دام سو بلاك.. أشهر عالمة تشريح: عملى فى الجزارة وراء اتجاهى لـ«الطب الشرعى»

- والدى كان والدى طالما يتنفس وعندما مات أصبح لى مجرد جثة!
- أرى الموت أمرًا طبيعيًا وليس شيئًا نخافه بل نعيشه
- الموت يسير معنا يوميًا.. ومن الأفضل أن نصادقه لا أن نعاديه
- اخترت التعرف على الموت بدلًا من مقاومته.. والحزن «ضرورى»
تُعتبر البروفيسورة الإسكتلندية دام سو بلاك من أبرز علماء التشريح والطب الشرعى فى العالم، جمعت فى مسيرتها بين الدقة العلمية والرؤية الإنسانية العميقة، والتركيز على فهم الجسد البشرى وأسباب الوفاة بدقة متناهية، وفقًا لأسس علمية بحتة، تلغى ارتباط مجال التشريح بالغموض والماورائيات أو الخرافات، بما يخدم تحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة.
لم تكتفِ دام سو بلاك بالتحقيق فى قضايا كبرى، مثل جرائم الحرب فى كوسوفو، وتقديم أدلة حاسمة للضحايا وعائلاتهم، بل قدمت أيضًا كتابات ثرية فى التشريح والطب الشرعى، تتجاوز الجانب الطبى لتلامس الأبعاد الفلسفية والإنسانية للموت والجسد، ما يجعل صوتها فريدًا يجمع بين العلم والإنسانية.
عن التشريح والطب الشرعى، والكتابة عن الجسد البشرى والحياة والموت، وغيرها الكثير، يدور حوار «حرف» التالى مع البروفيسورة الإسكتلندية دام سو بلاك.

■ بداية.. ما الذى جذبك إلى علم التشريح، ثم الطب الشرعى والـ«أنثروبولوجيا» لاحقًا؟
- منذ طفولتى، كنت متعلقة بوالدى وأرافقه فى رحلات الصيد، وهناك علمنى كيف أسلخ الأرانب وأنتف الطيور، ولم أشعر يومًا بالنفور من الدم، وعندما بلغت الـ١٣، بدأت أعمل فى محل جزارة لأساعد فى مصروفات المنزل، ما جعلنى أعتاد التعامل مع الجثث والأنسجة.
رغم أن الجامعة لم تكن تقليدًا فى عائلتى، التحقت بها بناءً على نصيحة أستاذ الأحياء، ودرست التشريح، الذى وجدت فيه صلة قوية بتجربتى فى الجزارة. لم أجد شغفى فى المختبرات أو التجارب الحيوانية، بل فى تشريح الإنسان ودراسة الهياكل العظمية. وعندما تطلبت إحدى القضايا مساعدة من المتخصصين، وجدت نفسى أبدأ مسيرتى فى الـ«أنثروبولوجيا الجنائية»، عن طريق المصادفة تقريبًا.
■ غالبًا ما ترتبط مهنة الطب الشرعى بصور نمطية درامية، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. ما أول تجربة ميدانية لكِ تتذكرينها بوضوح؟
- أولى تجاربى حين تحطمت طائرة شاب فى بحر الشمال، وعُثر على جثته بعد أسبوعين فى حالة تحلل شديدة، ما صعّب التعرف عليه بالوسائل التقليدية، فلم يكن تحليل الحمض النووى أُعتمد رسميًا حينها.
كنت أدرس الدكتوراه آنذاك، ودُعيت للمساعدة. حددنا معلومات عامة عن الجثة مثل العمر والطول والأصل العرقى، لكنها لم تكن حاسمة. لاحظنا وجود وحمة على الصدر، نفتها والدته وأكدتها صديقته. بناءً على هذا، تم التعرف على الجثمان، لكن والدته رفضت التصديق.
علّمتنى هذه التجربة أن عملى يمكن أن يعيد هوية للمتوفين، ويمنح العائلات فرصة للحزن والوداع، ويخدم العدالة. هنا تأكدت أن هذا المسار الذى أريد أن أكرّس له معرفتى بالتشريح.
■ أنتِ من أهم علماء التشريح فى العالم، ومن أبرز القضايا التى شاركتِ فيها جرائم الحرب فى كوسوفو، كيف شكّلت تلك التجربة وعيك المهنى والإنسانى؟
- كوسوفو التجربة التى غيّرت حياتى. لم يسبق لى أن عملت فى قضايا المقابر الجماعية أو مناطق الحروب، حيث الظروف صعبة والمخاطر كبيرة، وكنا نعلم أن ما نجمعه من أدلة سيُستخدم فى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة مسئولين كبار. لم ننسَ أن عملنا كان من أجل العدالة والعائلات المفجوعة أيضًا.
شهدتُ دمارًا هائلًا ونساءً فقدن كل شىء، وأطفالًا بلا عائلات. وعند عودتى، شعرت بامتنان عميق لأن أولادى بأمان. كنت أضمّهم كل ليلة وأفكر فى أمهات كوسوفو المحرومات من ذلك. كان العلم أداة لتحقيق العدالة، ودورى، كما قال أحد الضباط، هو العثور على الأدلة وتحليلها وتقديمها بحياد.

■ كيف تختلف مهام الطب الشرعى فى الكوارث الطبيعية والحوادث الجماعية عن تحقيقات الجرائم؟
- نحن كعلماء نتدخل بعد الحدث لنؤدى مهمة محددة. هذه المهمة لا تتغير سواء كانت تحقيقًا جنائيًا أو استجابة إنسانية لحادث وفاة فردى أو جماعى. نعمل بكل دقة واهتمام فى كل الحالات.
■ فى كتابك «Written in Bone»، تقدمين الجسد بوصفه سجلًا بيولوجيًا يحمل فى طياته حكايات فردية وثقافية. كيف تطورت لديك هذه النظرة إلى العظام، ليس فقط كأدلة جنائية، بل كوثائق إنسانية؟
- حياتنا سلسلة من القصص، والجسد يسجل القصة، ويسمح لنا التشريح بدراسة الجسد بالتفصيل لاستخلاص الأدلة التى تعيد سردها بأفضل ما يمكن. الجانب الجنائى يتعلق بعمل المحكمة. لكن التشريح هو العلم الجميل لتنوع الإنسان وتغيره. مهمتنا هى البحث عن هذه الأدلة وتفسيرها بالعلم.

■ هل كان هدف الكتاب تقديم تصور فلسفى مختلف للموت يتجاوز الخوف والفقد إلى الفهم والتأمل؟
- طالما أخبرنى الآخرون بأن علاقتى مع الموت ليست طبيعية، ربما لأننى قضيت حياتى أعمل مع الموتى. لكن الأمر يعود أيضًا إلى جدتى التى كانت صديقتى المقربة فى الطفولة. كانت تؤمن بالحياة بعد الموت، على عكسى تمامًا، لكننا كنا نتحدث عن الموت واحترام الأموات.
كانت جدتى تقول إن الموت يسير معنا يوميًا، ومن الأفضل أن نصادقه لا أن نعاديه. وبما أنها وُلدت فى نهاية القرن التاسع عشر، كانت ترى الموت أنثى، وهذا ساعدنى على تقبله كصديق. مع مرور الوقت ورؤية أجيال أكبر وأصغر تموت، اخترت التعرف على الموت بدلًا من مقاومته.
■ وماذا عن كتابك «AllThat Remains» وعلاقته بفقدان والدتك وصديقتك المقربة؟
- أرى الموت أمرًا طبيعيًا وليس شيئًا نخافه بل نعيشه. التذكر يختلف من شخص لآخر، لكنى أراه كالاحتفاظ بدفء الحب فى القلب والذاكرة. لكل وفاة خصوصيتها، وعيش الحزن ضرورى، لكن تعاملنا المبالغ فيه بشكل طبى وجاف جعلنا نرفض قبول الموت رغم حتميته.
الموت فى الغرب أصبح طبيًا واحترافيًا جدًا، ما يبعد العائلات عن لحظات الوداع المهمة. الممرضات يلعبن دورًا حيويًا فى إعطاء العائلات فرصة الوداع. نادرًا ما نتحدث عن الموت وكأن الحديث عنه سيقربه منّا أكثر.
الثقافات الأصلية والدينية تتعامل مع الموت بشكل أكثر صحة وطبيعية. المشكلة فى الثقافة الغربية تكمن فى طبعية الموت واحترافيته، التى جعلتنا ننسى كيف نواجهه ونتعامل معه بشكل طبيعى.
■ عرضتِ الكثير من التطورات الحاسمة فى مجال الـ«أنثروبولوجيا الجنائية»، بين دفتى كتابك «Forensic Anthropology».. ما أبرزها؟
- أهم حدث فى علم الطب الشرعى كان فى أوائل الثمانينيات، عندما اكتشف السير أليك جيفريز اختلاف البشر فى الحمض النووى، ما أحدث ثورة فى المجال. خلال الفترة من ٢٠٠٠ لـ٢٠١٠ كان التركيز على إدارة الحوادث الجماعية الكبرى مثل كوسوفو، وتفجيرات لندن وشرم الشيخ، وإعصار كاترينا، وأحداث مركز التجارة العالمى. فى عملى، دربنا فريق التعرف على ضحايا الكوارث الوطنى بالمملكة المتحدة، لضمان تعاون العلماء والشرطة لتحديد الأسباب وإعادة الجثث لعائلاتها الصحيحة.
■ هل تعتقدين أن الجثث تروى قصة تتجاوز الأدلة العلمية والتحليل البيولوجى إلى أبعاد إنسانية أو فلسفية؟
- بالتأكيد كل جثة تروى قصة، لكن يجب تفسير هذه القصص بحذر، والاعتماد على المنهج العلمى والإحصاء، لا على الحدس. لا توجد طريقة علمية تقدم يقينًا مطلقًا، لذا نحدد الاحتمالات فقط. مهمة تحديد القاتل ليست من اختصاص العلماء أو الشرطة، بل مسئولية المحكمة وهيئة المحلفين. ويجب على العالِم ألا يتجاوز حدود علمه.
■ هل شعرتِ يومًا بشىء غامض أثناء فحص الجثث يدفعك للتساؤل عن العلاقة بين الجسد والعقل؟
- أنا شخصية عملية جدًا. قضيت حياتى بين الموتى، ولم يحدث يومًا أن اختار أحدهم أن يكشف لى شيئًا. لدى عمل يجب إنجازه، ومُنحت الأدوات التى تمكّننى من هذا. فإذا لم أتمكن من تحديد الإجابات بالعلم، فهى ليست إجابات، بل أوهام.
كان شرفًا لى أن أكون مع والدى عند وفاته. طالما كان يتنفس، كان والدى وكان حيًا. وعندما توقف عن التنفس، وكنت أمسك بيده وهو يحتضر، أصبح ما تبقى هو جثمانه فقط. لا أدّعى أننى أعلم ما هى «الحياة». لكن الموت هو توقفها. أعتقد أن هذا سؤال فلسفى أوسع بكثير من أن يستوعبه عقلى الصغير، وأتركه للأكاديميين المتخصصين.
■ ألم تصادفِ أى حالات غامضة أو قصص غير تقليدية فى عملك تركت أثرًا فيكِ أو أثارت تساؤلات حول الموت والعدالة؟
- هذا سؤال كبير جدًا يمكن أن أكتب عنه كتابًا كاملًا. بالنسبة لى، الموت لا يحتاج دائمًا إلى عدالة، إلا إذا كان غير طبيعى أو حدث قبل أوانه. أكثر ما يربكنا هو أن نجد جثة مجهولة الهوية، فنفشل فى معرفة ما حدث قبل موتها، أو كيف نعيدها إلى أهلها. أحيانًا نعرف بوجود جثة، لكن لا نستطيع العثور عليها. فى الحالتين، قد لا يُحاسب القاتل، لكن العائلة تعانى.
من القضايا التى بقيت معنا طويلًا حالة لامدوان أرمتيج، التى وُجدت جثتها فى شمال إنجلترا سنة ٢٠٠٤. لم يُبلّغ أحد عن اختفائها، ورغم أننا عرفنا بعض المعلومات عنها مثل جنسها وطولها وأصلها، لم نجد لها أى سجل، لأن زوجها لم يبلغ عن فقدانها.
فى عام ٢٠٢٥، وبعد أن نشرت الشرطة صورة إعادة بناء وجهها على وسائل التواصل الاجتماعى فى تايلاند، تعرفت عائلتها عليها، وأُعتقل زوجها. احتجنا أكثر من ٢٠ سنة لنعرف هويتها، ونحاسب قاتلها، ونمنح أهلها فرصة للحزن.
■ هل هناك حدود بين العلم والروحانية فى الطب الشرعى؟
- بالتأكيد، قد تكون للعائلات معتقداتها الروحانية الخاصة، وعلينا مراعاة ذلك قدر الإمكان. لديها طقوسها التى نسمح لها بممارستها إن استطعنا. مهنتنا قائمة على الاحترام، سواء اخترنا الإيمان بهذه الروحانيات أم لا، فالآخرون يؤمنون، وهذا حقهم.
■ سيدنى سميث قدّم الطب الشرعى فى مصر بشكل جديد، فهل تجدين أن ممارستكِ لهذا المجال اليوم تحمل نفس الشعور بالتحدى أو الاندهاش الذى مر به فى فترته؟
- إنه لشرف وامتياز أن أعمل مع الموتى، والعلماء يبذلون قصارى جهدهم لضمان أداء عملهم بأفضل صورة ممكنة. أحيانًا ننجح فى ذلك من خلال عملنا فى القضايا، وأحيانًا من خلال التدريس، وأحيانًا بالبحث العلمى. ترك سيدنى سميث بصمته فى ثلاثينيات القرن الماضى، هو ومن سبقوه ومن تبعوه. كلنا نلعب أدوارًا صغيرة، ومن المهم أن نتذكر أننا اليوم نقف على أكتاف عمالقة سبقونا.
■ هل تجدين أن العمل مع الضحايا يفتح لكِ نافذة لفهم أعمق للإنسانية؟
- معظم علماء الطب الشرعى هم رواة قصص، إذ يتقاطع عملنا بين حياة الضحية والجانى والمحقق، ومن يقرر الحقيقة. هذا يثير اهتمام الجمهور، تمامًا كما عُرف سير آرثر كونان دويل بنجاح.
الموت هو المساوى الأكبر، فنحن جميعًا متساوون فى النهاية. وهذا يدفعنا للتفكير فى الحياة والموت، فى معانيهما، فى الهبة التى نعيشها أو نهدرها، فى الحزن والفرح. هذه قضايا إنسانية بامتياز، ويشرفنى أن أكون جزءًا صغيرًا جدًا من هذا العالم.