى تاريخ الأمة؟
- لقد أسهمت وفرة الجوائز الأدبية فى زيادة الاهتمام بالأدب العربى، ما أدى إلى بروز جوائز جديدة مخصصة للترجمات. ورغم هذا الاهتمام، يبقى دور الأدب العربى فى تشكيل الهوية الثقافية والسياسية، باستثناء الأدب الفلسطينى الذى تجسد فى أعمال شعراء مثل محمود درويش وكتّاب مثل عدنية شبلى وغسان كنفانى، غير واضح.
من أبرز الاستثناءات كان دور نوال السعداوى، التى تركت بصمة قوية على الهوية الثقافية والسياسية، خاصة بين الشباب، وظلت طوال حياتها واحدة من القلائل من النساء الكاتبات اللاتى كان لهن هذا التأثير العميق. وحتى بعد ٣ سنوات من وفاتها، لا يزال العديد ينظرون إليها كمرشدٍ لهم، مصدر إلهامهم وتضامنهم فى مواجهة الأوقات الصعبة.
فى عالم يشهد تزايدًا فى هيمنة الأنظمة السلطوية التى لا تحتمل الحضور العلنى للنساء، فضلًا عن تمكينهن، فإن الكتابة النسوية العربية ستواجه، كما هو الحال فى أى مكان آخر، تحديات كبيرة لتحقيق التغيير فى الطريقة التى يفهم بها المجتمع دور النساء فى تاريخ هذه الأمة.
■ بعد سنوات من الحرب كيف ترين تأثير هذه السنوات على المشهد الثقافى فى سوريا؟
- يشهد موقع «الذاكرة الإبداعية للثورة السورية» على عناد الروح السورية وخلودها، خاصة فى نفوس فنانيها. ورغم أن الأفق لا يزال غائمًا، أؤمن بأن الفنانين سيكونون من أوائل من يخطّون ملامح المرحلة المقبلة، حاملين شعلة الإلهام وسط رماد الدمار، ومرافقين الناس فى عبورهم المضنى من ليل اليأس إلى فجر الأمل، ومن الخراب إلى احتمالات التجدد على كل صعيد.