قصة مجهولة عن المتحف المصرى الكبير.. متى بدأ البناء؟ ولماذا توقف؟ وكيف عاد؟ وما الذى سيعود علينا منه؟
 
 
- الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أنجزت العمل على أكمل وجه
- «نخطط لبناء أكبر متحف فى العالم».. كلمة السر لبدء المشروع فى 1993
حتى أغسطس ٢٠١٧ كانت كل علاقتى بالمتحف المصرى الكبير مجرد معلومات قليلة عن مشروع قومى كبير تقوم مصر بتنفيذه.
وقتها جلست مع وزير الثقافة الأهم فى تاريخ مصر الفنان فاروق حسنى لإجراء حوار مطول فى برنامجى «٩٠ دقيقة»، سألته عن المتحف الذى بدأت فكرته من عنده.
روى لى فاروق حسنى حكاية أقرب ما تكون إلى الأسطورية، وأعتقد أنه كان أول مرة يفصح عن تفاصيل ما جرى.
قال لى إنه فى العام ١٩٩٣ كان فى زيارة إلى باريس مدعوًا من قبل مدير معهد العالم العربى هناك، وعلى الغداء الذى أقيم للترحيب به، قابل معماريًا وصاحب دار نشر إيطالى، وبينما الحديث يدور على هامش الطعام حول الآثار والفن، سأل المعمارى الإيطالى حسنى: ماذا ستفعلون فى المخزن الذى عندكم؟
فهم فاروق حسنى ما يقصده المعمارى الإيطالى، كان يتحدث تحديدًا عن المتحف المصرى فى التحرير، وكانت الإشارة واضحة، فهو ليس متحفًا بالمعايير الدولية، ولكنه مجرد مخزن تتكدس فيه الآثار بلا ترتيب ولا تصنيف، وهو ما يُفقدها أى قيمة لها.
كان ما قاله المعمارى الإيطالى مستفزًا لفاروق حسنى، فرد عليه بما اعتبره ردًا فوريًا على الاستفزاز، قال له: إننا نخطط لبناء أكبر متحف فى العالم.
لم يكتفِ المعمارى الإيطالى بهذه الإجابة، عاد ليسأل فاروق: وأين سيكون هذا المتحف؟
ولأن فاروق كان قد أمسك بفكرته فى هذه اللحظة فلم يسبق له التفكير فيها، وكرد فعل على سؤال المعمارى الإيطالى الاستفزازى، فلم يكن هناك متحف ولا يحزنون، زاد فى تصوراته، وقال له: إن مصر ستبنى هذا المتحف أمام الأهرامات.
لم يكذب المعمارى الإيطالى خبرًا، قال لفاروق: لو بدأت مصر فى بناء هذا المتحف سوف أسعى للحصول على تمويل له من رئيس الوزراء الإيطالى.
عاد فاروق حسنى إلى مصر، وعرض الفكرة على الرئيس مبارك، الذى قال له: ومن أين ستمول بناء هذا المتحف الكبير؟
كان رد فاروق حسنى هذه المرة حاضرًا، قال له: المشروعات الكبيرة مثل هذا المتحف ستجد مَن يمولها دون عناء.
بدأ العمل بالفعل، وقع الاختيار على مكان المتحف الحالى أمام الأهرامات، وتوجه فاروق إلى السفير الإيطالى، وأخبره بأنه سيقوم بعمل دراسة كاملة للمتحف، تمهيدًا للحصول على تمويل، وظلت الدراسات قائمة لمدة أربع سنوات، وكانت ضربة البداية بنقل تمثال رمسيس من مكانه أمام محطة مصر إلى أرض ميت رهينة حيث المتحف، وتم وضع حجر الأساس للمتحف فى العام ٢٠٠٢.
أعلنت مصر عن مسابقة عالمية، للاستقرار على تصميم للمتحف، وتقدم بالفعل ١٧٥٠ بيت عمارة من كل دول العالم للمسابقة، ووقع الاختيار على التصميم الذى قدمه هينجان بينج وشريكته الأيرلندية روسين هينجن.
وبدأ العمل فى المتحف، والمفاجأة أنه كان سيتم افتتاحه فى العام ٢٠١٣، لكن أحداث الثورة فى ٢٥ يناير التى كانت سببًا فى توقف عدد من المشروعات الكبيرة، أوقفت العمل فى المتحف المصرى الكبير، وهو العمل الذى ظل متوقفًا حتى العام ٢٠١٦.
فى العام ٢٠٢٠ زرت المتحف لأول مرة، كان ذلك فى شهر يناير، وكان العمل على قدم وساق، دخلنا فوجدنا خلية نحل لا تهدأ، متابعة طوال أربع وعشرين ساعة.
يومها عرفت جانبًا من قصة تعطيل افتتاح المتحف وتأخير العمل فيه، وهو ما رواه لى خالد العنانى الذى كان وقتها وزيرًا للآثار.
قال لى خالد إنه كان فى العام ٢٠١٠ ضمن الفريق المكلف بإعداد برنامج الاحتفال بافتتاح المعرض، وكانت هناك تصورات واضحة وجاهزة، ولكن العمل تعطل حتى وصلنا إلى العام ٢٠١٥.
فى نهايات العام ٢٠١٥ خرج المهندس إبراهيم محلب من منصبه كرئيس للوزراء، وعين مستشارًا للرئيس للمشروعات القومية الكبرى، ولأنه رجل لا يهدأ ولا يتوقف عن العمل، طلب من كل الوزراء أن يعدوا قائمة بالمشروعات المتعثرة فى نطاق وزاراتهم.
لم يكن الهدف هو إقالة كل المشروعات المتعثرة من عثراتها، ولكن كانت هناك فكرة واضحة، فالمشروع الذى يمكن إنقاذه يتم العمل فيه على الفور، أما الذى لا أمل فيه فلا داعى لتبديد الوقت والمال لإيقافه على قدميه مرة أخرى.
تراكمت على مكتب إبراهيم محلب ملفات كثيرة لمشروعات بلا حصر ولا عدد، من بينها كان ملف مشروع المتحف المصرى الكبير، الذى قدمه له وزير الآثار وقتها، ممدوح الدماطى، أمسك محلب بالمشروع مستعيدًا ما قيل عنه لحظة إطلاقه الأولى فى العام ٢٠٠٢، فهو ليس مجرد متحف، بل هو مشروع عالمى تقدمه مصر للعالم كله، فصحيح أننا نملك الآثار ملكية مادية كاملة، لكن العالم كله يشاركنا فى ملكية المعنى الذى تحمله هذه الآثار.
لم يكن الطريق سهلًا ولا ممهدًا، ففى بداية المشروع كانت تكلفته ٨٠٠ مليون دولار، زادت إلى ما يقرب من مليار و٦٠٠ مليون دولار، نحن نتحدث عن الضعف تقريبًا، وهو ما كان يجعل الحديث عن استكمال المشروع فى حكم المستحيل وعرف المعجزة.
قام إبراهيم محلب بتشكيل لجنة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزارة الإسكان، كان التكليف الذى تلقته بوضوح هو دراسة تعثر المشروع، وإيجاد حلول لإنقاذه.
كان رئيس هذه اللجنة هو اللواء عاطف مفتاح، الذى عكف هو وفريقه على الدراسة الجادة، ودرس مسألة تخفيض التكلفة، وهو ما نجح فيه، عرض الميزانية الجديدة على محلب فى نهاية العام ٢٠١٥، وعلى الفور نقل الصورة كاملة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى ليكون القرار بعدها فى صالح استكمال المشروع.
وصل الملف إلى الرئيس فى بدايات العام ٢٠١٦، فسلك الطريق الذى يعرف أنه سينجز المهمة على أكمل وجه، كلف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة بتنفيذ المشروع، وهنا يظهر التحدى الأكبر، فقد كان التكليف مشفوعًا بتوجيه رئاسى تلخصه عبارة محددة: مع ترشيد التكلفة اللازمة لتنفيذه دون الإخلال بأى جزئية فيه.
فى العام ٢٠١٦ تم استئناف العمل فى المتحف بشكل جاد، وصدرت مجموعة من القرارات التى تنظم العمل به.
ففى هذا العام صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء رقم ٢٧٩٥ لسنة ٢٠١٦ بإنشاء وتنظيم هيئة المتحف المصرى الكبير، ثم صدر بعد ذلك القانون رقم ٩ لسنة ٢٠٢٠، بإعادة تنظيم هيئة المتحف كهيئة عامة اقتصادية تتنبع الوزير المختص بشئون الآثار.
وبعده أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسى قرارًا بتشكيل مجلس أمناء هيئة المتحف المصرى الكبير برئاسته، وعضوية عدد من الشخصيات البارزة والخبراء الدوليين والمصريين، ويختص بإقرار السياسة العامة والخطط اللازمة لهيئة المتحف ودعم ومتابعة نشاطه.
قابلت اللواء عاطف مفتاح الذى أصبح مسئولًا عن المشروع بتكليف رئاسى، بدأ هو والفريق الذى يعمل معه المهمة التى اعتبرها البعض مستحيلة.
قال لنا ونحن نجلس معه قبل أن نقوم بجولتنا فى المتحف: المهمة كانت صعبة لكننا تصدينا لها تمامًا، بدأنا من المبدأ الأهم، وهو كيف نقوم بترشيد الميزانية دون أن نمس المشروع فى صورته المثلى، وبالفعل وصلنا فى المحاولة الأولى لأن تكون التكلفة ٩٥٠ مليون دولار، بتوفير ٦٥٠ مليون دولار، وفى المرحلة الثانية وصلنا بالتكلفة إلى ما يقرب من ٨٠٠ مليون دولار، وباجتهاد محسوب وصلنا إلى ٧٧٠ مليون دولار، لكن بفعل زيادة الأسعار استقرت التكلفة عند ٨٥٠ مليون دولار، وبذلك يكون ما تم توفيره هو ٧٥٠ مليون دولار.
مع توالى زيادة الأسعار ارتفعت التكلفة إلى ما يقرب من مليار دولار، وهو ما يعنى أنه تم توفير ما يقرب من ٦٠٠ مليون دولار، من القيمة التى وصل المشرفون على المشروع إليها فى العام ٢٠١٥، وهو ما يعنى أنه لو تم تنفيذه فى المواعيد المحددة، لما زادت التكلفة إلى هذه القيمة، وهو ما يردده الرئيس دائمًا عندما يسارع فى تنفيذ المشروعات الآن وليس غدًا.
بعد كل هذه السنوات أصبحنا على بُعد ساعات من افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى هو قولًا وفعلًا هدية مصر إلى العالم كله.
يمكننا أن نجد شيئًا من هذا فى تعليقات الصحف العالمية على المتحف.
تقول «التايمز»: المتحف يقدم تجربة جديدة ومتعادلة، وتصميمه يروى القصص التاريخية بمزيج علمى وجمالى.
وتقول «التليجراف»: المتحف الأكثر انتظارًا فى العالم بعد تأخر عقدين.
وتقول «الأسوشيتدبرس»: قاعات العرض مصممة بطريقة ديناميكية وحديثة بمؤثرات تقنية تعلم الأطفال التاريخ.
صحيفة نيويورك تايمز قالت: المتحف المصرى الكبير يعد أهم المشاريع الحضارية فى القرن الحادى والعشرين، وهو بطاقة بارزة لإحياء السياحة المصرية واستعادة مكانتها العالمية، وأضخم مشروع ثقافى مكرس لحضارة واحدة فى العالم ويضم عشرات الآلاف من القطع الأثرية ومجموعة نادرة من كنوز توت عنخ آمون.
وتقول صحيفة «واشنطن بوست»: التغطية الإعلامية لافتتاح المتحف المصرى الكبير ستسلط الضوء على البُعدين الإنسانى والسياسى للمشروع، بما فى ذلك التحديات التى واجهتها مصر فى تنفيذ هذا الصرح الضخم.
أما «ناشيونال جيوجرافيك» فقد أشادت بدقة تصميم المتحف، وقالت عنه: هو أعجوبة معمارية تجمع بين روح الفراعنة ورؤية معاصرة، استخدمت فيها أحدث التقنيات التفاعلية فى العرض والترميم وحفظ القطع الأثرية، ما يمنح الزائر تجربة غامرة فى قلب التاريخ المصرى.
«فاينانشيال تايمز» أشارت إلى أن المتحف يملك كل مقومات أن يكون وجهة لا بد من زيارتها، وهو أكبر متحف فى العالم مكرس لحضارة واحدة.
وقالت «الإندبندنت»: إنه أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة.
وعبّرت «لوموند» عن إعجابها بالمتحف الذى يضم أجمل وأقدم آثار بشرية.
وتؤكد «لوفيجارو» أن المتحف المصرى الكبير جوهرة القاهرة الجديدة لعرض حضارة واحدة.
وأكدت «هيئة الإذاعة والتليفزيون البلجيكية» أن جناح توت عنخ آمون نقطة الجذب الأولى.
المتحف عظيم ما فى ذلك شك، والحدث عظيم لا يمكن أحد أن ينكر هذا.
ولأن قدرنا أن نناقش البديهيات، وأن نتوقف عند من يناقشون كل ما يحدث فى مصر من زوايا خاطئة وبعدسات سلبية، فإننا نقول إن عطاءات المتحف تتجاوز القيمة المعنوية الهائلة التى يقدمها إلى العالم، إلى كونه مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل.
الإنصاف يقتضى النظر إلى المتحف المصرى الكبير على أنه مشروع استثمارى ضخم، وأعتقد أن أحدًا لا يمكنه أن ينكر أن المشروع بصورته التى أصبح عليها، سيكون من بين أسباب الجذب السياحى.
لا أتحدث هنا من عندى، ولكن ما سأقوله الآن هو حصيلة مناقشات مع عدد من خبراء السياحة المرموقين.
قال لى أحدهم: نحن لا نتحدث عن مجرد متحف، بل نحن أمام كنز مصرى بكل معانى الكلمة، فافتتاحه سيساعد فى جذب ملايين الزوار من مختلف دول العالم لزيارة مصر، فهو يضم كنوزًا أثرية غير مسبوقة، لا تقدر بثمن، وتتنوع مقتنياته حيث يضم نحو ١٠٠ ألف قطعة أثرية، وهو ما لم يحدث فى أى متحف على وجه الأرض.
خبير سياحى آخر أشار إلى أن المتحف سيسهم فى توفير عشرات الآلاف من فرص العمل فى العديد من المجالات فى السياحة والفنادق والحرف اليدوية والتراث الثقافى.
إنهم يتحدثون الآن عن تكلفة المتحف وما أنفق عليه، دون أن يلتفتوا إلى ما سيعود على مصر منه، وهى صيغة اعتدنا عليها من الذين لا يريدون أن تكون هناك أى نقطة مضيئة فى مصر.
ما أقتنع به أننا أمام إنجاز مصرى حقيقى، ولنا أن نفخر به، كما علينا أن نفرح بافتتاح صرح سيضع مصر فى بؤرة اهتمام العالم، وهو ما تعودنا عليه، ولن ينقطع بقدرة أبنائها الذين يعملون ليلًا ونهارًا، لتبقى مصر دائمًا فى المقدمة، كما كانت.. وكما نحلم لها دائمًا.
 
           
                