كاريزما القرآن المصرى.. عن الحقائق التى أكدها برنامج «دولة التلاوة»
- ستظل مصر هى الحافظة لكتاب الله الراعية له والمقدرة لعظمته وجلاله وذلك من خلال ضخ روح جديدة فى مدرسة قراءته
منذ سنوات عندما خصصت فقرة فى برنامجى «٩٠ دقيقة» لـ«نجوم دولة التلاوة» أدركت أن الذوق المصرى لا يزال بخير، وأن هناك شغفًا مقيمًا فى قلوب المصريين بكل ما يتعلق بالقرآن الكريم.
كانت الفكرة ببساطة هى تقديم قراء القرآن للناس فى ثوب جديد.
بحثت عن الأصوات الشابة التى تقتحم عالم التلاوة بخطى ثابتة، وقدمت ما يقرب من ٦٠ صوتًا من أرجاء مصر المختلفة، سألت وأجابوا، تحدثوا عن حياتهم وعلاقتهم بالقرآن، عن حفظهم ورعايتهم لكتاب الله، عن السمعية والحفلات، عن الأجر والثواب، عن أساتذتهم ومريديهم، عن مشاكلهم والعقبات التى تؤرق مسيرتهم، وبين فقرات الحديث كانت تأتى قراءاتهم المميزة التى كان يتابعها الجمهور بشغف شديد وإقبال متجدد، ورغبة فى الاستزادة بتعلق لا ينفد.

لم يكن الجمهور المصرى وحده من يتابع هذه الفقرات، امتد ليشمل العديد من الدول العربية، وأدركت مدى تأثير مدرسة التلاوة المصرية عندما استوقفنى أحد الدارسين فى الأزهر من دولة ماليزيا، أخرج تليفونه المحمول، وبحث عن إحدى حلقات البرنامج، وأشار إلىّ بعلامة الاستحسان، فتأكدت أن لدينا قوة ناعمة خارقة تتجاوز الحدود.
كان لدىّ سؤال طرحته على كل من استضفتهم، وهو: ما الذى يريده قراء القرآن؟ ما الذى ينقصهم؟ ما الذى يفتقدونه؟
وكانت الإجابة التى كررها الجميع هى ضرورة الاهتمام أكثر بقراء القرآن.
رصد القراء أن هناك حالة إهمال لهم، لا تلتفت لهم الدولة، ولا ينشغل بهم الإعلام، بالقدر الذى يهتم بالمطربين والفنانين ولاعبى كرة القدم.
كانت لدى القراء هموم أخرى، تتعلق بأحوالهم المادية ودخولهم، وتأمين حياتهم بعد أن يكفوا عن القراءة بحكم الزمن، فهم فى النهاية يباشرون عملًا حرًا، ويمكن أن يتعرضوا لظروف تحول بينهم وبين العمل، مثلما حدث فى فترة كورونا، عندما وجدوا أنفسهم بلا عمل تقريبًا، فى ظل إجراءات الحظر والتباعد التى فرضتها إجراءات مواجهة الوباء، وقتها كان كثيرون منهم بلا دخل على الإطلاق، ولأن نقابتهم تعانى من قلة الموارد، فقد تحمل كثيرون منهم ظروفًا حياتية صعبة.
لسنوات وأنا قريب من عالم القراء، تداخلت فى كثير من مشاكلهم، وتدخلت لحل العديد من أزماتهم، وخلال ذلك كنت أتابع عن بُعد الإعداد لبرنامج دولة التلاوة الذى خرج مؤخرًا للنور كثمرة لتعاون بين وزارة الأوقاف والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وكنت أعرف أن هذا البرنامج سيكون خطوة مهمة على طريق إعادة وضع قراء القرآن على خريطة المجال العام بعد إهمال دام لسنوات.

«دولة التلاوة» الذى يحلق على قنوات «المتحدة» ليس مجرد برنامج مسابقات، نتابع من خلاله منافسات بين شباب يجيدون قراءة القرآن بقواعد المدرسة المصرية، ولا هو مجرد لجنة تتحاكم وتتبارى فى إظهار مناطق القوة والضعف لدى المتسابقين، ولا هو محاولة لبسط بعض الإضاءات حول بعض الآيات والتعاليم القرآنية يقوم بها بعض أعضاء اللجنة ممن لا يشاركون فى التقييم، ولكنهم إضافة حقيقية للفكرة، ولا هو قيمة الجوائز التى سيحصل عليها الفائزون.
من زاوية خاصة أعتبر «دولة التلاوة» مشروعًا وطنيًا كبيرًا، تستعيد به الدولة المصرية من خلال مؤسساتها عنصرًا مهمًا من عناصر قوتها الناعمة، وتمسك من خلاله بأداة مهمة من أدوات ريادتها فى العالم كله.
لسنوات مضت كانت هناك محاولات لمصادرة هذه الأداة، رغبةً فى طمسها لصالح مدارس أخرى فى قراءة القرآن، تصدير قراء آخرين لا يمكن أن نقول عنهم شيئًا، ولا أن نطعن فيهم بشىء، لكنهم لم يتوافقوا مع المزاج المصرى، كان هناك إلحاح بهم علينا، سمعنا لهم لعدة سنوات، لكن ولأن مزاجنا مضبوط ومنضبط، فقد عدنا مرة أخرى إلى قواعد التلاوة المصرية سالمين.
خلال السنوات التى استغرقتها محاولة الطمس المخطط لها بعناية، كان قد غاب عن الساحة القراء المصريون الكبار بالموت أحيانًا وبكبر السن أحيانًا أخرى، ودخلنا فى مرحلة انتقالية فى انتظار ظهور قامات جديدة فى دولة التلاوة، وخلال السنوات الأخيرة ظهر من استطاع أن يفرض نفسه وبقوة مستعيدًا أمجاد المدرسة المصرية من جديد، لكنهم كانوا من خارج المؤسسة، اجتهدوا على قدر ما استطاعوا، وأثبتوا وجودهم بقدر ما قدموا.

كان طبيعيًا أن يتم تتويج ذلك بمشروع كبير، تؤكد الدولة من خلاله أنها منتبهة ومتيقظة ومستيقظة لما تملكه، ولا يجب أن تفرط فيه.
وهنا تأتى أهمية مشروع «دولة التلاوة» الذى أعتبره إعادة اعتبار للقراء المصريين، وتدشينًا جديدًا لدولة القرآن المصرى.
يختلف معى كثيرون فى استخدام هذا التعبير.
«القرآن المصرى».
ورغم احترامى الشديد وتقديرى الأشد لهؤلاء المختلفين، إلا أننى أتمسك به.
يقول هؤلاء إنه لا يوجد قرآن مصرى وآخر سعودى وثالث عراقى ورابع سورى وخامس مغربى وسادس سودانى، وهو كلام فى ظاهره صحيح، لا يمكن أن أنكره، أو أجادل فيه، فالقرآن واحد من حيث آياته ومعانيه، رسالته الخالدة وهديه المتجدد، قيمه وتعاليمه وأخلاقياته، قصصه وعظاته وعبره، إعجازه المطلق لغويًا وعلميًا، عطاءاته الاجتماعية والثقافية والنفسية، فهو كتاب الله الواحد الخالد الذى تعهد بحفظه مهما تعاقبت عليه عاديات الزمان وتقلباته.

لكن دون كل من قرأوه يظل القرآن الذى قُرئ فى مصر يمتلك كاريزمته الخاصة، شخصيته المنفردة المتفردة، إيقاعه ونغمه المتميز، فقد منح القراء المصريون بمختلف أجيالهم كتاب الله الكريم من روحهم وعبقريتهم وإبداعهم حياةً جديدةً، جعلت منه عملًا مختلفًا عنه فى كل دول العالم.
ورغم أن شعوب الأرض جميعها تنفعل بالقراءة المصرية، يمكن أن نرى ذلك فى حفلات القراء فى عواصم العالم المختلفة، إلا أن انفعال الجمهور المصرى بمدرسة قرائه له طابع خاص، يضيف إلى حلاوة القرآن حلاوة على حلاوته، ويجعل منه كائنًا حيًا يتحرك ويعيش ويستمر ويتمدد.
هذا ليس كلامى ولا حتى ملاحظتى الخاصة، ولكنه كلام سمعته من القراء الذين التقيت بهم عبر السنوات الماضية.
كان من بينهم كثيرون قرأوا القرآن فى عواصم مختلفة، وكنت أسألهم عن الفارق بين تفاعل السميعة معهم فى الخارج وتفاعلهم معهم هنا فى مصر.
أجمع من سألتهم هذا السؤال على أن السميع المصرى ليس له مثيل فى العالم كله، فهو ليس مستمعًا سلبيًا، بل شريكًا فى القراءة، فتجلى القارئ يبدأ من تجلى المستمع، ويستطيع المستمع المصرى أن يصل بالقارئ إلى السماوات العلا، يدفعه إلى أن يصول ويجول فى عوالم القرآن المختلفة، أن يسافر به إلى ما وراء الكلمات والمعانى والدلالات والإشارات وهو جالس على مقعده يقرأ دون أن يغادره.
«القرآن المصرى» إذن هو إنتاج مشترك بين القارئ والسميع، كل منهما يسهم فيه بالقدر الذى يستطيعه، دون أن يبخل بشىء.
هل تريدون دليلًا على ذلك؟
الدليل رأيناه جميعًا فى حالة التفاعل الأسطورية مع «دولة التلاوة».. لقد تدافع المصريون جميعًا من مختلف الأعمار والفئات والثقافات للإشادة بالأصوات التى سمعوها، وبالأداء الذى عاينوه، تحول المتسابقون فى البرنامج إلى نجوم، يتعقب الناس حياتهم وآثارهم، يريدون أن يعرفوا عنهم كل شىء، بقناعة أن هؤلاء سيكونون نجوم حياتهم المقبلة، ما جعلنى أتعامل مع البرنامج على أنه مشروع وطنى كبير.

لدىّ أسباب عديدة لذلك، فقد أكد «دولة التلاوة» مجموعة من الحقائق التى كانت تائهة منّا، فإذا به يأتى ليستعيدها ويضعها أمامنا دون لبس أو تأويل، وهى الحقائق التى يمكننا أن نُذكّر بها بعضنا البعض.
أولًا: كانت مصر وستظل دولة القرآن الكريم، فصحيح أنه لم ينزل فى أرضها، لكنه لم يُقرأ إلا فيها، وهى القراءة التى أضافت إلى أسطوريته، وأسهمت فى تخليده، وإذا كان القرآن جُمع فى المرة الأولى فى عهد الصحابة، فقد تم الجمع الثانى له، وهو الجمع الصوتى، فى مصر من خلال إذاعة القرآن الكريم.
ثانيًا: تأكد لنا أن نسل مصر لا ينقطع أبدًا، فإذا كنا وهبنا للقرآن الكريم عباقرة قرأوه كما ينبغى، فإننا ما زلنا قادرين على أن نقدم له أجيالًا جديدة تقوم على حفظه وتلاوته بالشكل الذى يستحقه.
ثالثًا: ستظل مصر هى الحافظة لكتاب الله، الراعية له، والمقدرة لعظمته وجلاله، وذلك من خلال ضخ روح جديدة فى مدرسة قراءته، وهؤلاء قادرون على تجديد شباب القرآن الدائم، الذى سيظل إلى يوم يرث الله الأرض ومَن عليها.
رابعًا: يؤكد هذا المشروع حيوية مصر، وقدرتها على الاستمرار، فمن بين المتسابقين أطفال صغار، وهبوا أنفسهم للقرآن، ما يعنى أن المدد سيظل موصولًا لن ينقطع أبدًا.
خامسًا: فى ظل انشغالات الدولة المصرية بمعاركها وحروبها وأزماتها الاقتصادية الطاحنة إلا أنها لا تتخلى عن مسئولياتها الدينية والثقافية، فهى لا تنسى أن عليها دورًا لا بد أن تؤديه، وهذا الدور هو وقوفها كحصن لحماية القرآن وبعث الروح فيه.
سادسًا: أعاد مشروع دولة التلاوة التأكيد على كاريزما القرآن المصرى، التى لا يمكن لأحد أن ينكرها، مهما كانت هناك محاولات لاختطافها، فهذه الكاريزما مرتبطة بالشخصية المصرية، وهى هبة من الله منَّ بها علينا، لا يمكن أن ينازعنا فيها أحد، ولو فكر فى أن يفعل ذلك فلن يستطيع.

ليس فيما أقوله تعاليًا- لا سمح الله- ولكنه حقيقة، أعتقد أن الكثيرين كانوا يعترفون بها دون إعلان واضح وصريح، لكن الآن لن يستطيع أحد أن يتهرب منها أو يتنكر لها.
ما يحدث الآن فى «دولة التلاوة» يعتبر بالنسبة لى مجرد بداية، أعتقد أنه سيتم البناء عليها، البرنامج الذى نحتفى به الآن ونفرح بما يقدمه عليه أن يتحول إلى مدرسة دائمة تمدنا بقراء جدد ومبدعين جدد وعباقرة جدد.
اقتصر البرنامج فى طبعته الأولى على متسابقين مصريين، وربما كان ذلك لتأكيد الريادة، وهو أمر لا عيب فيه، لكننى أعتقد أنه فى طبعاته المقبلة سيمتد إلى خارج الحدود المصرية، وسيكون هناك متسابقون من دول أخرى، فمدرسة القرآن المصرية ليست محلية، هذا هو قدرها، وعليه فسوف تفتح أبوابها لمن يريدون أن يتعلموا فيها ويقرأوا بقواعدها.

يمكننا أيضًا فى طبعات البرنامج المقبلة أن يكون عبارة عن طبقات وفئات، فليس معقولًا أن يدخل أطفال صغار فى منافسات مع شباب كبار، لقد أثبت الصغار جدارتهم واستحقاقهم لأن يكونوا منافسين، لكن إذا تم تقسيم البرنامج إلى فئات عمرية، ستكون النتائج أفضل.
إننا أمام مشروع متكامل، أعاد الروح مرة أخرى إلى عالم القرآن الكريم فى مصر، أصبح لدينا الآن برنامج يلتف المصريون من حوله، يتابعونه بشغف، ويبحثون عنه باهتمام، وهو ما فقدناه خلال السنوات الماضية، وأعتقد أننا يجب أن نستثمر هذه القيمة الاستثمار الأمثل.

لقد وقف وراء هذا البرنامج- المشروع- جنود مجهولون بذلوا جهدًا خارقًا حتى يظهر إلى النور، وهؤلاء أتقدم لهم بتحية واجبة، فهم يعملون دون انتظار لشكر أو إشادة، وسيبقى عملهم فى ميزان أعمالهم الإنسانية الراقية، وهناك أيضًا جنود معلنون نقرأ أسماءهم على تتر البرنامج فى كل حلقة، وهؤلاء لهم كل التقدير، فلولا دأبهم وحماسهم ما كان لهذا العمل العظيم أن يرى النور أو يُحدث كل هذا الأثر أو يحقق كل هذا التأثير.
وأخيرًا هناك حقيقة أكد عليها هذا البرنامج، وهى أننا نستطيع إذا أردنا.. وتلك حقيقة يجب أن نتمسك بها ولا نفرط فيها.








