الأمريكى ديفيد ليش: انقلاب «السلفية الجهادية» على نظام الشرع احتمال قائم
- «ربيع دمشق» أُجهض بعد فترة وجيزة من انطلاقه
- سماح ممدوح حسن«مكتب الكرامة» طوق نجاة سوريا من الحرب الأهلية
- قيام «حكومة جهادية» فى سوريا يخنق التعبير الثقافى كما فعلت «طالبان»
- المجموعة الأساسية المحيطة بـ«الشرع» تتمسك بقيام دولة طائفية بزعامة المسلمين السُنّة
شهدت سوريا أحداثًا غير مسبوقة خلال العقد الأخير، من اندلاع ثورة إلى حرب أهلية وشتات، وصولًا إلى مرحلة الرئاسة الجديدة، ومحاولة إعادة بناء الدولة وصياغة هوية وطنية جامعة. ووسط هذه التحولات المعقدة برزت الحاجة إلى فهم معمّق لتاريخ سوريا الحديث، وتأثير الأزمات السياسية على المجتمع والثقافة.
ومِن أبرز مَن أرّخوا ودرسوا هذه المرحلة بعمق، المؤرخ الأمريكى ديفيد دبليو ليش، أستاذ التاريخ فى جامعة «هارفارد» المتخصص فى شئون الشرق الأوسط، الذى تحاوره «حرف»، فى السطور التالية، للاقتراب أكثر من قراءاته المعمّقة لكيفية تشكل السياسة والثقافة والهوية السورية، منذ فترة الانتداب الفرنسى وحتى الحرب الأهلية والشتات، ورؤيته لسوريا الحالية وسوريا المستقبل، فى ظل قيادتها من قبل «جهادى سابق».

■ فى كتابك «سوريا: تاريخ حديث»، ترسم مسار سوريا من نهاية العثمانيين حتى اليوم.. كيف ترى أن الأزمات السياسية الكبرى، من الاستعمار إلى الحرب الأهلية، شكّلت الهوية الثقافية السورية؟
- خلال فترة الانتداب الفرنسى فى سوريا اعتمدت السلطات سياسة «فرّق تسُد» بين الطوائف الدينية المختلفة فى البلاد، ما عمّق الانقسام ومنع نشوء هوية وطنية أو ثقافية موحّدة. وفى عهد «الأسد»، سواء فى فترة حافظ الأسد أو لاحقًا بشار الأسد، وهما من الطائفة العلوية الأقلية، استمر النظام فى تبنّى هذه السياسة لكسب الحلفاء والتحصّن ضد أى تحرّك محتمل من قِبل الأغلبية السنيّة العربية.
مع انهيار مؤسسات الدولة أثناء الحرب الأهلية، حدث ما يحدث غالبًا فى مثل هذه السياقات، وهو لجوء الجماعات المختلفة إلى قلاعها الطائفية طلبًا للحماية والبقاء. وهكذا أصبحت سوريا أكثر انقسامًا، وبصورة أكثر عدائية مما كانت عليه قبل الحرب. هذا هو التحدى الأساسى الذى يواجه أى حكومة جديدة فى سوريا: إعادة بناء الدولة، وصياغة هوية وطنية جامعة.

■ تذكر دائمًا أن التعددية الطائفية والاجتماعية تمثل عنصرًا محوريًا.. إلى أى مدى أثّرت هذه التعددية فى الأدب والفنون والذاكرة الجمعية؟
- بلا أى شك أغنت التعددية الثقافة السورية، من الأدب والفنون إلى العمارة والمطبخ. فالبلاد أشبه بـ«فسيفساء جميلة»، غير أن هذه «الفسيفساء» نفسها يمكن أن تتصدّع فى ظروف معينة، مثل اندلاع حرب أهلية. والتواريخ المتنوعة لمختلف الجماعات التى عبرت سوريا على مرّ القرون أسهمت فى تشكيل هذه «الفسيفساء»، وهو ما يُعد ميزة من الناحية السياحية نظرًا لتنوّع الإرث الثقافى الذى خلّفته، لكنه فى الوقت نفسه يُذكّر بمدى هشاشة المنطقة أمام التهديدات الخارجية، خاصة أولئك الذين يتحالفون مع جماعة معينة لكسب اليد العليا على حساب جماعة أخرى.

■ كيف انعكست الحرب المستمرة منذ ٢٠١١ على الثقافة السورية؟ وهل ترى أن الشتات اليوم ينتج «ثقافة سورية جديدة» خارج الحدود؟
- أعتقد أن الحرب أفرزت جيلًا جديدًا من السوريين، تقوم ذاكرته الجمعية على الحرب الأهلية والدمار الشامل الذى لحق بالبلاد، والتركيز على التفكك الداخلى للدولة أكثر من التركيز على الصراع العربى الإسرائيلى، أو الحروب العربية، أو حتى الحروب الباردة بين القوى العظمى، التى شغلت أذهان الأجيال السابقة.
ومن المرجّح أن يكون الشتات السورى، الناجم عن الحرب الأهلية، قد امتص بعض السمات العرقية والثقافية للبلدان التى يقيم فيها اليوم. لكن، فى المجمل، ستعكس الثقافة السورية على مستوى الفن والأدب والسينما ملامح المأساة والفقدان، كما بدأت تظهر فعلًا على نحو لا يختلف كثيرًا عمّا انعكس فى العالم العربى بأسره عقب الهزيمة أمام إسرائيل عام ٦٧.

■ فى كتابك «سقوط بيت الأسد» تطرقت إلى «انهيار الآمال الإصلاحية مع اندلاع الثورة»، كيف انعكس ذلك على المشهد الثقافى والفكرى فى سوريا؟
- لقد أُجهِض «ربيع دمشق» بعد فترة وجيزة من انطلاقه، لذا لم تتح الفرصة الحقيقية لظهور أى نهضة ثقافية وفكرية فى سوريا أثناء عهد بشار الأسد، رغم أن الآمال الأولى أوحت بخلاف ذلك. كان اندلاع الانتفاضة بمثابة المسمار الأخير فى نعش الأمل بأن يكون «الأسد» نوعًا ما إصلاحيًا.

■ كثير من المثقفين والفنانين السوريين كانوا فى طليعة الثورة أو دفعوا ثمن مواقفهم.. هل ترى أن السلطة كانت تخشى الثقافة أكثر من السياسة المباشرة؟
- أعتقد أن السلطات كانت تخشى التعبير الثقافى بقدر خشيتها من المعارضة السياسية. غير أن المعارضة السياسية هى التى عبّرت عن نفسها بشكل أكثر علانية فى البداية، لذا اُعتُبِرت التهديد الأساسى. أما المعارضة الثقافية فهى أكثر خفاءً، خاصة إذا جاءت فى صورة مجازية، ما يجعل من الصعب رصدها واستئصالها، وفى نهاية المطاف لا يمكن إخمادها.

■ كيف اُستُخدِمت الثقافة، خاصة المسرح والإعلام والتعليم والإنترنت، كأداة لتلميع صورة النظام فى بدايات حكم «بشار»؟
- فى البداية، تجنّب بشار الأسد استخدام أدوات مثل الإعلام والتعليم لتعزيز صورته ومكانة النظام. فقد اختفت التماثيل واللافتات والصور التى ميّزت فترة حكم والده. لكن سرعان ما عادت تدريجيًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كتعابير عن سلطة الدولة وموقع الرئيس «الأسد».
تزامن ذلك مع ما لاحظته على المستوى الشخصى، وهو أنه أصبح أكثر ارتياحًا مع السلطة كلما طال به البقاء فى الحكم، وبدأ يعتقد أن رفاهية البلاد باتت مرادفة لرفاهيته الشخصية. ومع ذلك، بدأت التعبيرات الثقافية فى سوريا، تحت إشراف الدولة، تصطف مع ما تريده القيادة السورية
■ تغير موقفك من «بشار».. فبعد تفاؤلك به فى بداية حكمه، وصلت إلى تنديدك بطغيانه واستبداد حكمه، كيف ولماذا حدث هذا التحول؟
- أصبح «بشار» أكثر ارتياحًا مع السلطة، وهذا ليس سيئًا بالضرورة، لكن فى نظام استبدادى فمعناه أنه أصبح أكثر ارتياحًا مع حقيقة أنه قائد استبدادى. لمستُ ذلك تحديدًا، وبشكل شخصى، خلال إعادة انتخابه الأولى عام ٢٠٠٧، والتى جرى «تزويرها» على النحو المعتاد، إلى جانب الطقوس والمظاهر الاحتفالية المرتبة مسبقًا للاحتفاء بـ«فوزه». أعتقد «الأسد»، خطأَ، أن هذه كانت تعبيرات صادقة عن دعم الشعب السورى له. فى تلك اللحظة بالذات خلصتُ إلى أنه انتقل من كونه «إصلاحيًا محتملًا» إلى «قائد استبدادى» مُهتم أكثر بالحفاظ على الوضع القائم، بدلًا من إحداث إصلاح سياسى واقتصادى حقيقى.

■ فى عملك المرجعى «القاموس التاريخى لسوريا» حرصت على تضمين شخصيات ثقافية وأدبية إلى جانب السياسيين.. ما الذى يكشفه ذلك عن العلاقة العميقة بين الثقافة والسياسة فى سوريا؟
- فى ظل نظام سلطوى قمعى غالبًا ما تكون الأشكال الثقافية هى المنفذ الوحيد أمام الناس للتعبير عن استيائهم وقلقهم، بل وحتى معارضتهم للحكومة. كان هذا الحال منذ فترة الانتداب الفرنسى مرورًا بعهد «الأسد»
■ تعيش سوريا اليوم مرحلة جديدة برئاسة أحمد الشرع.. فى رأيك، ومن منظور تاريخى وسياسى، كيف يمكن أن تتشكل ملامح السلطة فى هذه الدولة الناشئة؟
- أعتقد أن الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع تسعى إلى إنشاء نظام حكم مركزى، دولة طائفية- أكثريّة، ترى أنها ستكون أكثر قدرة على إعادة بناء البلاد والحفاظ على تماسكها. غير أن الواقع يشير إلى أنه قد يضطر إلى الحكم بسلطة مخففة إلى حد ما، ليست بالضرورة نظامًا فيدراليًا لا مركزيًا، ولكن نظامًا يعكس الطبيعة المتنوعة لسوريا ويحمى الأقليات. هذه هى المعضلة الرئيسية أمام الحكومة الجديدة: كيفية الموازنة بين الأمرين. ولا يزال أمامها طريق طويل لتحقيق هذا التوازن.
■ بعدما ترسخ هذا النظام كأمر واقع فى سوريا، كيف ترى تعريفه لنفسه من الناحية القانونية؟
- يحاول النظام الجديد أن يجد صيغة مناسبة لهذا الوضع، خاصة أنه مضطر إلى تقديم صورة أكثر اعتدالًا أمام العالم الخارجى من أجل رفع العقوبات الدولية والحصول على استثمارات خارجية لإعادة الإعمار. غير أن المجموعة الأساسية المحيطة بـ«الشرع» داخل «هيئة تحرير الشام»، والتى أوصلته إلى السلطة، تميل إلى الأيديولوجيا السلفية- الجهادية المتشددة، وهو ما يفترض قيام دولة طائفية بزعامة المسلمين السنّة، تُهمَّش فيها المجموعات غير السنيّة، التى هبطت إلى مرتبة الأقليات بحقوق وحريات مدنية أقل.
موجات العنف المكثفة والمتقطعة التى شهدتها سوريا هذا العام، فى مارس ضد العلويين فى الشمال الغربى، وفى يوليو ضد الدروز فى الجنوب، تشير إلى أن «الشرع» أمامه طريق طويل قبل الوصول إلى التوازن. وإذا كان بالفعل قائدًا براجماتيًا، كما يقول بعضهم، فقد يضطر، خلال مرحلة ما فى المستقبل القريب، إلى مواجهة العناصر الأكثر تطرفًا داخل تحالفه الحاكم.
■ كيف تتوقع بروز أو تراجع أنواع فنية جديدة، فى ظل بنية سلطوية لها جذور جهادية؟
- إذا برزت حكومة ذات طابع جهادى بصورة أكبر فى سوريا، فإن ذلك سيؤدى إلى خنق وتقييد التعبير الثقافى فى البلاد بشكل شديد، تمامًا كما حدث فى أفغانستان تحت حكم «طالبان»، وأماكن أخرى. ومرة أخرى قد تضطر الأشكال الثقافية إلى الانزواء والعمل فى الخفاء من أجل البقاء، وكذلك لمعارضة نوع مختلف من القمع بأساليب غير مباشرة.

■ هل تتوقّع أن تُمنح الأولوية فى التمويل والإشراف للمشروعات ذات المرجعية الدينية/الأخلاقية أم للمشروعات التى تُعالج الذاكرة والهوية وصدمات الحرب؟
- أعتقد أن الأولوية ستُعطى للمشروعات المرتبطة بالبنية التحتية، لأن النظام السورى، من محطات الكهرباء إلى محطات الصرف الصحى وصولًا إلى الإنتاج الصناعى، قد تضرر بشدة جراء الحرب الأهلية، بغضّ النظر عن نوع النظام الذى يحكم فى دمشق.
لكن، بقدر ما هناك حاجة إلى التعافى المادى من آثار الحرب، فالتعافى العاطفى لشعب مصدوم ومثخن بالجراح قد يكون أكثر إلحاحًا. إحدى الطرق للمساعدة فى معالجة الذاكرة والهوية هى إنشاء ما أسميته ودعوت إليه مؤخرًا «مكتب الكرامة» فى الحكومة السورية.
هذا المكتب أقترح أن يكون ذا صلاحيات، وقادرًا على توثيق الانتهاكات والإهانات الثقافية والطائفية والعرقية فى مختلف أنحاء البلاد. ويمكن له، عبر التعليم وإعادة التأهيل أكثر من العقاب، المساهمة فى ترسيخ قدر أكبر من الثقة بين الشعب والحكومة، وكذلك بين مختلف المجموعات السورية نفسها، حتى على مستوى قرية بقرية.
■ كيف يمكن للمثقف السورى أن يعمل ضمن هذا المناخ؟ وهل تتوقّع ظهور «ثقافة مقاومة سرية»؟
- هذا يتوقف على نوع الحكومة التى ستتشكل. فإذا كانت أكثر شمولًا، كما يكرر «الشرع» رغبته، فلن تكون هناك حاجة لـ«ثقافة سرية للمقاومة»، باستثناء ربما أنصار السلفية- الجهادية، الذين قد ينقلبون ضده وضد نظام الحكم الأكثر شمولية الذى يسعى إليه. أما إذا برزت حكومة طائفية متشددة قائمة على حكم الأغلبية، فستظهر حينها بالفعل «ثقافة سرية للمقاومة».
لقد اكتسب الشعب السورى قوة وثقة بالنفس، بعد أكثر من عقد من غياب الحكومة المركزية عن حياتهم خلال الحرب الأهلية. لقد ناضلوا من أجل قدر أكبر من الحرية. وهم لن يختفوا ببساطة إذا تبين أن الحكومة الجديدة قمعية مثل سابقتها. بل سيؤكدون وجودهم ويثبتون أنفسهم بطريقة أو بأخرى.







