الإثنين 17 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رفع الظلم عن نجيب.. لا تجعلوا من الاحتفاء بأديب نوبل فى معرض الكتاب فرصة ضائعة

حرف

- نجيب فى خيال الأجيال الجديدة شبحًا يسكن الماضى

قبل ما يقرب من أسبوع من إعلان اسم شخصية معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورة العام ٢٠٢٦ أخبرنى الصديق العزيز الدكتور أحمد مجاهد، المدير التنفيذى للمعرض، أن هناك اقتراحًا بأن يكون كاتبنا العالمى العابر للعقود نجيب محفوظ هو شخصية المعرض. 

لم يكن قد تم الاستقرار بشكل نهائى على القرار، رغم أن الدكتور مجاهد كان يميل إليه ويتحمس له، لكنه، وكما قال لى: إننى أحترم وأقدّر رأى اللجنة العليا للمعرض التى ستناقش الاقتراح، ولن يتم الإعلان عن الاسم النهائى إلا بعد اجتماعها. وهو الاجتماع الذى عُقد بالفعل بعد أيام بحضور الوزير. 

كما عرفت، لم يستغرق النقاش فى اللجنة العليا للمعرض حول اختيار نجيب محفوظ شخصية للمعرض وقتًا طويلًا. 

كانت هناك أسماء أخرى مرشحة بالفعل، لكن الانحياز كان لاسم نجيب فى النهاية، وأعتقد أنه انحياز لا يحتاج إلى تفسير أو تبرير، فعندما يأتى ذكر نجيب تختفى المعايير التقليدية وتتوارى القواعد المعتادة. 

لا أنكر أنها كانت مفاجأة بالنسبة لى أن نجيب محفوظ لم يكن شخصية المعرض فى أى دورة من دوراته السابقة، لكن أثر المفاجأة تبدد عندما عرفت أن ربط المعرض بشخصية معينة بدأ تقريبًا فى العام ٢٠١٤، أى منذ أحد عشر عامًا فقط. 

لكننى عدت لأتساءل: كيف لم يفكر من كانوا يقومون على إدارة المعرض وقتها أن يكون نجيب محفوظ هو أول من يستحق أن يكون شخصية المعرض؟ 

لكن مرة ثانية تراجع اندهاشى عندما تذكرت أن أول من كان شخصية المعرض هو الدكتور طه حسين، الذى عندما يظهر اسمه هو أيضًا تختفى المعايير التقليدية وتتوارى القواعد المعتادة. 

وأعتقد أن نجيب محفوظ لو كان حيًا وقتها لرحب بالاختيار وأثنى عليه، فإذا كان نجيب شخصية عالمية فذة بإنتاجه الأدبى وجائزة نوبل التى حصل عليها، فإن طه حسين صاحب الدور الأهم والأكبر فى تاريخنا الفكرى، فهو الأب الشرعى لكل اجتهاد وكل تفكير وكل محاولة للتنوير. 

لم يقع اختيار المدير التنفيذى للمعرض الدكتور أحمد مجاهد، ومن بعده اللجنة العليا، لاسم نجيب محفوظ ليكون شخصية المعرض تكاسلًا كما يقول البعض، ولم يكن هروبًا أيضًا من اختيار شخصيات أخرى لتكريمها، خاصة أن بعض الشخصيات التى كانت مقترحة جدلية- وهذا حديث آخر- فهناك مناسبة مرور عشرين عامًا على وفاة نجيب، وهى مناسبة فى التفكير الإدارى والثقافى محفزة على التذكير بنجيب وإحياء إبداعه وإسهامه الأدبى الكبير. 

لست مع الدكتور أحمد مجاهد فيما يطالب به، وهو أن ننتظر أعمال الدورة المقبلة من المعرض، وبعدها يمكن لمن يريد أن يتحدث أن يفعل ذلك، ولمن يريد أن ينقد أو ينتقد أن يساهم متقبلًا أو رافضًا، لكن بعد أن يكون العمل قد اكتمل، وقدم المسئولون عن المعرض ما لديهم، وكأنى به لا يعرف جماعة المثقفين الذين عاش بينهم طويلًا، ويدرك أنهم لا يمكن أن يصمتوا، ثم إن النقاش المبكر قد يكون مفيدًا، خاصة أن هناك قرارات كثيرة صدرت فى المجال العام الثقافى ولم تكن مناسبة أو موفقة. 

كثيرون ممن اعترضوا على اختيار نجيب محفوظ شخصية للمعرض فعلوا ذلك لأنهم- وقد يكون لديهم الحق فى ذلك- يعتبرونه أكبر من أى حدث ثقافى حتى لو كان المعرض الذى نعتبره الحدث الأهم فى حياتنا الثقافية، وهو ما يستدعى أن يكون الاحتفاء بنجيب بقدره وبحجمه وبما يستحقه، وبفعاليات يكون من شأنها إعادة إنتاجه ليس لدى من يعرفونه جيدًا أو لدى من قرأوه، ولكن لدى أجيال جديدة هى بالفعل لا تعرفه ولم تقرأ له شيئًا. 

لقد ظلمنا نجيب محفوظ بأكثر مما ينبغى. 

لا أقول هذا الكلام من عندى، ولكنه كلام واحد من نقادنا الكبار. 

كنت أتحدث مع الدكتور صلاح فضل قبل سنوات من وفاته، ومن يعرف فضل يعرف جيدًا علاقته بنجيب محفوظ وبأدبه، فقد كان، يرحمه الله، يتجول فى عالم نجيب وطرقاته تجول السائح الذى نزل بلدًا أحبه من أول نظرة، فقرر ألا يغادره أبدًا. 

وجدت الناقد الكبير يفاجئنى بقوله: يجب أن نخوض معركة حقيقية لرفع الظلم عن نجيب محفوظ. 

سألته مستنكرًا: وهل بعد كل ما حصل عليه نجيب محفوظ فى حياته وبعد موته، يمكن أن يكون وقع عليه أى ظلم؟ 

طبقًا لما رصده ورآه صلاح فضل، فإن نجيب محفوظ تعرض إلى الظلم ثلاث مرات. 

المرة الأولى لأنه لا يوجد أى عمل من أعماله الروائية مقرر على طلابنا فى مدارسنا، وهو أمر يمثل عارًا كبيرًا على المسئولين عن السياسات التعليمية فى مصر، ولا نجد مثل هذا فى العالم كله، ففى إنجلترا تجد بعضًا من أعمال «شكسبير» مقررة على الطلاب، وفى ألمانيا لا بد أن تجد «جوته» وأعماله فى المدارس، وفى إسبانيا ستجد أعمالًا لـ«سرفانتس» مقررة يقرأها الطلاب ويدرسونها. 

أما نحن فقد حرمنا طلابنا من أن يدرسوا بعضًا من أدب نجيب محفوظ، وهو أمر لا بد من تداركه، ليس لقيمة نجيب وتعريف الطلاب بمن وصل بالأدب العربى كله إلى العالمية، ولكن لما فى أعماله من قيم إنسانية راقية. 

يلتمس صلاح فضل بعض العذر للقائمين على اختيار الأعمال الأدبية التى تقرر على طلاب المدارس، فيمكن أن تكون لديهم خشية من أفكار نجيب محفوظ العميقة التى تزخر بها أعماله، لكن هذا فى النهاية عذر أقبح من الذنب الكبير الذى يرتكبونه فى حق نجيب، فسهولة أعماله واللغة البسيطة المكتوبة بها يمكن أن تحل إشكالية الأفكار العميقة والحوارات الفلسفية التى تسعى إلى التعرف على ماهية الإنسان، ثم إننا يمكن أن نلجأ إلى تبسيط بعض أعمال صاحب نوبل قبل أن تصل إلى الطلاب، بحيث تكون بابًا ملكيًا كبيرًا يدخلون منه إلى أعماله كلها بعد ذلك. 

المرة الثانية التى ظُلم فيها نجيب محفوظ كانت بسبب عرض أعماله سينمائيًا. 

يعترف صلاح فضل بأن السينما كان لها أكبر الأثر فى حياة نجيب محفوظ، فقد أخرجته من خانة الأديب الذى يعرفه الآلاف الذين يقرأون رواياته، إلى خانة الملايين الذين يشاهدون الأفلام المأخوذة عن هذه الروايات، لكنها فى الوقت نفسه ألحقت به الأذى الأكبر فى حياته، فقد رسم له المشاهدون صورة مخجلة، لأن الأفلام لم تتعامل مع رواياته كما ينبغى، لكنها ذهبت، على عادة السينما، إلى الاعتماد على الحكاية فقط، بعيدًا عن الأفكار والحوارات التى كان يمكنها أن تمنح نجيب ما يستحقه من قدر. 

كان من الصعب على صاحب نوبل أن ينظر إليه من يشاهدون أفلامه على أنه الكاتب الذى يهتم بالبلطجية والفتوات وبيوت الدعارة والراقصات، وزاد صعوبة الأمر عليه أنه لم يستطع أن يفعل شيئًا حيال ذلك، لكن لا يعنى هذا أن نستسلم له، بل لا بد من رفع الظلم عنه، وذلك من خلال إتاحة أعماله على أوسع نطاق، ليعرف الناس حقيقته، وحقيقة ما قدّمه فى أعماله المكتوبة، بعيدًا عما يمكن اعتباره شوشرة السينما على منتجه الأدبى الكبير. 

المرة الثالثة التى ظُلم فيها نجيب محفوظ كانت فى الصورة المرسومة له بأنه روائى ضد الدين، فلم يتردد بعض مهاجميه فى اعتباره ملحدًا، أو معاديًا للدين، وللإسلام على وجه الخصوص، ويأخذون من روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» ذريعة وحجة للهجوم عليه، على اعتبار أنها، كما قالوا، ضد الأديان وتسىء إلى الذات الإلهية. 

يؤكد صلاح فضل أن نجيب محفوظ لم يكن هكذا أبدًا، وحتى بالنسبة لـ«أولاد حارتنا» كان له موقف منها، شهد هو عليه. 

فعندما كان فضل فى بيروت فى دعوة عشاء خاصة، قابله الدكتور سهيل إدريس، صاحب دار الآداب اللبنانية، وسأله: هل تعرف نجيب محفوظ جيدًا؟ 

أجابه فضل: نعم أعرفه. 

فقال سهيل: احمل له رسالة منى بأننى أريد أن أنشر طبعة من رواية «أولاد حارتنا» بموافقة وتوقيع منه شخصيًا، وأنا مستعد أن أدفع له أى مبلغ يريده، بل يمكننى أن أرسل له معك شيكًا على بياض ويضع فيه المبلغ الذى يحدده. 

كان سهيل إدريس يطبع رواية «أولاد حارتنا» بالفعل دون إذن من نجيب، الذى رفض أن يطبعها فى القاهرة بعد أن تعهد لعبدالناصر بذلك، وكانت نسخ الرواية المطبوعة فى بيروت تباع على أرصفة القاهرة دون أن يملك نجيب ما يمكنه من منعها، بل إن الدار قررت أن تطبع الرواية حتى لو لم يوافق نجيب على ذلك، وأغلب الظن أنها كانت تسعى وراء الربح أكثر من أى شىء آخر. 

وقد تسأل: ولماذا حاول سهيل أن يحصل على موافقة نجيب رغم أنه يطبع الرواية بالفعل، ويحقق من ورائها مكاسب هائلة؟ 

أغلب الظن أنه كان يبحث عن شرعية لما يفعله، وهو ما لم يحدث. 

عندما عاد صلاح فضل إلى القاهرة، ذهب إلى نجيب محفوظ فى واحدة من ندواته، وبعد أن انتهى، اختلى به، وأبلغه برسالة سهيل إدريس. 

احتد نجيب على صلاح، وقال له: لا تحدثنى عن هذه الرواية أبدًا، فقد أساءت إلىّ بأكثر مما أحسنت.

لم يكن نجيب متمسكًا بشىء فى مواجهة من ألحّوا على عدائه للدين، لكننا تركناه وحده فى مواجهة المتطرفين، وهذا ظلم بيّن له، وإذا أردنا أن نقدم لنجيب شيئًا، فعلينا أن نرفع هذا الظلم عنه، بالحديث عن حقيقة الموقف وحقيقة الرواية، وحقيقة ما نُسب إليه دون أن يقصده. 

****

لقد نشرت ما قاله لى الدكتور صلاح فضل فى سياق آخر، لكننى أعيد نشره الآن والحديث عن ربط دورة معرض الكتاب المقبلة باسم نجيب محفوظ، وأعتقد أنها قد تكون فرصة لرد الظلم عن نجيب، ويمكننا أن نأخذ مما قاله صلاح فضل منذ سنوات خارطة طريق لرفع هذا الظلم، فلن يستفيد نجيب من عقد بعض الندوات، فقد عُقدت من أجله آلاف الندوات، ولن يستفيد من صدور كتب جديدة عنه، فأعتقد أنه أكثر أديب عربى صدرت عنه كتب ودراسات. 

لا يحتاج نجيب محفوظ إلى احتفاء تقليدى، نسدد به الخانات، ولكنه يحتاج إلى ما يُحدث أثرًا فعليًا فى إنصافه لدى من لا يعرفونه. 

إن الأجيال الجديدة تتوارث الصورة التقليدية المصنوعة لنجيب محفوظ، لا يقرأون أعماله، وحتى عندما اجتهدت دار «ديوان» وقدمت طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ، وصنعت لها أغلفة نالت إعجاب الشباب وبدأوا يتحدثون عنها، إلا أن هذا الإعجاب لم يتجاوز أغلفة الروايات، أشادوا بها وأبدوا سعادتهم من أفكارها، لكن لم يتناول أحد أيًا من هذه الروايات ليقرأها، وظل نجيب فى خيال الأجيال الجديدة شبحًا يسكن الماضى، أو تمثالًا عظيمًا لكاتب وصل بأدبنا إلى العالمية، لكنه لا يحتل فى أذهانهم أو تكوينهم أكثر من ذلك. 

أعتقد أن هذا هو الموضوع الأولى بالنقاش الآن. 

وعلى من يعارضون اختيار نجيب محفوظ شخصية المعرض، ومن يتفقون مع القرار، أن يعملوا جميعًا من الآن على أن يكون الاحتفاء به لائقًا، قدموا أفكارًا لذلك، يمكن أن يعقد الدكتور أحمد مجاهد جلسات تمهيدية مع أطياف مختلفة من المثقفين والأدباء والمفكرين والصحفيين، يستمع لهم ويستعين بهم، فنجيب محفوظ ليس ملكًا لوزارة الثقافة فقط، وليس ملكًا لمدير المعرض التنفيذى أو اللجنة العليا فقط، ولكنه ملك لنا جميعًا، ومن حقه علينا أن يساهم كل منا بقدر ما يستطيع فى رفع الظلم عنه. 

فهل سنفعلها؟ 

أما أننا سنركن إلى الجدل السرمدى الذى لن ينتهى أبدًا، فنجد أنفسنا أمام معرض يبدأ وينفض دون أن نكون قدمنا شيئًا حقيقيًا ومحترمًا من أجل نجيب محفوظ؟ 

أعتقد أننا لا بد أن نكون جميعًا على قدر مسئولية أن يكون عندنا كاتب وأديب ومفكر وفيلسوف وإنسان اسمه نجيب محفوظ. 

لا تتركوه مظلومًا. 

لندافع عنه ولنقل للأجيال الجديدة: هذه هى حقيقة الرجل.. وهذا هو قدره.. وتلك هى قيمته.