الجمعة 05 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

سلام عليك يا بسمة.. فى وداع بهائية علّمتنا كيف نحترم حرية العقيدة

حرف

- أحترم هذه السيدة التى وهبت نفسها لما تؤمن به

الرحلة كانت صعبة، ما فى ذلك شك. 

ولدت بسمة موسى فى العام ١٩٥٨ فى بورسعيد لأبوين بهائيين، لم تختَر عقيدتها، لكنها عندما عرفتها تمسكت بها ودافعت عنها، وقضت عمرها كله تعلنها دون أن تخشى شيئًا. 

وعندما توفيت صباح السبت ٢٩ نوفمبر ٢٠٢٥ نعاها زملاؤها فى كلية طب الأسنان بجامعة القاهرة، كأستاذة وإنسانة بعيدًا عن كونها بهائية. 

وقفتُ أمام نص النعى الذى نشرته كلية طب الأسنان قليلًا. 

فقد نعت الكلية بخالص الحزن والأسى وفاة الأستاذة الدكتورة بسمة جمال موسى، أستاذ جراحة الفم والوجه والفكين، والتى رحلت تاركة مسيرة علمية حافلة وبصمات واضحة فى مجالها الأكاديمى والبحثى. 

الكلية أشارت إلى أن بسمة كانت واحدة من أهم رموز قسم جراحة الفم والوجه والفكين، فقد أسهمت خلال سنوات عملها فى تخريج أجيال من الأطباء، وأسهمت فى دعم الأبحاث العلمية وتطوير الخدمات التعليمية والسريرية داخل الكلية. 

وفى نهاية النعى دعت الكلية الله أن يتغمدها بواسع رحمته، فرحمة الله للجميع لا يستطيع أن يحجبها أحد. 

عندما يموت الإنسان لا يبقى منه إلا ما قدمه للإنسانية، لا يلتفت أحد لدينه، فهذا شأن خاص بينه وبين الله، وقد أيقنت إدارة كلية طب الأسنان بجامعة القاهرة بذلك، فلم تتورط مثلما فعلت مواقع صحفية ومنصات افتراضية فى أن تنشر خبر وفاة بسمة بوصفها الناشطة البهائية المصرية. 

عرفت بسمة موسى تقريبًا فى العام ٢٠٠٨، تحدثت معها تليفونيًا لمرة واحدة، والتقيت بها لمرة واحدة، وكان ذلك على هامش نضالها الإنسانى الراقى للمطالبة بحقوق البهائيين فى مصر، وهى حقوق يقرها القانون وتقتضيها أصول المواطنة الحقيقية، لكن المجتمع- كما هى عادته- له رأى آخر. 

تخرجت بسمة موسى فى العام ١٩٨١ فى كلية طب الأسنان بجامعة القاهرة، ولتفوقها فقد قررت أن تستكمل طريقها الأكاديمى، لكنها عانت معاناة المختلفين، وكان هناك إصرار على قطع الطريق عليها، حتى لا تستكمل دراستها فى الماجستير أو الدكتوراه، لكنها كانت صبورة ومثابرة، لم تترك حقها، ووصل الأمر إلى أن تقدمت بمذكرات إلى المجلس الأعلى للجامعات، الذى انحاز لتفوقها الذى أثبتته، فوقف إلى جوارها، وساعدها فى الحصول على حقها الأكاديمى والعلمى. 

يحلو لمن يتحدثون عن بسمة موسى بعد رحيلها وصفها بأنها ناشطة بهائية، وفى الحقيقة هذا ظلم بيّن لما قامت به هذه السيدة، فهى لم تكن تعمل من أجل البهائيين فقط، ولكنها نذرت نفسها للدفاع عن حرية العقيدة بشكل عام، ما جعلها دائمًا فى مرمى السهام والاتهامات والخوض فى سيرتها والتشكيك فى وطنيتها، وهو ما لم يكن صحيحًا على الإطلاق. 

لا يعرف الكثيرون شيئًا عن البهائية، يتعاملون معها على أنها كفر، فقد جاءت بعد الإسلام، وكل ما جاء بعد الإسلام فهو من فعل الشيطان، ولذلك يستسلمون لكل الفتاوى والآراء التى تتعامل بعنف مع البهائيين. 

قلت لها فى لقائى الوحيد بها: أنا مسلم.. ولا يمكن أن أقر بأن هناك دينًا آخر بعد الإسلام، هذا أصل من أصول عقيدتى، لا يمكننى أن أخالفه، لكننى فى الوقت نفسه مستعد لأن أدافع عن اعتناقك لما ترغبين، فمن حق كل إنسان أن يعبد الله بالطريقة التى يراها صحيحة، فلسنا مَن نحاسب الناس على أديانهم، ولكن الله وحده هو الذى يفعل ذلك.. ومن الأدب مع الله ألا نتجاوز فى حقه أو نتعدى على ما اختص به نفسه. 

يومها ابتسمت ابتسامتها الهادئة، وقالت: هذا هو كل ما نريده.. لا نريد شيئًا آخر. 

لقد دخلت البهائية إلى مصر على وجه التقريب فى العام ١٨٦٤ مع بعض تجار السجاد الإيرانى، فمنبت هذه الديانة كان فى إيران، وتم تأسيس محفل روحانى لهم، وهو المحفل الذى تم إغلاقه فى العام ١٩٦٠ بقرار رقم ٢٦٣. 

وقتها كان عدد البهائيين فى مصر ٥ آلاف فقط، ولا أحد يعرف الآن كم عددهم، اللهم إلا وزارة الداخلية التى تحصى كل شىء عن المواليد والوفيات فى مصر. 

لم يغلق المحفل البهائى فى مصر بسبب دينى، ولكن السياسة لعبت دورها. 

كانت مصر قد دخلت فى وحدة مع سوريا من العام ١٩٥٨ وحتى العام ١٩٦١، وكان الدستور الحاكم فى الجمهورية المتحدة يخلو من النص على حرية العقيدة. 

فى العام ١٩٦٠ أخبر السوريون جمال عبدالناصر احتجاجهم على وجود المحفل البهائى فى مصر، قالوا له: كيف يكون هناك مقر للبهائيين فى مصر، ومحافل يجتمعون بها، إنهم جواسيس لإسرائيل، وولاؤهم لحيفا وجبل الكرمل فى إسرائيل أكثر من ولائهم لمصر. 

لم يقدم السوريون دليلًا على ما قالوه، فقط كانت اتهامات عشوائية، ولأن عبدالناصر كان يريد أن يحافظ على الوحدة بأى طريقة، فقد استجاب لهم، وأصدر قراره بإغلاق المحفل البهائى، ولم يستطع البهائيون وقتها أن يطعنوا على القرار دستوريًا، لأن دستور الوحدة لم ينص على حرية العقيدة، إلى أن صدر دستور ١٩٧١، فقام البهائيون بالطعن على إغلاق المحفل، وحصلوا على حكم بالموافقة على كونهم أصحاب ديانة، دون أن يتم فتح المحفل. 

لم يكن المحفل البهائى مكانًا للصلاة، ولكنه كان بمثابة الجهة الإدارية التى تهتم بشئون البهائيين، وتتكون الإدارة فيه من ٩ أعضاء. 

منذ تم إغلاقه لا يجتمع البهائيون فى مكان، وليست لهم أماكن للقاءات، وذلك تحقيقًا لمبدأ مترسخ فى العقيدة البهائية وهو طاعة الحاكم، ولا توجد أى تشكيلات أو مجموعات أو رابطة أو جمعية، فقد قرروا ألا يفعلوا ذلك إلا بعد أن تسمح لهم الدولة بذلك. 

لا يعانى البهائيون من عدم وجود أماكن مخصصة لصلاتهم، فالصلاة عندهم لا تكون فى المحفل، لأن صلاتهم فردية ولا تحتاج لأدائها تكوين جماعة، فكل بهائى يصلى داخل منزله بمفرده، وعلاقته بربه شأن خاص به، كأى فرد آخر ممن يعتنقون الديانات الأخرى.. أو هكذا يجب أن يكون. 

ولا يمارس البهائيون تبشيرًا بدينهم، ولا يدعون إليه، ولا يغرون الناس للدخول فيه، ولكن إذا طُلب منهم أن يوضحوا أشياء تخص عقيدتهم يقومون بذلك، دون أن يقولوا إن هذا الدين أفضل من ذلك، فهم يوضحون الأمر ولا يدعون إليه. 

قسّمت بسمة موسى سنوات عمرها العملية التى بدأت بعد تخرجها فى كلية طب الأسنان للعمل فى مسارين. 

الأول هو عملها الأكاديمى والبحثى حتى أصبحت عالمة فى تخصصها، وكطبيبة أسنان سمعت ممن تعاملوا معها أن «إيديها تتلف فى حرير» تأكيدًا على براعتها فى عملها. 

أما الثانى فكان عملها فى مجال القضايا الإنسانية، وعلى رأسها مطالبتها بحقوق البهائيين الإدارية والقانونية كمواطنين مصريين فى المقام الأول، ولذلك خاضت معركة قضائية لإثبات ديانتها البهائية فى خانة الديانة بالبطاقة الشخصية، وهو ما كان معمولًا به فى مصر، فقد كان الفنان الكبير حسين بيكار أحد أشهر البهائيين فى مصر يحمل بطاقة شخصية مدونًا بها أنه بهائى، وتكللت جهودها مع جهود آخرين بأن يتم وضع «شرطة» فى خانة الديانة، فقد رفضوا أن تظل خانة الديانة خالية، أو يكتبوا فيها ديانة أخرى لا يدينون بها. 

لم تكن بسمة موسى صاخبة، كانت تتمسك بالهدوء الشديد فى مواجهة حملات الهجوم عليها، وهى الحملات التى وصلت إلى اتهامها من زميل صحفى كبير، على الهواء مباشرة، بأنها مرتدة وتستحق القتل، مع أن توصيفها بأنها مرتدة لم يكن دقيقًا أبدًا، فهى لم تعتنق الإسلام أو المسيحية مثلًا حتى ترتد عنهما، ولكنها ولدت بهائية وعاشت بهائية وماتت بهائية. 

ما كان يميز بسمة موسى بالنسبة لى أنها كانت تعمل للحصول على حقوق البهائيين من أرضية وطنية كاملة، فقد رفضت بإصرار تدويل قضية البهائيين، أو التعامل معهم على أنهم أقلية دينية مظلومة، هم فقط مصريون لهم حقوق وتريد أن تحصل عليها، ولذلك سلكت الطريق القانونى دون غيره، ونفت كل الاتهامات التى طالتها بأنها سعت إلى الاستقواء بالخارج فى قضيتها. 

فى حوار صحفى منشور لها منذ سنوات، أجرته معها الزميلة يثرب عبدالرازق، يتبدى لنا ما كانت عليه بسمة، ما رأيكم أن نستمع إلى ما قالته. 

يثرب: تقولين إن البهائية ترفض الحديث فى السياسة.. لماذا؟

بسمة: لأنها تجيب مشاكل، بالإضافة إلى أن ديننا يمنعنا من الحديث فى السياسة.

يثرب: لماذا تتولى أجهزة الأمن حمايتكم؟

بسمة: الأمن يتولى حماية كل المصريين ونحن من المصريين.

يثرب: قيل إنكم تتلقون دعمًا من أمريكا وإنها تضغط على مصر حتى تسمح لكم بمباشرة شعائركم.

بسمة: لم نتلقَ دعمًا من أمريكا ولا من أى دولة أخرى، ولو أمريكا تدخلت لماذا لم ينفذ حتى الآن؟!، نحن نطيع الحكومة.. لو الحكومة قالت نقفل المجمع البهائى يبقى لازم نقفل.

يثرب: هل هو نوع من استرضاء الحكومة؟

بسمة: لا، ولكنه ما يأمرنا به ديننا، فهناك نص فى ديننا يأمرنا بطاعة الحاكم.

هل رأيتم كيف تتحدث هذه السيدة؟ 

لا تتعجلوا الحكم.. فلا يزال لدىّ المزيد. 

كان الاتصال الوحيد بينى وبين بسمة بعد الحلقة التى تم اتهامها فيها على الهواء بأنها مرتدة وتستحق القتل، وبعد الحريق الذى أشعله بعض المتطرفين فى قرية «الشورانية» بسوهاج فى بعض بيوت البهائيين، والذى حققت فيه على الأرض ومن ألسنة من شهدوا عليه وتابعوه بدقة. 

تواصلت معها لأستطلع رأيها فيما حدث، ولأدعمها بعد ما حدث، وأؤكد لها مرة ثانية أن اختلاف العقيدة بيننا لا يمنعنى أبدًا من مناصرتها فى أن تعبد الله بالطريقة التى تختارها. 

وجدتها هادئة وصابرة، وكان من بين ما قالته لى: أنا على يقين بأن الصبر مفتاح الفرج، وأن لكل شىء سببًا، وأن لكل مشكلة حلًا، والله وحده من يدير شئون البشر.. فلماذا نتعجل أقدار الله.. فهو لا يمنع ولكن يدبّر.. وتدبيره يأتى فى الوقت الذى يحدده هو.. وليس لنا يد فيما يجرى. 

أعرف أن البهائيين فى مصر خسروا كثيرًا بوفاة بسمة موسى، لكننى أعتقد أن كثيرين منهم يسيرون على منهجها، لا يطالبون بشىء كثير، يريدون فقط أن يكونوا مواطنين عاديين، يحصلون على شهادات ميلاد، ووثائق زواج، فهم يتزوجون عند كبارهم لكن لا يوجد اعتراف بهذا الزواج، يريدون أن يستخرجوا شهادات وفاة بصفتهم، يريدون أن تكون لهم مقابر فى أماكن محددة، يعلنون عن مطالبهم فى إطار الدولة لا يخرجون عليها، ولا يستقوون بآخرين فى مواجهتها، ولا يريدون أن يتدخل أحد فيما بينهم وبين الدولة، وقد سمعت هذا الكلام من كثيرين منهم مؤخرًا. 

إننا أمام مواطنة مصرية، قامت بكل ما يجب عليها، درست وتعلمت، اهتمت خارج قضيتها البهائية بقضايا كثيرة، فلا يعرف كثيرون أن بسمة كانت ناشطة فى قضايا حماية البيئة وتمكين المرأة ومساندة الأطفال، ونشر قيم التعايش والعمل المشترك بين مختلف فئات المجتمع، وظلت على يقين بأن حل مشكلتها ومشكلة آلاف البهائيين الذين يعيشون فى مصر لن يأتى إلا من الداخل. 

كانت تؤمن بأن الله سيمنح البهائيين حقوقهم، وما دامت الدولة منحتهم حقًا، فلا بد أن بقية الحقوق ستأتى، وما عليهم إلا الصبر، فهو دواء لكل وجع.. وحيلة من لا يملكون حيلة فى الحياة. 

إننى أحترم هذه السيدة التى وهبت نفسها لما تؤمن به، فقد حاربت من أجل حرية العقيدة، وقد أصبح هذا الآن أصلًا من أصول الجمهورية الجديدة، يتحدث الرئيس عن ذلك كثيرًا، عن حرية كل مواطن فى اختيار دينه، ويوصى الدعاة بأن يكونوا حراسًا لحرية العقيدة، ولم يبقَ إلا أن يؤمن المجتمع بأهمية وقيمة ذلك.. فلو حدث هذا فإن روح بسمة موسى ستخلد إلى الراحة فى مرقدها الأخير. 

كل ما أملكه الآن هو أن أقول لها: سلام على روحك الطاهرة يا بسمة، وليدبّر الله الأمر لعباده كما يريد.. فهو عادل.. لا يؤخر ولكن يدبّر.. وتدبير الله دائمًا خير.