ريتشارد ميدهورست: اتهمونى بالانتماء لـ«حماس» رغم أنى مسيحى ولم أزر فلسطين قط!

- سمعت مسئولين إسرائيليين يقولون «حدودنا ستمتد إلى دمشق»
- أردوغان لا يزال يزوّد إسرائيل بما تحتاجه من وقود وغذاء
- احتجزونى 24 ساعة فى المملكة المتحدة دون استجواب لتخويفى
استضاف الكاتب الصحفى الأمريكى كريس هيدجز، فى أحدث حلقات برنامجه لـ«البودكاست»، الصحفى والمعلق السياسى البريطانى السورى ريتشارد ميدهورست، الذى أصبح رمزًا للصحافة الاستقصائية الحرة، فى وقت تعيش فيه «صاحبة الجلالة» تحديات غير مسبوقة.
خلال الحلقة، تحدث «ميدهورست» عن معركته القانونية ضد السلطات البريطانية والنمساوية، التى تستهدفه بسبب تغطيته الشجاعة لقضايا حساسة مثل فلسطين ولبنان، مستعرضًا تجربته القاسية جراء مواقفه، من الاعتقال فى مطار «هيثرو» إلى التحقيقات المستمرة فى النمسا.
من خلال هذه التجارب، التى روى الصحفى البريطانى السورى تفاصيلها، فى الحوار الذى تترجمه «حرف» خلال السطور التالية، يكشف عن تفاصيل القمع الممنهج للصحفيين الذين يجرأون على قول الحقيقة، والأبعاد السياسية وراء استهداف الصحفيين المعارضين لسياسات الاحتلال الإسرائيلى، والمدى الذى قد يصل إليه التضييق على الصحافة فى ظل هذا المناخ العالمى المشتعل.
■ لماذا أثارت تقاريرك هذا الرد العنيف من إسرائيل وحلفائها فى بريطانيا والنمسا؟
- نعلم جميعًا أن مصطلح «معاداة السامية» يُستخدم لقمع المعارضة، وإسكات أى صوت ينتقد الصهيونية، وهى فى جوهرها حركة استعمارية أوروبية.
بالتأكيد نُصّنف جميعًا باعتبارنا «معادين للسامية» بهدف تشويه سمعتنا.
الأمثلة التى اختاروها من عملى واستخدموها لوصمى بـ«معاداة السامية» هى دليل إضافى على وجهة نظرى. مثلًا ما حدث فى سوريا خلال الأشهر الماضية: إزاحة «الأسد»، وسيطرة «الجولانى»، الذى كان قائدًا فى «داعش» و«القاعدة»، وقصف إسرائيل لدمشق دون أن يحرك «الجولانى» وجماعته ساكنًا، كل هذا يثير الكثير من التساؤلات.
لدينا الصور التى تُظهر «نتنياهو» يُصافح جرحى مما يُسمّى بـ«المعارضة السورية»، بعدما نُقلوا إلى مستشفيات ميدانية تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلى، حيث قدموا لهم العلاج، وربما الدعم العسكرى والمخابراتى.
هذه حقائق موثقة، وكل ما فعلته أنى أشرت إليها. لا أعلم لماذا اختاروا تلك التغريدات بالذات. لكنى أعتقد أن السبب هو تغطيتى العامة للصهيونية، ولما يحدث فى فلسطين ولبنان وسوريا، وهو ما أغضبهم بشدة.

■ هل تعتقد أن عرضك لمقاطع فيديو فصائل المقاومة وتعليقك عليها كان سببًا وراء وضعك فى لائحة المتهمين، إلى جانب أشخاص مثل جيريمى كوربن؟
- فى المملكة المتحدة والنمسا، استجوبونى بسبب تقاريرى عن فلسطين ولبنان فقط. فى النمسا، كان أول «دليل» فى لائحة الاتهام، مقطع فيديو يظهر أشخاصًا من «حماس» يأكلون حلوى، فاتُهمت بالانتماء إلى الجناح العسكرى للحركة، رغم كونى مسيحيًا، ولم أزر فلسطين قط.
حاولت شرح أن «حماس» لا تسمح للمسيحيين بالانضمام إليها، لكن ذلك ضاع هباءً. اتُهمت بناءً على ادعاءات كاذبة، وداهمت فرق أمنية منزلى، وصادرت أشياء لا تخصنى، وما صدمنى أكثر هو بناء القضايا على أكاذيب دون أدلة حقيقية.
■ ما حقيقة اعتقالك على متن الطائرة فى مطار «هيثرو»؟
- عندما وصلت إلى مطار «هيثرو»، صعد عملاء الأمن إلى الطائرة قبل نزول الركاب، ومنعوا الجميع من النزول. طلبوا منى التوجه إلى مقدمة الطائرة، وعرفت حينها أن شيئًا غير طبيعى يحدث. بدأت أشعر أن لحظة الاعتقال قد حانت، رغم أننى لم أفعل شيئًا خاطئًا. كنت أعلم أن آخرين مثل ديفيد ميرندا وكريج موراى تعرضا للاضطهاد بموجب قانون «مكافحة الإرهاب». ثم اعتقلونى رسميًا وأخذوا حقائبى، وكان أحدهم يرتدى زيًا تكتيكيًا كاملًا، كما لو أنه من وحدة مكافحة إرهاب.
■ هل يمكن اعتبار ما حدث معك جزءًا من حملة منظمة لوقف أى شخص يدافع عن فلسطين؟
- الشرطة فى بريطانيا والنمسا علقت على عدد متابعينى وتأثيرى، وأظهرت لى لقطات من قناتى على «يوتيوب»، مشيرة إلى عدد المشتركين، ما يوضح أنهم يروننى «خطرًا». أعتقد أن هناك أسبابًا إضافية لم يصرحوا بها، مثل تغطيتى لقضية جوليان أسانج وحرب أوكرانيا، وكذلك موقفى من التدخل فى سوريا، وانتقادى لدور إسرائيل وأمريكا وبريطانيا. كل هذه التغطيات أغضبتهم.
شعرت بأن ما يحدث هو محاولة لجعلى «عِبرة». تفاجأت عندما تكرر الأمر فى النمسا، وصدمنى أننى مُلاحق قانونيًا فى بلدين مختلفين. صادروا معداتى فى كلا البلدين، وعلى رأسها الهواتف، وأجهزة لا تحتوى على بيانات مثل الميكروفونات، ما يوحى بأن الهدف هو منعى من مواصلة عملى.

■ أعتقد أن وضعك أسوأ من وضع كيت وكريج الذى سُجن لكنه لم يُطرد من المملكة المتحدة.. أليس كذلك؟
- ما يحدث لـ«كيت وكريج» هو اعتداء علينا جميعًا كصحفيين. لكن ما حدث لى يمثل تصعيدًا أكبر، لأنه لم يقتصر على احتجازى بموجب «الجدول السابع» من قانون الإرهاب، بل استخدموا «الجدول A١ ١٢» الجديد واعتقلونى مباشرة. أخذوا بصماتى وحمضى النووى، واحتجزونى ٢٤ ساعة فى المملكة المتحدة. ولم يستجوبونى حتى اليوم التالى.. هذا كان جزءًا من استراتيجية تخويفى.
فى النمسا، احتجزونى، أخذوا بصماتى وحمضى النووى، وصورونى. فى كلا البلدين كان هناك تصعيد واضح. بعد اعتقالى، استهدفوا ريتشارد برنارد من «Palestine Action»، ووجهوا له نفس التهم، ثم داهموا منزل سارة ويلكينسون وصادروا أجهزة لـ«آسا وينستانلى». يبدو أن الحملة بدأت من اعتقالى.
■ هل تعتقد أن شيئًا ما فجّر هذه الحملة؟
- أعتقد أن السبب هو وصول حزب «العمال» للسلطة. اُعتقلت فى أغسطس، بعد فوزهم بالانتخابات فى يونيو أو يوليو. كانت تلك آخر مرة زرنا المملكة المتحدة بسلام، وفى الزيارة التالية اُعتقلت. لا أقول إن «المحافظين» أفضل، لكن وصول «العمال» ربما كانت له علاقة بالأمر، خاصة بعد ما فعلوه مع جيريمى كوربين. كانت هناك عملية «تطهير» داخل الحزب ضد من يؤيد فلسطين. أعتقد أن السبب هو تأثير تغطيتنا، لأننا لم نكن نساند أى طرف، بل كنا فقط نقول الحقيقة عن فلسطين.
■ ما الأثر الذى تركه هذا على الصحفيين الآخرين؟ هل نجحوا فى إسكات الأصوات التى توثق ما يحدث فى فلسطين؟
- أعتقد أنهم نجحوا فى إسكات الأصوات. إذا كان بإمكانك الإفلات من جريمة إبادة جماعية تُبث على الهواء، فهذا يعنى أنك تستطيع الإفلات من أى شىء. بعد اعتقالى، كان لدىّ خيار، إما أن أخبر الناس بما حدث أو التزم الصمت. المحامون نصحونى بعدم التحدث علنًا، لأن ذلك قد يؤثر على القضية. لكن ما حدث لى غير مسبوق. شعرت أنه من واجبى أن أُخبر الناس. المادة «١١٢A» فضفاضة لدرجة أن مجرد قول حقيقة بسيطة قد يعرضك للسجن. يمكنهم توجيه تهم لك فقط لأن ما تقوله «يزعج الحكومة».

■ إذا كان الهدف هو إسكات منصتك، فقد نجحوا فى ذلك حتى الآن.. أليس كذلك؟
- صعّبوا علىّ مواصلة عملى. استهدفونى فى بلدى الأم والبلد الذى أعيش فيه. هناك أجندة واضحة لإيقافى عن العمل. أخذوا معدات بعشرة آلاف يورو، كأجهزة الكمبيوتر واللابتوب. ونفسيًا، حاولوا زعزعة استقرارى وإثارة قلقى. وقانونيًا الوضع أيضًا صعب للغاية، فالقانون فضفاض ويمكن أن يتحول التحقيق إلى أى شىء. منذ حوالى تسعة أشهر، لم أتمكن من العمل بشكل طبيعى، وهذا أثر على دخلى بشكل كبير.
■ ما الهدف من هذه الإجراءات برأيك؟ وهل تعتقد أن الهدف إسكات كل من يتجرأ على تغطية القضايا التى لا تريد إسرائيل نشرها؟
- لست متيقنًا من الهدف، ولكن بعض المحامين يرون أن خطتهم قد تكون إبقائى فى حالة «اللا وضوح، والانتظار» حيث لا يتعين عليهم تقديم القضية للمحكمة، ولكنهم فى الوقت نفسه يحققون هدفهم بإسكاتى بالتهديد المستمر بالإجراءات القانونية. مثلما حدث مع ريتشارد برنارد، الذى ظل تحت التحقيق لفترة طويلة ثم أعيد فتح قضيته ووجهت له التهم بعد إغلاقها. هذا يخلق حالة من عدم اليقين المستمر. الخيار الآخر هو أن يحال الأمر للمحكمة، لكننى لا أعرف ما هى خطتهم. أنا ممتن لأن العديد من المنظمات الصحفية تقف إلى جانبى، لأن هذه القضية تمثل تهديدًا لجميع الصحفيين.
■ كيف استولت السلطات النمساوية على مخطوطة كتابك؟
- نعم، كنت أعمل على كتاب عن الأمن السيبرانى واستولوا عليه. وحاولت التوسل إليهم وعرضت فتح الكمبيوتر إذا وعدوا بإعادته لى حتى أتمكن من الحفاظ على العمل، لكنهم أخذوه.
■ هل ستستعيد أشياءك المصادرة؟
- تحدثت مع فنيى تكنولوجيا المعلومات الذين يحاولون فك أجهزتى، وأوضحوا لى أنه إذا لم يتمكنوا من الوصول إليها، قد تُرسل إلى دول أخرى عبر القنوات الرسمية للتعاون بين الشرطة.
لست متأكدًا من مكان الأجهزة الآن، ربما تكون فى لندن أو تل أبيب، سألت الشرطة عدة مرات عن موعد استعادة أشيائى، فقالوا إنه إذا قدمت كلمات المرور، قد أستعيدها خلال عام أو بضعة أشهر. أما إذا لم أقدمها، فقد يستغرق الأمر سنوات. فى اليوم التالى، أعطونى إيصالًا طويلًا يحتوى على ١٩ أو ٢٠ صفحة من تواريخ وتفاصيل عن احتجاز أشيائى من الاستديو الخاص بى ومنزلى.
■ تغطيتك للإبادة الجماعية كانت مميزة وكذلك عمل «ألعازر» و«ماكس بلومنتال» فى «ذا جرايزون».. لكنّ عددًا قليلًا جدًا من الصحفيين قدّموا تغطية مميزة.. لماذا؟
- تعود قلة عدد الصحفيين الذين يغطون الإبادة الجماعية إلى خوفهم على مسيرتهم وحرياتهم إذا قالوا الحقيقة. الكثيرون يدركون ما سيحدث لهم إذا تحدثوا، ولا يريدون أن ينتهى بهم الحال مثل الذين تعرضوا للاعتقال أو الاضطهاد. الصحفيون غالبًا يلتزمون الصمت خوفًا من فقدان فرصهم المهنية، ويرون أن دعم الصهيونية يضمن لهم التقدم المهنى. الصحافة البريطانية لم تتناول ما حدث لى، بينما الصحافة النمساوية غطّت القصة.

■ كيف ترى تأثير الإبادة الجماعية على العلاقة بين العالم العربى والغرب فى ظل الغضب الشعبى من الجرائم الإسرائيلية وتواطؤ الأنظمة العربية المدعومة من الولايات المتحدة؟
- الوضع محبط للغاية. كنتُ أتوقع أن يقف القادة العرب والمسلمون مع الفلسطينيين، كما فى الماضى، لكن الواقع اليوم مختلف تمامًا. «أردوغان» نفسه، رغم خطاباته ضد «نتنياهو»، لا يزال يزوّد إسرائيل بما تحتاجه من وقود وغذاء، وفى الخفاء، كثيرون يتعاملون مع إسرائيل كحليف.
الشعوب العربية غاضبة، لكن هذا الغضب لا يؤثر على قرارات حكوماتها التى تستمر فى اتفاقيات التطبيع وتسعى إلى مزيد من التعاون الاقتصادى مع إسرائيل. هناك فجوة هائلة بين ما يريده المواطن العربى وما تفعله قياداته، وفجوة أكبر بين الجنوب العالمى والشمال العالمى.
حتى سوريا، التى كانت من آخر الدول الرافضة للاعتراف بإسرائيل، بدأت تتراجع. إسرائيل نجحت فى إزاحة خصومها واحدًا تلو الآخر: فى غزة، لبنان، والآن فى سوريا.
■ برأيك.. إلى أين تتجه الأمور فى غزة والضفة الغربية؟
- أعتقد أن ما يجرى يرتبط بشكل كبير بالطمع فى غاز سواحل فلسطين ولبنان وسوريا. بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إيران وروسيا، انقطعت كميات ضخمة من الغاز عن أوروبا، ما دفع إسرائيل لتوقيع صفقة مع مصر والاتحاد الأوروبى، لكنها بحاجة لمصدر فعلى لهذا الغاز، وهنا يأتى دور السيطرة على هذه المناطق.
فى رأيى، الخطة منذ البداية كانت واضحة: التهجير القسرى والتطهير العرقى فى غزة، وقد عبّروا عنها علنًا منذ الأيام الأولى. أما الضفة الغربية، فيجرى تفريغها من سكانها تدريجيًا وسط تجاهل كامل من العالم رغم القصف واستخدام الدبابات، كما حدث بالانتفاضة.
ما يحدث اليوم هو نتيجة لصمت المجتمع الدولى وتقصير الصحافة فى نقل الحقيقة، وهذا الصمت يسمح للشر بالتوسع. مشروع «إسرائيل الكبرى» ليس مجرد شعار؛ سمعت مسئولين إسرائيليين يصرحون بأن حدودها ستمتد إلى دمشق، وهم اليوم فعليًا على مشارفها.
■ هل تعتقد أن ما تعرّض له الفلسطينيون سيؤدى إلى ردود أفعال عنيفة مستقبلًا؟
- الاحتمالات كبيرة أن يتسبب الوضع الحالى فى ردود أفعال عنيفة قد تُستغل سياسيًا فى الغرب لتعزيز مشاعر الخوف والعنصرية. الأدهى أن مَن ساهموا بخلق هذا «الارتداد» هم أنفسهم من يتهمون الآخرين بالإرهاب، وهذه مفارقة كبيرة. فى النهاية، يصب كل هذا بمصلحة اليمين المتطرف، حيث يستخدمون الإرهاب كأداة لتمرير أجنداتهم السياسية. الواقع قاتم جدًا، ولا يمكننا تزيين الحقيقة، إذ إن ما يحدث حاليًا يُنذر بالكثير من التطورات المقلقة.