خبيئة الصحافة.. ألف ليلة وليلة صحفية
- عبدالناصر قال بعد النكسة إنه قابل لكل شىء ولن يقدم دفاعًا وسيكون راضيًا بالمحاكمة والشنق فى «ميدان العتبة».
- رفض الوفديون نشر مقال هيكل بجريدتهم وقالوا: هل نسينا كل هذا العداء من الأستاذ هيكل ضد الوفد ورجالاته وأفكاره،
- بدايات العام 1974 صدرت مذكرات محمد نجيب «كلمتى للتاريخ» فى بيروت، وكانت بها هجوم على جمال عبدالناصر.
- استسلم عادل حمودة نزولًا على مواءمة سياسية وحذف الفصل الخاص بمبارك فى كتاب «النكتة السياسية».
- توفيق الحكيم استمر يمثل على الناس بلا انقطاع مدة تزيد على الأربعين عامًا
- محمد التابعى كان كلمة السر فى نجاح مجلة «روزاليوسف» وتألقها منذ دخوله إليها فى العام 1925.
- محمد التابعى خرج من «روزاليوسف» فى العام 1934 ليؤسس مجلة «آخر ساعة»
- فى العام 1953 تخرج الدكتور مصطفى محمود فى كلية الطب، وعين طبيبًا فى مستشفى الصدر بالعباسية.
هذه فكرة تُراودنى منذ سنوات، أن أكتب تاريخ الصحافة المصرية منذ بدايتها فى صورة «حكايات منفصلة متصلة»، أبطالها الصحفيون الذين عملوا فى بلاط صاحبة الجلالة، والصحف التى صدرت ثم اختفت، وتلك التى استمرت مُتحدية الزمن، لن أنحاز فيها إلى أحد على حساب أحد، فقط نقرأ ما حدث فى كواليس هذه المهنة التى لا نعرف عن تاريخها الحقيقى إلا القليل.
ما بين أيديكم هنا نماذج بسيطة مما أقوم بها وأخفيه فى أوراقى منذ سنوات، اعتمدت فيه على أرشيف الصحف ومذكرات الصحفيين ومن تعاملوا مع الصحافة، استمعت إلى كثيرين، وشهدت على ما فعله كثيرون، وأصبحت لدىّ قناعة أننا أمام مهنة أسطورية بكل المقاييس التى يمكن أن تقاس عليها الأسطورة، ولذلك اخترت لهذه الحكايات عنوان ستصدر تحته أكبر موسوعة عن الصحافة المصرية، وهو «ألف ليلة وليلة صحفية».

أول ظهور لجمال عبدالناصر فى الصحافة
طوال الأسابيع التى تلت ٢٣ يوليو ١٩٥٢ لم يكن معروفًا للشارع المصرى من هو الرجل الثانى فى الحركة بعد اللواء محمد نجيب، لسبب بسيط هو أن نجيب قد احتل واستولى على عقول وقلوب الناس بالكامل من اللحظة الأولى.
ابتداء من ١١ أكتوبر ١٩٥٢ بدأ إحسان عبدالقدوس رئيس تحرير روزاليوسف فى كتابة سلسلة مقالات بعنوان: «كيف نريد أن تحكم مصر؟».
فى ختام المقال الرابع كتب: كنا نتساءل قبل حركة الجيش عن زعيم جديد للشعب، وعن قائد للثورة، وعن رجل يستطيع أن يقف أمام الملك، وكان الرجعيون لا يؤمنون بأن الرجل يمكن أن يوجد أو يظهر من بين صفوف الشعب، ولكن ظهر محمد نجيب، وظهر جمال عبدالناصر وغيرهما، والشعب الذى ظهر من بينه هؤلاء القادة يستطيع أن يظهر من بينه أكثر من رئيس جمهورية، ثقوا بالشعب.
لم يتصور أحد دلالة إشارة إحسان وذكره لاسم جمال عبدالناصر فى نهاية مقاله، ولكن بعد أسبوعين فقط وفى ١٧ نوفمبر ١٩٥٢ كتب إحسان عبدالقدوس بروازًا بعنوان: «الرجل الثانى» عن جمال عبدالناصر، قال فيه: أصبح معروفًا أن الرجل الثانى فى الدولة بعد الرئيس محمد نجيب هو البكباشى جمال عبدالناصر، وجمال عبدالناصر هو رئيس جماعة الضباط الأحرار التى قامت بحركة الجيش، وإن كان هو لا يعترف بهذه الرئاسة، وقد عرف رغم شبابه بالهدوء الشديد وطول البال وعمق التفكير والذكاء المفرط، حتى أنه استطاع أن يضلل جميغ ضباط المخابرات ورجال البوليس السياسى فى جميع العهود المظلمة التى سبقا الحركة، وهو محل ثقة جميع ضباط الجيش على اختلاف نزعاتهم، وأثبتت الشهور التى أعقبت الحركة أنه يستطيع دائمًا أن يحقق أهداف العهد الجديد دون ضحة ودون عنف، وقد زادت المسئوليات الملقاة على عاتق الرئيس محمد نجيب زيادة كبيرة حتى أصبح من الضرورى أن يقوم الرجل الثانى بعده ببعض هذا العبء، وأن يتجمل بعض هذه المسئوليات أمام الشعب، وينتظر أن تقع تطورات كبيرة فى بناء الدولة ابتداء من سبتمبر المقبل.
وبعد أسبوع واحد خرجت مجلة «الاثنين والدنيا» وعلى صفحتها رقم ٢٤ برواز صغير بعنوان «شخصية الأسبوع» يتضمن رسمًا كاريكاتوريًا لجمال عبدالناصر، وكتبت تقول عنه ما يلى: الرجل الذى جعل من رأسه مقر قيادة الحركة، وجعل من أعصابه خطوط شبكة مواصلاتها، وجعل من نور عينيه أنوارًا كشافة تبدد الظلام، فكان البطل الثانى فى المعركة، شعلة من الذكاء والدهاء ويستطيع إذا أراد أن يبدو كتلة من الغباء والانطواء، وهكذا كان يعمل فى صمت، ويرتب فى هدوء، ويضفى على عمله وترتيبه سحبًا كثيفة من الغباء، ضللت جميع العيون والآذان والعقول التى حاولت أن تعرفه وتكشفه.
ويشهد له الجميع بالقدرة على التحكم فى أعصابه، وفى بريق عينيه وفى توجيهات قلبه، وعاش فى الجيش كمحطة الإذاعة السرية يستمع إليها الجميع ولا يهتدى إليها أحد، وأخيرًا جاء اليوم الموعود، وأنه بحث الخطة السرية للجيش بالمحطة العلنية لمصر، وظل الصوت يدوى ويعلو وعرفه الجميع وأحبه الجميع، ولكن ظل صاحب الصوت يعمل من وراء ستار كثيف، لأن دوره فى الحركة يفرض عليه أن يكون دائمًا خط الدفاع الثانى لقوات التحرير.
كان هيكل- قبل الخلاف- الوحيد الذى يستطيع أن يخاطب السادات فيما لا يستطيع أن يخاطبه فيه أحد.

عبدالناصر يعدم صورة لأعضاء مجلس قيادة الثورة
فى الشهور الأولى لثورة يوليو ١٩٥٢، استأذن الكاتب الصحفى حلمى سلام الذى كان وقتها رئيسًا لتحرير مجلة المصور عبدالناصر فى أن يلتقط صورة لأعضاء مجلس قيادة الثورة مجتمعين، لكى يقدمها هدية من مجلة «المصور» لقرائها.
وافق عبدالناصر على الفكرة، والتقط سلام الصورة بالفعل، لكنه وقبل يوم واحد من صدور المصور ونزولها إلى الأسواق، اتصل عبدالناصر بحلمى سلام ودعاه إلى مقابلته فى مجلس الثورة.
سأل عبدالناصر: إيه أخبار الصورة إياها؟
رد حلمى: طبعناها.. وأصبحت جاهزة للتوزيع.
قال عبدالناصر: لا... أنا لا أريد أن توزع هذه الصورة.
تساءل حلمى عن السبب، فقال له عبدالناصر: إنه سر أئتمنك عليه... إن فى هذه الصورة اثنين فرضتهما الظروف على مجلس الثورة، وأنا أترقب الوقت المناسب لإخراجهما منه، ولا أحب أن يرانا الناس فى الصورة كذا فرد، ثم يروننا بعد أيام قليلة وقد نقصنا اتنين، إنها علامة ليست طيبة، كما أنها ليست فى صالحنا، والذى أريده منك الآن هو أن تعدم هذه الصورة، ولنتفق على أن سبب إعدامها هو أنك لم تأخذمنى إذنًا بنشرها.
أعدم حلمى سلام الصورة، بعد أن أفهم صاحبى المصور أنه تجاوز عندما قال لهما إنه استأذن عبدالناصر فى نشرها وتوزيعها، لكنه فى الحقيقة لم يكن قد أستأذنه.
كان الرجلان اللذان قال عبدالناصر إن الظروف فرضتهما على مجلس الثورة وإنه يترقب الوقت المناسب لإخراجهما منه هما البكباشى يوسف صديق، والبكباشى عبدالمنعم أمين.
وبالفعل لم تمر على ذلك الحديث بين حلمى سلام وعبدالناصر أيام طويلة، حتى كان الرجلان قد أخرجا من مجلس الثورة، فأرسل الأول للعلاج فى الخارج، وأرسل الثانى إلى بروكسل سفيرًا لمصر بها.

عبدالناصر يعاقب رؤساء التحرير على طريقته
كان أكثر ما يثير غضب جمال عبدالناصر هو أن يقرأ فى إحدى الصحف المصرية اسم مدينة سورية أو شخصية سورية وقد كُتب خطأ، وفى إحدى المرات نشرت الصحف المصرية صورة واسم زعيم كبير من أقطاب الوحدة، ومن نواب رئيس وزارات الوحدة وهو فاخر الكيالى على أنه صبرى العسلى رئيس الوزارة السورية التى حققت الوحدة مع مصر والعكس بالعكس.
هاج جمال عبدالناصر وماج وهاجم بشدة رؤساء تحرير الصحف والمجلات المصرية الجالسين فى مكاتبهم المكيفة، والذين لم يفكر واحد منهم أن يذهب فى أى وقت وفى أى مناسبة إلى سوريا، وكان على وشك السفر إلى سوريا- وكانت آخر رحلة قام بها إلى سوريا قبل الانفصال- فأصدر تعليمات حاسمة إلى كل رؤساء التحرير فى مصر بأن يسبقوه فى طائرة حربية إلى اللاذقية، التى كان سيذهب إليها فى اليخت «الحرية» عن طريق البحر.
لم تكن رحلة عادية إلى دمشق أو حلب، ولكنها كانت رحلة شاقة قرر أن يبدأ بها من ميناء اللاذقية ويطوف فيها أنحاء سوريا إلى حمص وحماة وحلب وجبل العرب «جبل الدروز» وإلى دير الزور والحكسة والبوكمال، واصلًا إلى أقصى الشمال السورى ملاصقًا الحدود التركية وأقصى الشرق ملاصقًا الحدود العراقية، أيام كانت الحدود التركية والسورية مشدودة الأعصاب، وأيام كانت الخلافات مع عبدالكريم قاسم فى العراق فى قمتها.
ركب رؤساء تحرير الصحف جميعًا الطائرة من مطار اللاذقية، وعندما أدركوا بأعمارهم المختلفة وأمزجتهم المتباينة حول مشقة السفر إلى مناطق ليس فيها أى تسهيلات، بدأوا يتساقطون تدريجيًا.
عاد مصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس من اللاذقية بالطائرة بعد يوم أو يومين، وفى حلب استغاث كامل الشناوى بمن ينقله بالطائرة إلى دمشق، ولم يصمد فى هذه الرحلة حتى نهايتها إلا محمد حسنين هيكل وناصر الدين النشاشيبى ومصطفى المستكاوى وأحمد بهاء الدين.

السادات لمندوب مجلس الوزراء: أنت مفصول
فى أحد أيام شهر مارس ١٩٥٤ استدعى أنور السادات الذى كان وقتها مديرًا عامًا لجريدة الجمهورية المحرر أحمد طلعت الذى كان مندوبًا للجريدة فى مجلس الوزراء، ولأن السادات كان ممن ينامون أكثر النهار ويعملون أكثر الليل، لذلك كان موعد المقابلة بعد منتصف الليل.
دخل أحمد طلعت حجرة أنور السادات، فوجده جالسًا فوق مقعد فى الناحية المقابلة لمكتبه، وأمامه عشاه الأثير الذى يتكون عادة من بعض اللحوم المشوية أو الفراخ المحمرة، فقد كان يميل إلى أن يكون العشاء قاصرًا على بعض النواشف كما كان العشاء هو وجبة طعامه الرئيسية.
ظل أحمد طلعت واقفًا أمام السادات، حتى رفع عينيه فى وجهه، حتى قال له: «الراجل نجيب ده راجل خرفان بيحب كثرة الكلام».
يقول أحمد طلعت: «تملكتنى دهشة لم تترك للسانى القدرة على أن أنطق بكلمة واحدة، وكيف يمكن لشاب فى العشرينيات من عمره أن يسمع عضوًا فى مجلس قيادة الثورة يصف رئيس الجمهورية بأنه رجل خرفان ثم يستطيع لسانه أن ينطق بالكلام».
استطرد السادات: «من هنا ورايح سيبك منه، ولا تنشر من تصريحاته شيئًا على الإطلاق».
استجمع ما بقى عنده من الوعى- بعد ذهول هائل- وقال: حاضر يا فندم، واستدار خارجًا من الحجرة، وكأنه هارب من هول لا يملك مواجهته إلا بالفرار.
نفذ أحمد طلعت ما أمر به السادات، فهو أكبر المسئولين فى الجريدة، وهو عضو مجلس قيادة الثورة، وبالتالى فهو أعلم منه- ومن غيره- بما يجب وبما لا يجب.
كان محمد نجيب يأتى إلى مقر رئاسة مجلس الوزراء فى شارع مجلس الشعب، ويصعد السلم المؤدى إلى شرفة تستقبل مدخل المبنى، فيجد فى انتظاره فى هذه الشرفة عدد من الصحفيين فيلقى عليهم التصريحات، ويدلى إليهم الأخبار، وكان أحمد طلعت- بعد أوامر السادات- يقف بينهم بلا ورقة أو قلم فى يده، يسمع ما يقول، دون أن يكلف خاطره بتسجيل كلمة واحدة مما يقول.
تمت تسوية الأزمة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتم الاتفاق فيما بينهم على أن يقتصر دور محمد نجيب على رئاسة الجمهورية، فى حين يتولى جمال عبدالناصر رئاسة مجلس الوزراء.
فى صباح أحد الأيام، وبينما كان جمال عبدالناصر يعقد أول اجتماع لمجلس الوزراء برئاسته، حضر إلى مقر مجلس الوزراء ركب الرئيس محمد نجيب الذى جاء خصيصًا لتهنئة جمال عبدالناصر بمنصبه الجديد، ودخل محمد نجيب إلى قاعة اجتماع المجلس ومعه عدد كبير من المصورين لتسجيل الحدث الكبير.
كان جمال عبدالناصر جالسًا إلى رأس مائدة الاجتماع ووراءه مرآة كبيرة تعكس الأضواء الباهرة التى تنطلق من أجهزة التصوير، وتقدم منه محمد نجيب فصافحه وقال له: مبروك يا عم جمال.
توقف محمد نجيب عقب انتهاء الزيارة فى شرفة المبنى- كعادته- وتحدث إلى الصحفيين، وكان أحمد طلعت لا يزال ينفذ أوامر السادات، فلم ينقل إلى جريدة الجمهورية كلمة واحدة من كلامه.
فى اليوم التالى استدعى أنور السادات أحمد طلعت، فلما دخل عليه وجده يجلس خلف مكتبه، ونظر إليه فى صرامة شديدة، وقال: ما هذا الذى فعلته؟ لقد سببت لنا حرجًا شديدًا فى مجلس قيادة الثورة، لقد اتصل نجيب بجمال وكان غاضبًا غضبًا شديدًا؛ لأن الجمهورية لم تنشر تصريحاته بالأمس.
استطرد السادات دون أن يسمح لأحمد طلعت بالكلام أو الرد، وقال له: إن اتفاقنا مع نجيب على التخلى عن رئاسة مجلس الوزراء يقضى بأن يعامل معاملة رئيس الجمهورية كاملة، وأن تنشر كل تصريحاته- بهذه الصفة- ولقد تصور من عدم نشرك لتصريحاته أمس أن جمال قد أخل باتفاقه معه، وبأنه وراء منع الصحف من نشر ما يدلى به من تصريحات.
توقف السادات عن الكلام فجأة، وقبل أن يستجمع أحمد طلعت نفسه ليقول له إنه ينفذ تعليماته، وليس أكثر من ذلك وجد السادت يقول له: أنت مفصول.

هيكل ينقذ السادات من كارثة سياسية: اذهب إلى قصر عابدين
ظل أحمد بهاء الدين بعيدًا عن هيكل طوال عصر عبدالناصر، كانت تربطهما صداقة دون عمل مهنى محدد، لكنه عمل معه فى الأهرام أثناء رئاسة السادات.
فى واحدة من جلساتهما معًا فى مكتب هيكل، وتزامن ذلك مع أيام مظاهرات عنيفة قام بها الشعب ضد السادات فى العام ١٩٧٢ احتجاجًا على عدم حسم الموقف من المعركة مع إسرائيل، استمع بهاء لهيكل وهو يتحدث مع السادات.
يقول بهاء: كان واضحًا أن علاقة هيكل بأنور السادات لا تقل كثيرًا فى مستواها الرسمى والعملى عن علاقته بالسلطة فى عهد جمال عبدالناصر، كنت ألاحظ أنه الوحيد الذى يستطيع أن يخاطب السادات فيما لا يستطيع أن يخاطبه فيه أحد، وأن رؤساء الوزارات والوزراء يخطبون وده بنفس الطريقة.
فى يوم جلسة بهاء مع هيكل كانت الجماهير قد احتلت واقعيًا مدينة القاهرة بشوارعها وميادينها والسلطة عاجزة عن التصرف، وكان أنور السادات قد دعا أعضاء مجلس الأمة إلى الاجتماع به ليحدثهم عن الموقف فى قصر عابدين، وكان السادات صباح اليوم المحدد لانعقاد هذا الاجتماع فى استراحة القناطر، ووصلته أنباء خطيرة عن هذا الاحتلال للقاهرة الذى وصل إلى ساحة قصر عابدين نفسه، وقرر السادات الليلة السابقة أن ينقل الاجتماع من عابدين إلى استراحة القناطر، أى يذهب الوزراء وأعضاء مجلس الشعب والصحافة إلى القناطر.
انزعج أكبر المسئولين فى البلد، وكان لا بد أن يقول أحد للرئيس السادات إن نقل الاجتماع إلى القناطر إعلان للناس وللدنيا أن رئيس الدولة غير قادر على دخول عاصمته، ولم يجدوا شخصًا يفاتح الرئيس فى ذلك إلا محمد حسنين هيكل.
يقول بهاء: سمعت ورأيت كيف استعمل هيكل كل وسائل الإقناع والضغط المعنوى إلى أقصى الحدود على أنور السادات لكى يقبل بالذهاب إلى الاجتماع فى قصر عابدين كما هو مقرر، كان الموضوع حساسًا ومحرجًا، لأنه يمس شجاعة الرجل وكبرياءه، وكان هذا منعكسًا على دقة الحديث وقوة الضغط المطلوب، وقد سمعت طبعًا بأذنى كلام هيكل للسادات، وإن كنت لم أسمع ردود السادات إلا من هيكل بعد ذلك، ولكنه تمكن على أى حال من إقناع السادات بإبقاء الاجتماع فى قصر عابدين، وفى تقديرى أنه لو لم يتم ذلك لوقعت كارثة.

السادات يبدأ فى تحجيم دور هيكل فى الصحافة
بدأ تحجيم الرئيس السادات لدور الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل مبكرًا، وكان فيه أكتر من شاهد على ده.
الكاتب الكبير فتحى غانم يحكى فى مذكراته أن السادات نجح فى حسم معركة احتكار هيكل للرأى والمقال السياسى منذ مرحلة مبكرة من رئاسته، وكان لجريدة الجمهورية دور كبير فى هذه المعركة.
فقد كان أول ما يشغل الكثيرين من أعضاء التنظيم الطليعى هو احتكار الأهرام وهيكل للرأى والمقال السياسى، فضلًا عن انفراده بأخبار عبدالناصر، لذلك كان أول اختبار لحرية الصحافة هو معارضة هيكل المعلنة فى الأهرام، عن ضرورة تحييد أمريكا فى الصراع العربى - الإسرائيلى، والمخاوف التى يثيرها حول نشوب حرب نحاول فيها عبور قناة السويس التى كانت من وجهة نظره التى شرحها فى مقالاته مانعًا مائيًا من شبه المستحيل عبوره.
تصدت لهيكل ولأفكاره المطروحة والموضوعات المطروحة فى الأهرام مجموعة كبيرة من رجال التنظيم الطليعى طلبوا نشر مقالاتهم فى جريدة الجمهورية، وأحدثت مقالاتهم رواجًا سياسيًا ورواجًا فى توزيع الجمهورية، وظهرت على السطح التيارات المتباينة فى التنظيم الطليعى، ولم يتدخل رقيب يفرض موقفًا محددًا، أو يطالب بمنع نشر مقال.
وبدا للقراء أن الهجوم على هيكل أمر مثير للدهشة، ولدت دلالاته على أن مناخًا جديدًا يسود البلاد، وكان أعضاء التنظيم يفسرون هذا المناخ بأن عبدالناصر الزعيم قد مات، وأصبح من المنطقى أن يتولى التنظيم التوجيه السياسى من خلال قنوات الاتحاد الاشتراكى واللجنة المركزية، وقد انتهى العهد الذى كانت فيه الجماهير تعتمد على الزعيم، وعلى التنظيم السياسى أن يتولى بنفسه المهام المطلوبة للحكم، وكان الحديث عن السادات ينتهى إلى أنه لن يتدخل، لأن مؤسسة الاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعى أقوى منه، وهى التى جاءت به إلى الحكم.
يقول فتحى غانم: تشجعت أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكى، فتحركت لتمارس دورها، فكان اجتماعًا لرؤساء مجالس إدارات الصحف دعا إليه ضياء الدين داود، ووصلت متأخرًا فوجدت هيكل يجلس بالقرب من الباب عند طرف المائدة الطويلة التى يجلس فى طرفها الآخر ضياء الدين داود، وجلست بجوار هيكل، وهمس وملامح وجهه تفيض بالسخرية، وسألنى: هل صحيح أن ميزانية الإعلانات تصل إلى خمسة وعشرين مليون جنيه؟ ما هو الرقم عندك فى الإعلانات المصرية؟
قلت له: مليون ونصف المليون؟
فقال بضيق: إنهم يرددون كلامًا غير صحيح، ويذكرون أرقامًا لا صلة لها بالواقع.
وفى اجتماع آخر قال لى وهو خارج كلمات قاسية عن ذلك الذى يحدث فى هذه الاجتماعات، كان واضحًا أنه يعترض على ما يُقال، ويرى أنه كلام لا صلة له بالصحافة أو الإعلام أو السياسة، ونقل لى الإحساس بأن الصراع قائم ويوشك أن يكشر عن أنيابه، لكنه لم يصل بعد إلى المكاشفة التى تجعل هيكل يقاطع هذه الاجتماعات.
وكان حضور هيكل ومشاركته فى اجتماعات الاتحاد الاشتراكى تعنى أن الظروف تغيرت، فلم تعد القرارات تصدر من الرئاسة ويعرف بها هيكل قبل غيره، بل أصبحت هناك مناقشات فى اجتماعات الاتحاد الاشتراكى، والسادات لا يتدخل ليفرض رأيًا.

هل بدأ هيكل حياته الصحفية مندوبًا للإعلانات؟
فيه أكتر من رواية لبداية الأستاذ هيكل فى عالم الصحافة.
الرواية الأولى صاحبها هو هيكل نفسه، عرفنا منه أنه بدأ فى جريدة الإيجبيشيان جازيت سنة ١٩٤٢، وفضل فيها لسنة ١٩٤٤، وهناك قابل الكاتب الكبير محمد التابعى صاحب ورئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» اللى طلب منه أن ينضم إلى العمل معه، لأنه مصرى ويجب أن يكتب فى الصحافة المصرية، وأن التابعى أبدى إعجابه الشديد بتغطية هيكل لأخبار الحرب اللى دار أحداثها فى العلمين.
فيه إشارة تانية إلى أن الأستاذ هيكل بدأ عمله فى الصحافة المصرية فى مجلة روزاليوسف بعد ما قابل السيدة فاطمة اليوسف صاحبة المجلة فى مطعم «باريزيانا» اللى كانت متعودة إنها تتغدى فيه يوميًا، وهناك طلبت منه إنه يشتغل معاها، والدليل على ده إن الحوار اللى عمله هيكل مع نجيب الريحانى كان منشور فى مجلة روزاليوسف سنة ١٩٤٣، يعنى قبل ما يقابل الأستاذ التابعى.
الرواية التالتة صاحبها هو الأستاذ السيد أبوالنجا اللى كان أستاذ لهيكل فى مدرسة التجارة المتوسطة.
فى مذكراته قال السيد أبوالنجا إنه كان هو واسطة المعرفة بين هيكل والأستاذ التابعى، وإنه بعته بخطاب توصية إلى محمد التابعى، ولأن التابعى كان صديق أبوالنجا، فقد قبل وساطته، وكلف هيكل بالعمل فى الإعلانات مقابل ٤ جنيه فى الشهر، وفى يوم كتب هيكل موضوع لفت نظر التابعى، اللى سأله: إن كان هو اللى كتبه ولا ناقله، ولما قال له هيكل إنه هو اللى كاتب الموضوع، طلب منه يشتغل معاه فى الصحافة وكان المقابل ٣ جنيه.
زعل هيكل جدًا من القرار، دخله قل جنيه كامل، فاشتكى للسيد أبوالنجا اللى توسط عند التابعى مرة تانية، وطلب منه إنه يدى هيكل الـ٤ جنيه اللى كان بياخدهم وهو شغال فى الإعلانات، وفعلًا استجاب التابعى لتبدأ مسيرة هيكل فى الصحافة المصرية.
الرواية الرابعة رواية ملهاش مرجعية، وممكن اعتبارها من النميمة الصحفية، وهى إن الأستاذ هيكل ولأنه كان خريج مدرسة التجارة المتوسطة، فقد بدأ مع التابعى «تيبست» بيكتب موضوعات الصحفيين على الآلة الكاتبة، ولما تعب محرر الحوادث كتب هيكل موضوع وعرضه على التابعى اللى اكتشف موهبته وطلب منه العمل معاه فى الصحافة.
الروايات كتيرة والله أعلم إيه منها الصحيح وإيه الغلط... لكن الحقيقة الوحيدة إن هيكل أصبح أهم صحفى عربى فى القرن العشرين والقرن الواحد وعشرين كمان.

الريحانى ينصح هيكل بترك الكتابة فى الفن
فى بداية حياته الصحفية، وتحديدًا فى العام ١٩٤٣، قرر الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل أن ينطلق من كواليس الحياة الفنية، فاتجه إلى المسارح، وكان من نصيبه أن يصادق الفنان الكبير نجيب الريحانى.
فى ديسمبر ١٩٦٢، وكان هيكل وقتها رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام، نشرت مجلة آخر ساعة حوارًا مطولًا مع هيكل، أجراه وقتها الناقد الفنى «جليل البندارى».
عنوان الحوار كان «هيكل.. الذى يندفع إليك من تحت عقب الباب».
البندارى قال عن هيكل فى تقديمه للحوار معه: إن بائع الخبز وبائع اللبن وبائع الفول المدمس يدقون جرس الباب ويقلقون راحتك، أما محمد حسنين هيكل إذا وجد بابك موصدًا استحى أن يدق الباب واندفع إليك من تحت عقب الباب، وفى كل جمعة يحملك فى قطار سريع فيهبط لك إلى الأعماق، ثم لا يلبث أن يرتفع بك إلى قمة الهمالايا لتطل بعينيك على أحداث العالم.
وقت نشر الحوار كان الأستاذ التابعى يهاجم محمد عبدالوهاب، ويقول إنه يقتبس ألحانه.
البندارى سأل هيكل عن الحكاية دى، فقال له: مطالبة عبدالوهاب بعمل سيمفونى غير معقولة، ذلك ليس دوره، فعبدالوهاب نموذج طيب لهذه المرحلة، وإذا اقتبس مفيش مانع، إن حلقة الخَلق الأدبى بدأت بالترجمة، وقبل ظهور توفيق الحكيم ليبنى البناء الكامل كنا نعتمد على الاقتباس والتأثر، فليس مطلوبًا من عبدالوهاب أن يؤلف سيمفونيات، وعبدالوهاب لم يخرج عن دوره فى موسيقاه، فليقتبس أو يلطش بعض نغمات العباقرة، فإن ذلك لن يقلل من قيمة دوره فى تطوير الموسيقى فى هذه المرحلة من التطور العام.
بعد كده سأل البندارى هيكل عن نجيب الريحانى، ودار الحوار كالتالى:
البندارى: من هو أول نجم التقيت به فى حياتك الصحفية؟
هيكل: نجيب الريحانى.
البندارى: فين؟
هيكل: فى كواليس المسرح سنة ١٩٤٣ كنت رايح أعمل حديث وياه وقابلت هناك السيدة ميمى شكيب.
البندارى: كانت حلوة؟
هيكل: ماخدتش بالى لأنى كنت مكسوف جدًا وهى بتكلمنى.
البندارى: ما أول فكرة تكونت فى رأسك عن الريحانى؟
هيكل: استلطفته ونشأت بعد كده بيننا صداقة قوية، وكان من رأيه إنى أبطل الكتابة عن المسرح.
البندارى: ليه؟
هيكل: قال إن اللى بيكتبوا وقتها فى الفن ماكنوش قد كده، وقال لى ما تضيعش وقتك.
البندارى: كيف كان يتحدث إليك وهو يمثل؟
هيكل: بين الفصل والفصل.
البندارى: إذن فأول تحقيق صحفى فى الفن كتبته عن نجيب الريحانى؟
هيكل: وكان الأول والأخير.
كان نجيب الريحانى إذن هو من أهدانا الأستاذ هيكل بنصيحته أن يبتعد عن الفن ويركز فى الصحافة، وكانت نعم النصيحة.

أحمد بهاء الدين يرفض الهجوم على هيكل ويرفع مذكرة لعبدالناصر
بعد هزيمة ١٩٦٧ كان أحمد بهاء الدين نقيبًا للصحفيين.
وقتها ارتفعت حدة النقد فى الصحف المصرية، الأمر الذى انتهى بصدور قرار من جمال عبدالناصر بفرض الرقابة على الصحف، وكان ممن تعرضوا للهجوم فى الصحف محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، بسبب انفراد الأهرام بنشر عدد من أهم الأخبار وحجبها عن الصحف الأخرى.
اتصل سعيد سنبل رئيس تحرير جريدة الأخبار وقتها بأحمد بهاء الدين بصفته النقابية، ونقل إليه غضب زملاء صحفيين فى صحف عديدة من هيكل ووضعه وسيطرته ونفوذه.
استوعب أحمد بهاء الدين غضب الصحفيين، وقال لمن جلسوا إليه: إذا كنتم تريدون أن نجتمع فى مجلس النقابة ونهاجم هيكل فأنا غير مستعد لذلك، فلو أن واحدًا منا فى مكان هيكل وحصل على ما يحصل عليه من أخبار، لما وزعها على سائر الصحف، أما إذا كنتم مستعدين لأن نتجه بالاحتجاج إلى الرئيس جمال عبدالناصر الذى يخص بهذه الأخبار صحيفة دون أخرى فأنا مستعد.
جمع أحمد بهاء الدين أعضاء مجلس نقابة الصحفيين مرتين للنظر فى الأمر.
فى المرة الأولى قدموا احتجاجًا مكتوبًا إلى الرئيس جمال عبدالناصر على فرض الرقابة على الصحف، واستشهدوا بأن مصر خاضت حرب ١٩٥٦ دون رقابة مفروضة على الصحف.
وفى المرة الثانية كتبوا مذكرة رفعوها إلى الرئيس عبدالناصر، وبها رأوا أن هناك نوعًا من الأخبار يجوز فيه السبق الصحفى وانفراد صحيفة به دون غيرها، ولكن هناك نوعًا آخر من الأخبار، يتعلق بالمصالح القومية العليا فى هذه الظروف الحساسة، وعندما يخص رئيس الدولة بهذه الأخبار جريدة دون أخرى، فكأنما هو يميز بين المواطنين الذين يقرأون هذه الجريدة أو غيرها. سلم أحمد بهاء الدين المذكرتين إلى عبدالمحسن أبوالنور الذى كان قائمًا بعمل أمين عام الاتحاد الاشتراكى، وبعد أيام اتصل به وقال له: الرئيس عبدالناصر قرأ ما كتبت وهو ما يوافق عليه، لكنه يقول «إن هذه ظروف طارئة يرجو أن تتغير بسرعة».

مقال هيكل الممنوع
فى عدد مجلة الهلال فبراير ٢٠١٩، كتب عباس الطرابيلى قصة مقال هيكل الممنوع فى الوفد.
لم يكن الطرابيلى موفقًا فى رواية الجزء الذى لم يشهده من الواقعة، ولذلك قال: أغلب الظن أن زميلى ودفعتى بقسم الصحافة مع الراحل العظيم مصطفى شردى وكان من أصحاب الرأى المستنير- يقصد جمال بدوى-، كان يهدف إلى جذب قطاعات كانت تهوى وتعشق مقالات هيكل، فاقترح عليه أن يكتب مقالًا- قد يصبح أسبوعيًا- فى جريدة الوفد دون أن يحسب رد فعل الباشا سراج الدين رئيس الوفد وزعيمه، وكان جمال ذكيًا وموفقًا فى خطوته هذه؛ إذ استطاع أن يقنع فؤاد باشا بهذه الفكرة دون أن يعرضها بنفسه على قيادات الهيئة العليا للوفد وكبار شخصياته.
لم يكن فى الأمر اقتراحًا بكتابة دائمة من هيكل للوفد.. الحكاية كلها كانت وليدة الصدفة، وربما لهذا قال الطرابيلى «أغلب الظن»، ما حدث بعد ذلك حكاه الطرابيلى على سبيل اليقين وليس الظن، لأنه كان طرفًا فيه.
يقول: حدث أن سافر جمال بدوى مرافقًا للرئيس حسنى مبارك فى زيارته للصين ضمن رؤساء تحرير الصحف المصرية، وكلفنى الزميل جمال بدوى بمتابعة الأمر، واستلام المقال من الأستاذ هيكل ونشره فى جريدة الوفد، وتسلمت المقال وقمت بإعداده للنشر بصفتى مديرًا لتحرير الوفد، وفجأة اتصل بى فؤاد باشا وطلب منى إيقاف نشر المقال والاتصال بالأستاذ هيكل للاعتذار لسيادته عن عدم نشر المقال، وشرح لى الباشا أسباب التراجع عن هذا النشر، قال لى فؤاد باشا إن كبار الوفديين اعترضوا ورفضوا بشدة أن تصبح جريدة الوفد مكانًا لنشر أفكار ومقالات الأستاذ هيكل.
يرسم الطرابيلى صورة لما جرى، فقد تساءل الوفديون: هل نسينا كل هذا العداء من الأستاذ هيكل ضد الوفد ورجالاته وأفكاره، وأن تصبح صفحات جريدة الوفد منبرًا للأستاذ هيكل، واستجاب الباشا سراج الدين لوجهة نظر قيادات الوفد ومفكريه، ومنهم أحمد أبوالفتح رئيس تحرير المصرى القديم لسان حزب الوفد، وأيضًا إحسان عبدالقدوس الذى كان يكتب مقالًا أسبوعيًا على صفحة كاملة من جريدة الوفد، وأيضًا مصطفى أمين صاحب دار أخبار اليوم، ولم تكن قيادات الوفد وحدها التى اعتراضت على أن يكتب هيكل فى الوفد، بل كانت كل قيادات ولجان الوفد فى المحافظات وبالذات فى بورسعيد والإسكندرية والغربية وأسوان والبحيرة والجيزة، واقتنع فؤاد باشا بوجهة نظرهم وتناسى حواراته الطويلة مع الأستاذ هيكل وإبراهيم شكرى وهم فى معتقل السادات إلى أن أفرج عنهم حسنى مبارك فى بداية حكمه.
ويقول عباس الطرابيلى ما ينفى رواية هيكل، الذى أكد أن أحدًا لم يعتذر له أو حتى يتحدث معه مجرد حديث عابر من جريدة الوفد.
يحكى عباس: كلفنى الباشا سراج الدين بالاعتذار للأستاذ هيكل، وكانت مهمة صعبة للغاية، ولكن الأستاذ قال لى: تعرف.. كنت أتوقع اعتذار الوفد عن عدم النشر.
فهل كان رد الأستاذ نابعًا من مصادر معلوماته.. أم أنه كان يتوقع ذلك لسابق معرفة بالمعارك القديمة بينه وبين الوفد؟
ويختم الطرابيلى شهادته بقوله: ولما عاد جمال بدوى من رحلته مع الرئيس مبارك للصين، وما أن عرف بالقصة حتى ذهب للقاء الباشا فى قصره بجاردن سيتى، ولما لم يقتنع قدم جمال استقالته من رئاسة تحرير جريدة الوفد، وهى الاستقالة الأولى، ولكن لأن جمال كان من أفضل من يفكر ويخطط فقد قبل مساعى بعض شخصيات الوفد وفى مقدمتهم ابراهيم باشا فرج- وكان يحب جمال بدوى- وتراجع عن استقالته.

محمد نجيب يهاجم مصطفى أمين وأخبار اليوم فى بيروت.. ويتوب فى القاهرة
فى العام ١٩٧١، أطلق الرئيس السادات سراح الرئيس محمد نجيب الذى ظل تحت الإقامة الجبرية منذ العام ١٩٥٤ فى فيلا زينب الوكيل.
بعد ما يقرب من عامين وفى بدايات العام ١٩٧٤ صدرت مذكرات محمد نجيب «كلمتى للتاريخ» فى بيروت، وكانت بها هجوم على جمال عبدالناصر ومحمد حسنين هيكل، حيث لم يتردد نجيب فى اتهامهما بأنهما كانا عميلين للمخابرات المركزية الأمريكية.
فى بدايات العام ١٩٧٤ أيضًا كان مصطفى أمين قد خرج من سجنه على خلفية اتهامه بالتجسس لصالح المخابرات الأمريكية بعفو من الرئيس السادات، وبدأ يستعيد نفوذه ونشاطه الصحفى بشغف ورغبة فى أن يبرئ نفسه من تهمة الجاسوسية.
التفت مصطفى أمين إلى مذكرات محمد نجيب التى نشرت فى لبنان على حلقات أولًا فى مجلة الحوادث اللبنانية، ثم صدرت فى كتاب، فقرر أن يجعل منها سلاحًا فى معركته ضد هيكل وعبدالناصر معًا.
صدرت الطبعة المصرية من المذكرات فى العام ١٩٧٥، وكانت المفاجأة أن مذكرات محمد نجيب البيروتية كانت مختلفة عن مذكراته القاهرية تحديدًا فيما يخص ما ذكره عن مصطفى أمين وصحف أخبار اليوم.
فى طبعة المذكرات البيروتية صفحتى ١٠٥ و١٠٦ قال محمد نجيب» كانت أخبار اليوم تصور المظالم التى يتعرض لها الناس قبل ثورة ١٩٥٢ على أنها سنة الحياة وأن على النفس أن تقبل ما قسم لها به، بل نشرت تقول: إن الملك فاروق هو المحسن الأول، وإنه الطارق الذى يطرق أبواب بعض الناس فى ليلة القدر.
فى الطبعة المصرية حذف نجيب «أخبار اليوم» واكتفى بأن قال: «نشرت صحيفة».
فى الطبعة البيروتية صفحة ١٣٣ يقول نجيب إن أصحاب أخبار اليوم شاركوا فى صنع ديكتاتورية عبدالناصر بأساليب مختلفة، منها تحويل أفكار الناس عن فكرة الديمقراطية.
يقول نجيب: أذكر أن جريدة أخبار اليوم فى هذه الفترة كانت تواصل الإثارة لتحويل أنظار الجماهير عن مشكلتها الحيوية الرئيسية، فنشرت مثلًا فى ٢٢ مارس ١٩٥٤ مانشيت يقول: فتاة مصرية تتحول إلى رجل غدًا، ونشرت صورة الفتاة على ٣ أعمدة.
وعن مصطفى أمين يقول نجيب فى الصفحة ٢٠٧ من الطبعة البيروتية: كان مصطفى أمين حامل رتبة البكوية من الملك وأحد المقربين له من الصحفيين، وقد تحول بعد الثورة فجأة لمهاجمة الملك والسراى وفضح أخبارهم الشخصية جريًا وراء الإثارة وزيادة التوزيع، وكان هذا يحرف أنظار الناس عن الاهتمام بحاضرهم ومستقبلهم لمتابعة فضائح الماضى.
لست فى حاجة إلى أن أقول لك إن كل هذا الكلام شطبه محمد نجيب كله من الطبعة المصرية، فلا يمكنك أن تجد له أثرًا.
فى الطبعة البيروتية صفحة ١٤٢ تحدث نجيب عن جريدة الأخبار التى كانت تعارض عودة الديمقراطية فى العام ١٩٥٤، وقال إنه من مظاهر الإثارة المتعمدة فى ذلك الوقت ما نشرته صحيفة الأخبار من صورة كبيرة فى صفحتها الأولى لخالد محيى الدين وهو يسبقنى بخطوات عقب الخروج من جلسة ٢٥ مارس، وكأنها توحى للناس بأن الشيوعيين قادمون لتخفيهم من الديمقراطية.
فى الطبعة البيروتية اختفت جريدة «الأخبار»، ليشير نجيب إلى أن «صحيفة نشرت».

جريدة المصرى تنصر فؤاد سراج الدين على الملك فاروق
احترقت القاهرة يوم ٢ من يناير عام ١٩٥٢.
يوم ٩ يناير صدرت صحف الصباح ما عدا «المصرى» تنشر بيانًا رسميًا يحمل فؤاد سراج الدين باشا مسئولية حريق القاهرة، ويتهمه بالإهمال والتفريط، والبيان طويل وشديد اللهجة، وكان واضحًا أن الملك هو الذى أوعز بكتابة ونشر هذا البيان.
قرأ أحمد أبوالفتح البيان وتوجه إلى منزل فؤاد سراج الدين، وقابله، وسأله: هل يريد الرد على البيان؟ فاندهش لسؤاله وقال: إن الملك وراء البيان، وإنه يعيش فى جو إرهابى بعد حريق القاهرة والأحكام العرفية وحظر التجول، وإن الرقابة على «المصرى» لن تسمح أبدًا بالموافقة على نشر البيان، وإن «المصرى» إذا خالفت تعليمات الرقيب فسيهيج الملك هياجًا شديدًا، ومن المؤكد أنه سيطلب من الحكومة وقف إصدار «المصرى».
رد أحمد أبوالفتح على سراج الدين: إذا أردت أن تكتب ردًا، فالمصرى على استعداد لنشره... ثم انصرف.
يقول أحمد أبوالفتح: فى الثامنة مساء جاءنى رسول يطلب أن أذهب لأقابل فؤاد باشا فى منزله، فذهبت وكرر مخاوفه بالنسبة للمصرى وبالنسبة لى، فلما أبديت له إصرارى على نشر الرد إن كان جاهزًا قام وسلمنى ما كتبه ثم شد على يدى بحرارة الأخوة الصافية، عدت إلى الجريدة واستشرت أخى محمود فوافق على النشر.
فى تلك الليلة أعد أحمد أبوالفتح نسختين من الجريدة.
واحدة وافق الرقيب على كل صفحاتها، والثانية سرية قام بالإشراف على إعدادها محمد عطية رئيس قسم إعداد الصفحات للطباعة، وتحوى بيان فؤاد باشا الذى احتل كل الصفحة الأولى بعناوين حراقة ثم صفحات أخرى داخلية.
بدأت الطباعة بالصفحات التى وافق عليها الرقيب، وحضر إلى المطبعة ضابطا الصحافة وراجعا النسخة المطبوعة، ووقع المسئول منها على السماح بالنشر، وانصرف الضابطان، وبمجرد انصرافهما تم تركيب الصحيفة التى تحوى البيان على آلة الطباعة.
فى البيان لم يحاول فؤاد سراج الدين اللف أو الدوران أو التلميح، بل اتهم الملك شخصيًا بأنه هو الذى رفض طلباته المتكررة فى ضرورة إنهاء حفلة الغداء التى نظمها فى القصر وقت الحريق كى تساعد قوات الجيش البوليس، واتهم الملك بأنه أمر الضباط عند انصرافهم بتجنب المرور وسط العاصمة.
لم ينتبه المسئولون إلى مخالفة المصرى إلا فى الساعة التاسعة والنصف صباحًا، فلما صدرت الأوامر للبوليس بجمع الأعداد كانت النسخ قد نفدت من الأسواق.
توقع أحمد أبوالفتح أن يتم القبض عليه، ولكن مر الصباح هادئًا ومر الظهر وبعد الظهر، وفى الساعة الثامنة مساء حضر الضابط المشرف على المطابع وقابله فى حديقة المصرى.
يقول أحمد أبوالفتح: بادرنى بقوله: إيه الهباب اللى عملته؟ ولكنه كان مبتسمًا، فسألته عن رد الفعل فقال: انتظر الملك طول النهار على التليفون، ساعة يكلم ريس الحكومة على ماهر باشا، وساعة يكلم وزير الداخلية مرتضى المراغى باشا، وهو مصر على غلق المصرى، وثار ثورة عنيفة جدًا، وكنا نسمع أحيانًا على السويتش فى وزارة الداخلية حديثه مع الوزير، وإلى الآن هو يتحدث مع رئيس الوزراة والذى أعلمه أنه رفض غلق المصرى أو تعطيله لعدة شهورًا قائلًا إنها الجريدة المصرية الصميمة لا يمكن أبدًا أن يوقف صدورها أو يعطلها.
جلس أحمد أبوالفتح مع الضابط المشرف على الطباعة فى حديقة المصرى ينتظران ما ستسفر عنه الأمور، وقرابة العاشرة مساء اتصل وزير الداخلية بأبى الفتح.
قال له: يا أحمد بلاش المصرى بكره.
فرد عليه: بس بكره؟
قال: أيوه بس بكره.
عاد وزير الداخلية فى الحادية عشرة إلا ثلثًا وقال لأحمد أبوالفتح: إذا كنت تحب تطلع المصرى بكره طلعه.
فرد أحمد: خلاص بكره إجازة.
فقال الوزير: طلعه... طلعه.
علم أحمد أبوالفتح بعد ذلك أن الملك قال لعلى ماهر باشا: إزاى تسمح بشتيمتى وتهزيئى ولا تعطلش الجرنال وتلغى رخصته، وإنه ظل يتساهل فى طلبه حتى وصل إلى التعطيل أسبوعًا واحدًا، ولكن رئيس الوزراء ظل يكرر أنه لا يستطيع تعطيل صدور الجريدة المصرية.
زواج كلاب ملكية يحبس صحفيًا أربعة أيام
فى أحد أيام العام ١٩٤٨ تسلم المسئولون عن تحرير جريدة المصرى برقية من مدير مكتبهم فى بغداد الأستاذ محسن المؤمن، يقول فيها: «وصل إلى بغداد اليوم سعادة كريم ثابت المستشار الصحفى لجلالة الملك فاروق وبصحبته محمد حلمى حسين بك، واجتمع كريم باشا فور وصوله بصاحب السمو الملكى الأمير عبدالإله الوصى على العرش، وقد دلت التحريات بأن الزيارة تمهيد لمصاهرة ملكية بين الأسرتين العلوية والهاشمية».
نشرت جريد المصرى الخبر داخل إطار على ثلاثة أعمدة فى صدر الصفحة الأولى، وصدر المصرى ليعلن عن المصاهرة الملكية.
كان حسين أبوالفتح هو من يتولى رسميًا مسئولية تحرير الجريدة، أما من يتولى المسئولية الفعلية فهو شقيقه الأصغر أحمد أبوالفتح.
اتصل حسين بشقيقه أحمد تليفونيًا بعد ساعات من صدور العدد فى الأسواق، وسأله عما إذا كانت البرقية التى أرسلها الأستاذ محسن المؤمن معه، فأخبرها بأنها معه، فطلب منه أن يحضرها فى مكتب النائب العام، حاول أحمد أن يسأل حسين عما يفعله فى مكتب النائب العام محمود بك منصور، لكن حسين لم يرد على السؤال وكرر طلبه فى البرقية وأن تأتيه بسرعة.
كان أحمد أبوالفتح يعرف الصداقة القوية التى تربط أخاه بالنائب العام، فقد كان كثيرًا ما يسهران معًا، ولكن وجود حسين فى مكتب النابئب العام مبكرًا أمر ليس طبيعيًا.
أسرع أحمد أبوالفتح بالبرقية، ولما وصل وجد النائب العام بنفسه ينتظره ويطلب منه البرقية، فسلمها له، وانتظر وطال الانتظار، وحاول أن يفهم من مدير مكتب النائب العام الذى كان يعرفه منذ كان يعمل وكيل نيابة، فقال له بعد تردد إنه لا يعرف، وكانت لديه من معلومات أن قصر عابدين طلب سعادة النائب العام عدة مرات ودارت مكالمة طويلة.
بعد أكثر من ساعتين خرج حسين أبوالفتح والنائب العام الذى سمعه يقول لشقيقه: معلش يا حسين أربعة أيام فى سجن الأجانب، وسأعطى أمرًا بأن تخرج كل يوم ولا تعود للسجن إلا قبل الغروب علشان نهدى الملك، لولا البرقية لكانت العواقب وخيمة.
أمضى حسين أبوالفتح ليلته فى سجن الأجانب، وفى الصباح عندما خرج بصحبة ضابط بوليس بحجة العلاج تنفيذًا لأوامر النائب العام اتجه بالسيارة إلى مكتب محمود بك منصور، وعندما استقبله النائب العام قال له: كفاية والله أنا ما راجع السجن.
بعد تناول القوة أصدر النائب العام قرار الإفراج عن حسين أبوالفتح.
سأل حسين أبوالفتح النائب العام عن سر غضب فاروق.
أخبره أن الملك كان مصرًا على إغلاق المصرى ومنعه نهائيًا عن الصدور، واعتبر نشر الخبر تهزيئًا له لا يمكن احتماله، وذلك لأن كريم ثابت سافر إلى بغداد يحمل كلبة خاصة بالملك لتتزوج من كلب لدى الأمير عبدالإله، لأنه بحث عن زوج لكلبته النادرة الجنس فقيل له إن الأمير عبدالإله هو الذى لديه الذكر، وتصور الملك نظرًا لأن الجريدة وفدية أنكم تعمدتم السخرية وتحقيره بالقول بأنه سيتزوج عراقية، بدلًا أن تنشروا الحقيقة، أو كان يتوقع ألا يتم أى نشر، ورغم البرقية التى قرأتها له تليفونيًا أصر على غلق المصرى، فلما رفضت حاولت أن أصدر قرارًا بالتعطيل ثلاثة أشهر، وأخبرته عدة مرات أن البرقية تثبت حسن نيتكم، ولكنه لم يصدق، لذلك قررت حبسك أربعة أيام حتى تهدأ الأمور.

قصة مقال مجهول ليوسف إدريس عن توفيق الحكيم
أول لقاء مع يوسف إدريس كان فى دار الهلال ونحن نستعد لإصدار العدد الأول من مجلة التحرير فى سبتمبر ١٩٥٢، وكنت أقرأ له بعض القصص فى جريدة «المصرى» ولكن القصة التى قدمها لى كانت ذات طابع خاص، إنها قصة عبدالقادر طه شقيق النائب أحمد طه، والذى وجه له رجال الحرس الحديدى التنظيم السرى للملك فاروق رصاصات لاغتياله، لأنه عرف عنهم ما أصبح يشكل خطرًا عليهم.
القصة تحمل عنوان «خمس ساعات» وهى التى عاشها يوسف مع عبدالقادر طه وهو طبيب استقبال فى قصر العينى عندما حملوه إلى هناك بين الحياة والموت حتى أسلم الروح.
ويقول يوسف فى نهايتها، بعد أن صرح له عبدالقادر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، إنه قد ضرب فى ظهره برصاص حرس الملك، وقد حاربنا عدوًا قويًا غامضًا، حاربناه بكل شىء، بأنفسنا ونظراتنا وعرقنا، كنا نحترق بكاء وعويلًا ونحن ندفع الموت، خيل إلينا أننا سندك الجبل، ونهز السماء، ونرج الأرض ونرعش جدران قصر العينى، نحن نعمل بلا رحمة أو هوادة.
ولكن مات عبدالقادر طه، وواصل يوسف إدريس تعبيره فى قضيته قائلًا: ومددت يدى، بل نفسى كلها، وعانقته وأنا أضم جرحه إلى جرحى والرصاص الذى اخترق صدره إلى الرصاص الذى اخترق صدرى.
كانت القصة مناسبة تمامًا لمجلة «التحرير» وكانت فى ذاتها عملًا أدبيًا كتب بأسلوب جديد يظهر موهبة فنية منسوجة بروح وطنية وثورية، ومنذ ذلك التاريخ لم أبتعد لحظة عن يوسف إدريس المناضل والفنان، ولم أتخلف عن قراءة قصة من قصصه التى شق بها طريقه إلى القمة فى سرعة مذهلة.
وكنا نستعد لإصدار مجلة «الفجر» عن دار التحرير، وهى المجلة التى طبعنا منها ثلاثة أعداد للتجربة، ولكنها لم تظهر للقراء نتيجة العدوان الثلاثى على مصر فى أكتوبر ١٩٥٦.
وكان معنا يوسف إدريس الذى كتب بابًا بعنوان «وجه» عن توفيق الحكيم، قال فيه: هو أكبر ممثل فى عصرنا الحاضر، وأنا أتساءل كيف استطاع هذا، إن الممثل له دور محدد يقوم به فترة ثم يعود إلى حياته الطبيعية، أما توفيق الحكيم فقد استمر يمثل على الناس بلا انقطاع مدة تزيد على الأربعين عامًا دون أن يكشفه أحد، وهو لم يفعل هذا عن سوء قصد، المسئول هو العصر الذى ظهر فيه توفيق الحكيم، من أوائل أيامه وهو يعشق المسرح والفرق، ويبدو لى أن حلمه الدائم كان أن يعتلى خشبة المسرح، غير أنه كان ابن بك وعائلته محافظة لها تقاليد، ولم يكن لديه اندفاع يوسف وهبى ابن الباشا، فكان لابد أن يجد لموهبته فى التمثيل متنفسًا آخر، وهكذا ألف للمسرح وعاش مع فرقة عكاشة وغيرها، ولو ترك لتوفيق الحكيم الحرية لظل فى جو المسرح إلى أن تواتيه الجرأة يوما فيعتلى خشبته، ولكنه فى تلك الأثناء تخرج وأصبح وكيل نيابة، وأبعده مركزه هذا لا عن حلم التمثيل فحسب، ولكن عن التأليف للمسرح أيضًا، فالتأليف كان لا يقل خدشًا لشرف العائلة عن التمثيل.

العقاد لمذيع: أنت مُقبل على الحياة بلا مبرر
بعد اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى فى ديسمبر ١٩٤٨، قرر صديقه الكاتب الكبير عباس العقاد أن يقدم فى الإذاعة سلسلة من الأحاديث عنوانها «نفسية المجرم الإرهابى»، كان بيحلل فيها الجريمة ودوافعها، وتطرق طبعًا إلى الجريمة السياسية.
كانت هذه الأحاديث تُذاع على الهواء، وكان الحديث يتم فى مبنى «ماركونى» المواجه لمبنى الإذاعة بشارع الشريفين، وكان لا بد للعقاد بطوله الفارع أن يصعد سلمًا طويلًا رأسيًا، وأن يجلس على دكة حتى يأتى المذيع يدعوه إلى الحديث.
فى ذلك اليوم جلس الأستاذ العقاد بطربوشه الأحمر القاتم مكفهرًا غاضبًا، فقد اقترب موعد الحديث، ولكن أحدًا لم يدعه إلى التسجيل، ولم يظهر المذيع المكلف بذلك.
وجاء المذيع سعيد أبوالسعد يستقبل بحرارة شديدة زميلته تماضر توفيق العائدة من الإجازة، أهلًا يا تومى، وحشتينى يا تومى، فراغ كبير تركتيه وراءك، أهلًا يا قمر أنت يا عسل، والعقاد جالس لا يكلمه أحد، فما كان منه إلا أن نزل إلى الشارع.
التفت سعيد أبوالسعد فلم يجد الأستاذ، ولأنه لا يستطيع أن يترك الاستديو ويلحق به فى الشارع، ولا يستطيع أن يملأ فراغ الحديث فراح يذيع الأغنيات والمارشات العسكرية، وكانت كارثة.
انقلبت الإذاعة ووزارة الداخلية فوق دماغ سعيد أبوالسعد، والذى حدث هو أن الأستاذ تضايق من هذا الإهمال الذى ظنه متعمدًا وعاد إلى بيته، وطلبوا من سعيد أبوالسعد أن يعتذر للأستاذ العقاد حتى لا تعاقبه الإذاعة، وكان سعيد شابًا مرحًا دائم الضحك، وبعد أن اعتذر للأستاذ العقاد سأله: خلاص يا أستاذ صافى يا لبن؟.
ولم يرد العقاد عليه، فعاد سعيد أبوالسعد يسأله: طيب إيه رأيك يا أستاذ؟.
فرد عليه العقاد: رأيى فى إيه يا جدع أنت؟
فقال سعيد: رأيك فى شخصى المتواضع؟
فأجاب العقاد بعبارة قاتلة، قال له: رأيى فيك أنك إنسان مُقبل على الحياة بلا مبرر.

كيف تحول كامل الشناوى إلى محرر صحفى؟
كان صيت كامل قد بدأ رغم حداثة سنه ينتشر فى كل الأوساط، ودخل الشاب السمين الأسمر الذى يحفظ الشعر ويقرضه، ويقول النكتة ويجيد حبك المقالب ويقلد الأصوات والحركات، دخل القصور وجالَس الوزراء ورؤساء الوزراء، وأصبح صديقًا لصاحب القبضة الحديدية رئيس الوزراء محمد محمود.
ولكن- وهنا العجب أيضًا- نرى الشاعر كامل الشناوى الذى أصبح صديقًا لمحمد محمود، لا يمدح بشعره هذا الحاكم بأمره، إن القصيدة الوحيدة التى قالها فى مدح زعيم، كانت فى مدح مصطفى النحاس، بالرغم من أنه لم يكن صديقًا له «وكل ما هناك أنه يستحق شعرى».
لماذا؟
لأن النحاس كان ممثل الشعب بحق فى ذلك الوقت، كان أعظم الزعماء، وإذا كانت الصداقة لرئيس الوزراء، فالشعر يجب أن يكون للزعيم.
ويسأله المرحوم تقلا باشا عما إذا كان له أصدقاء من بين الوزراء فيجيبه كامل الشناوى ببساطة: «إننى أسهر كل ليلة مع محمد محمود».
ويخبط تقلا باشا كفًا بكف، فأمامه صحفى عبيط يصادق رئيس الوزراء.. ثم يكتب فى جريدته شعرًا، ويصرخ تقلا باشا فى وجه الصحفى الغشيم:
- حاول أن تحصل على كل الأخبار من محمد محمود. ويجيب كامل بنفس البساطة:
- سأحاول.
ويخرج من مكتب تقلا باشا إلى سراى محمد محمود.
وفى مجالس الوزراء والزعماء لا يكون الحديث نكتًا فقط ولا دردشة فقط، بل إن الذين يصنعون الأخبار، يضطرون حتى فى حياتهم العادية إلى الدردشة فى الأسرار والأخبار والأنباء، وهو الكنز الذى يبحث عنه كامل الشناوى الشاعر الذى قرر أن يكون صحفيًا، ومن خلال الدردشة والحديث يلتقط كامل الشناوى خبرًا مهمًا، أن أمين عثمان سيسافر إلى القدس ليجتمع بأحد المسئولين الإنجليز، وأن مفاوضات على مستوى عالٍ ستدور هناك، بعيدًا عن أعين الصحفيين ورقابة الشعب.
ويسرع كامل الشناوى إلى الجريدة ومعه الخبر، ويعيد تقلا باشا صياغة الخبر وينشره منسوبًا إلى مراسل الأهرام فى القدس، ويحدث الخبر هزة فى كل الأوساط ويتلقى كامل التهنئة، ويقبض مكافأة ضخمة، أكدت عزمه الذى كان قد استقر على أن يتحول بكل طاقاته إلى احتراف مهنة المتاعب والقلق.. الصحافة.
ويدرك محمد محمود بذكائه أن كامل الشناوى المحرر بالأهرام، وصديقه وجليسه هو مصدر الخبر، ولكنه «يبلعها» ويسكت لجولة مقبلة، ليلقن كامل الشناوى درسًا لا ينساه.. وذات مساء، وفى سراى محمد محمود وكامل الشناوى جالس ينصت فى اهتمام، يعلن رئيس الوزراء خبرًا، هو فى ذاته سبق صحفى عالمى، أن جوبلز وزير الدعاية فى حكومة هتلر قد وصل إلى مصر سرًا، ونزل بفندق سميراميس، وأنه التقى محمد محمود فى ظلام الليل، ودارت بينهما أحاديث خطيرة. ويستأذن كامل الشناوى من رئيس الوزراء ويخرج مسرعًا إلى الأهرام.. إلى مكتب تقلا باشا.
ويرتاب رئيس التحرير المدرب فى الخبر، فيرفع سماعة التليفون ليتصل بفندق سميراميس، ثم بجميع الفنادق التى يحتمل أن يأوى إليها وزير خارجية ألمانيا، واتصل بالمطار وبرجال البوليس، وبكل مكان له علاقة بوصول جوبلز. ولكن الجميع يؤكدون أن الخبر كاذب. ويضطر تقلا باشا فى الفجر إلى الاتصال بمحمد محمود، وما إن يسمع رئيس الوزراء صوت تقلا باشا حتى ينفجر ضاحكًا، وينهى المحادثة بكلمة لا تزال ترن فى أذن كامل: «عشان كامل يتعلم»!.
وفعلًا، تعلم كامل الشناوى من يومها أن يكون حذرًا، ولعل الحذر أصبح أبرز صفاته.. بعد الظرف.

الفصل المحذوف من كتاب «النكتة السياسية»
كان الكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة قد انتهى من تجهيز كتابه «النكتة السياسية.. كيف يسخر المصريون من حكامهم؟»، ودفع به إلى مطابع الأهرام التجارية، لكن ما أن وصلت بروفاته إلى مكتب إبراهيم نافع حتى منعت طباعته، وأرسل صورة مما كتب إلى رئاسة الجمهورية.
فوجئ عادل حمودة بالدكتور مصطفى الفقى، وكان فى هذا الوقت سكرتير الرئيس للمعلومات، يتصل به ويقول له: إن الرئيس يرجوك أن تؤجل الفصل المكتوب عنه لبعض الوقت، فهو يتعرض لسخرية جارحة من القوى العربية الرافضة لتدخل مصر فى حرب تحرير الكويت، لا تتخيل حجم الكاريكاتيرات المؤلمة التى ينشرونها عنه، لو رأيتها سيصعب عليك.
حاول عادل التخفيف مما كتب، شطب بعض النكات التى قيلت عنه، لكنه شعر بأن بنيان الفصل لم يعد متماسكًا، ففضل إلغاءه، لكنه ترك النكات التى قارنت بينه وبين جمال عبدالناصر والسادات فى فصول أخرى، فلم يفقد الكتاب قوامه، ولم ينتبه أحد إلى ذلك.
سمعت من الكاتب الكبير عادل حمودة كواليس هذه الحكاية، قال لى إن عمال مطابع الأهرام هم الذين اكتشفوا فصل التنكيت على مبارك، وهم من أبلغوا به الجهات المعنية، ولأن إبراهيم نافع كان على الخط الساخن دائمًا مع مؤسسة الرئاسة فقد وصلها الخبر على الفور.
استسلم عادل حمودة نزولًا على مواءمة سياسية وحذف الفصل الخاص بمبارك، لكن حدث ما لم يلتفت له أحد، ففى الطبعة الأولى من الكتاب التى صدرت فى ديسمبر ١٩٩٠ حتى الطبعة الخامسة، كان عادل قد ترك محتويات الكتاب وبها مضمون ما جاء فى الفصل المحذوف.
كان الفصل عنوانه «أنا اسمى حسنى مبارك» وكانت محتوياته: دور نائب الرئيس- المسرح بدلًا من النكتة والجريدة المعارضة خبز الفقراء- إشارة لليسار وحركة لليمين- مقارنة بين آخر ثلاثة حكام مصريين بالنكتة- الكاريكاتير يزدهر- نكتة الرصيف تتراجع- الصعيدى الذى دخل السجن ليقدم نقوده للريان- آخر قلم أخذه زكى بدر- نهاية مفتوحة للكتاب يشارك فيها القراء.
بداية من الطبعة السادسة للكتاب اختفى هذا الجزء من المحتويات ولم يعد له أثر، وللأسف الشديد فإن نص هذا الفصل لم يعد موجودًا الآن فى حوزة عادل حمودة أو فى أى مكان آخر، فلو كان لديه لنشره على الأقل بعد خلع مبارك، وإن كان هو نفسه أقر بأنه لا يمكن مقارنة النكت التى قيلت عن مبارك وقت نشر الكتاب نحو عشرين عامًا، بالنكت التى قيلت عنه فيما بعد.

خروج التابعى من «روزاليوسف» إلى «آخر ساعة»
يعرف كثيرون أن محمد التابعى كان كلمة السر فى نجاح مجلة «روزاليوسف» وتألقها منذ دخوله إليها فى العام ١٩٢٥، وأنه بعد سنوات أصبح أكبر من أن يبقى فيها، ولابد له أن يستقل بمشروعه، فهو من يقوم بكل شىء فى المجلة، والست فاطمة اليوسف تجنى المجد والأرباح.
وقالوا إن فاطمة ضاقت بما يقال، فبدأت العلاقة القوية والمستقرة بينهما تهتز بشدة، أصبحت الخلافات هى اللغة المشتركة بينهما.
عرف مكرم عبيد باشا بما يحدث فى دار «روزاليوسف»، ولأنه كان صديقًا للاثنين فاطمة والتابعى، حاول التدخل، استدعى فاطمة إلى مكتبه، اقترح عليها حلًا للخلاف وضمانًا لعدم خروج التابعى أن يصبح شريكًا لها فى نصف ملكية المجلة.
لم تتوقع فاطمة أن يقول لها مكرم عبيد ما قاله، استنكرته بشدة.
قالت له: أنت تعرف يا باشا كم أحبك وأقدرك.. لكن اسمح لى اسم المجلة شىء خاص بى وأحب أن أحتفظ به لابنى، فهو الذى يستطيع أن يحافظ عليها.
لكن لا يتخيل أحد سبب خروج التابعى من روزاليوسف فى العام ١٩٣٤ ليؤسس مجلة «آخر ساعة»
يقول: أنا كنت مسافر إسكندرية، وكان مصطفى أمين يسافر إلى الإسكندرية يومًا واحدًا كل أسبوع ليكتب باب «الإسكندرية فى أسبوع»، وكان بابًا رائعًا يضمن للمجلة توزيعًا كبيرًا فى الإسكندرية ننشر فيه الأخبار السياسية وأخبار الطبقة الراقية وأخبار سباق الخيل، وكانت روز تمنحه جنيهًا واحدًا ينفق منه على السفر والإقامة غير المصروفات النثرية.
روز كانت تريد أن توفر، رفضت أن تعطى مصطفى الجنيه، قالت له: إما أن تسافر أنت أو يسافر التابعى ولكن لا تسافرا معًا، كانت ترى أن سفرنا فيه إهدار لأموال مجلتها.
رد مصطفى على روز بغضب، قال لها: أنا قررت أسافر سواء أردت أو لم تريدى.
الرد كان صادمًا، فعاجلته روز: أنا آمرك بعدم السفر... واعتذر عن أسلوبك الهمجى... كيف تتحدث معى بهذه الطريقة يا ولد.
واصل مصطفى عناده، قال لها: أنا لست ولدًا يا ست... أنا اسمى مصطفى أمين.
قررت روز أن تنهى النقاش، قالت له: أنت أخدت منى جنيهًا لتسافر... هات الجنيه.
قطع عليها مصطفى الطريق، وبعصبيته المعروفة عنه أخرج الجنيه من جيبه وألقاه على المكتب، وبدلًا من أن تستوعبه روز صرخت فى وجهه: اخرج بره... أنت مفصول.
وقعت كلمة مفصول على مصطفى أمين مثل الصاعقة، لمح التابعى فى عينيه دموعًا قرر أن يحبسها لكنها غلبته، فصرخ فى وجه روز: لو خرج مصطفى من المجلة، سأخرج معه.
صرخت روز فى وجه التابعى: فى ستين داهية إنت وهو.
خرج التابعى من مكتب روز، سأله مصطفى: إلى أين يا أستاذ؟
فرد عليه: نتناول الغداء وبعدها نبحث عن مجلة نستأجرها أو نشتريها.
استوقفه مصطفى: ليه... وأى مجلة؟
نهره التابعى: مجلة أصدرها باسمى.
لم يستوعب مصطفى المفاجأة، حاول أن يخفف الموقف، قال للتابعى: لا يا أستاذ أنا لا أحب أن أكون السبب فى غضبك من روز وأعرف أنكما قريبًا ستتصالحان.
سخر التابعى من سذاجة منطق مصطفى، قال له: ومن قال لك إننى غاضب منها حتى نتصالح... روز مرحلة فى حياتى وكان لابد أن تنتهى... ولم يكن لها أن تنتهى إلا بهذه الطريقة.

صلاح حافظ يرفض رئاسة تحرير الأهالى
لعلك لا تعرف أننى صاحب اسم «الأهالى»، وأذكر أننا فى إحدى جلسات التحضير للجريدة، وكان موجودًا خالد محيى الدين والكاتب الصديق محمد عودة، وكنا نريد اسمًا سهلًا نطلقه على الجريدة، واستبعدنا أسماءً ضخمة مثل المقاتل والمجاهد والراية والبصير، وفجأة قلت: ليكن اسم الجريدة «الأهالى» وبعد أن استقر الأمر على هذا الاسم قال لنا محمد عودة: ده زمان كان هناك صحيفة بهذا الاسم فعلًا.
وكان الاتفاق فعلًا أن أتولى رئاسة تحرير الأهالى، ولكن شيئين جعلانى لم أواصل هذه المهمة، الشىء الأول أننى كنت مشغولًا جدًا، فلم أذهب بشكل منتظم لمتابعة عملية الإعداد للجريدة، والشىء الثانى أن ظروف نشأة حزب التجمع والخلافات التى حدثت أثناء تشكيل قيادته كانت من ضمن الأسباب التى جعلتنى لا أقبل هذه المسئولية، كما أنه دخل فى تشكيلات الحزب خلافات سابقة بين تيارات وطنية كثيرة، جعلت المسألة بالنسبة لى فيها غموض، وأنا لا أفهم فى الغموض أو ألعاب الكواليس، وكان تصورى أن المطلوب هو إنشاء صحيفة ناجحة، تخدم هدفًا متفقًا عليه، ولا تغرق فى الدهاليز والكواليس.
وعندما أخذ الوفد يفكر فى إصدار جريدته أخذ يفكر فى عدة أسماء لرئاسة التحرير، وطرح مصطفى أمين اسمى على قيادة الوفد لرئاسة التحرير، ثم كلمنى الأستاذ مصطفى أمين، وأبلغنى أنه رشحنى لرئاسة التحرير، وطلب معرفة رأيى فى هذا الموضوع، وقلت له: إن الحزب بالنسبة لى مجهول الهوية، ولم يقل شيئًا بعد، وعندما أقبل رئاسة تحرير جريدة حزبية فهذا معناه أننى أعبر عن سياسة هذا الحزب، فكيف يمكن ذلك وأنا لا أعرف سياسة الحزب، فكيف أقبل أو أرفض هذا المنصب.
وقال: عندما أكتب مقالًا لينشر فى صحيفة أى حزب فهو فى النهاية يكون بتوقيعى ويحمل وجهة نظرى فيما أكتبه، وقد يكون ضد سياسة جريدة الحزب.

طه حسين رئيس تحرير مع إيقاف التنفيذ
ما لا يعرفه كثيرون أن الدكتور طه حسين تولى رئاسة تحرير جريدة الجمهورية لمدة عام.
جرى هذا فى بداية الستينات، وقتها كان صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة يرأس مجلس إدارتها، وفكر فى أن يكون للجريدة أكثر من رئيس تحرير على الطريقة التى ابتكرتها جريدة الأخبار.
كان طه حسين واحدًا من رؤساء تحرير الجمهورية إلى جوار كامل الشناوى وناصر الدين النشاشيبى وإبراهيم نوار.
فى العام ١٩٦٠ تم تعيين الكاتب الصحفى الكبير موسى صبرى رئيسًا تنفيذيًا للتحرير، وبدأ فى مباشرة عمله الذى لم يكن يرجع فيه كثيرًا إلى رؤساء التحرير.
ذات صباح– كما يقول موسى صبرى– اتصل به صلاح سالم تليفونيًا، وقال له: الدكتور طه حسين يتحدث معى وهو متألم، وقال إنه لا يقبل مرتبًا بغير عمل، وقد اتفقت معه، على أن تتصل به تليفونيًا كل مساء، لكى تعرض عليه مانشيتات الصحيفة وأهم الأخبار، وأرجو أن تفهم أن هذا مجرد إجراء شكلى لإرضاء الرجل.
بدأ موسى صبرى يتصل بطه حسين بالفعل كل مساء فى منزله، وكان وقتها يعانى من اعتلال فى صحته، ويمضى معظم وقته فى بيته، يقرأ سكرتيره الكتب التى يريدها، وأهم المقالات فى الصحف، ويستقبل عددًا محدودًا من زائريه، وكانت زوجته حريصة على ألا يرهق نفسه.
كان طه حسين معجبًا بما يكتبه موسى صبرى، ويسجل هو ذلك فى مذكراته «٥٠ عامًا فى قطار الصحافة» التى صدرت فى العام ١٩٩٢.
يقول: كنت أكتب «اليوميات» فى الصفحة الأخيرة مرة كل أسبوع، ومرة قال لى طه حسين فى التليفون: لقد أمتعتنى يومياتك، لقد عادت بذاكرتى إلى يوم أن ولدت ابنتى، كأنك كنت تعبر عن مشاعرى فى ذلك اليوم، وأنت تكتب عن مشاعرك عن مولد ابنك.
وأضاف طه حسين لموسى: إنك صاحب أسلوب شائق، وأحب أن أقرأ لك، ولعلك الوحيد الذى أقرأ له فى «الجمهورية» غير كامل الشناوى.
حالة الود هذه لم تستمر طويلًا، فقد حدث ما عكر صفوها.
كان موسى صبرى يتحدث إلى طه حسين ويقرأ له المانشيتات، واستمر ذلك قرابة شهر، يوثق موسى ما جرى على النحو التالى.
سألنى: ما هو المانشيت الذى اخترته؟
قلت: المانشيت الأحمر هو «ديجول فى أزمة».
قال: أحسب أن المانشيت غير دقيق، لأن ما رويته لى من الأخبار لا يرتقى إلى مستوى الأزمة، والأصح أن يكون المانشيت «ديجول فى حرج».
قلت: لو أذنت لى يا باشا فى ملاحظة، إن كلمة حرج صعبة القراءة فى العنوان الصحفى الكبير.
قال: شكلها.
قلت: المانشيتات تكتب بغير تشكيل.
قال: لا أرى صعوبة فى قراءتها.
قلت: حاضر.
استشار موسى صبرى كامل الشناوى فيما قاله طه حسين، فقال له: ابق المانشيت كما هو، وأنا سأسوى الأمر مع طه باشا بعد ذلك، إنه رجل سلس وسوف يقدر أن العبارة الصحفية غير العبارة الأدبية.
ظهرت الجمهورية بمانشيت «ديجول فى أزمة»، وغضب طه حسين، وأبلغ صلاح سالم أنه لا يريد أن يستمر فى الإشراف على المانشيتات والأخبار العامة، وهدد بالاستقالة، لكن صلاح سالم استوعب الموقف ومر بسلام.

أسماء أنيس منصور النسائية
لم تكن الصحافة ضمن شريط مستقبل أنيس منصور، ولم يخطر بباله يومًا أن يكون صحفيًا، ولكن الصحفى كان مطمورًا فى أعماق أنيس، إن محاولاته كانت تهدف إلى البحث عن جريدة تقبل أن تنشر له قصصه التى كان يكتبها، وبدأ نشر هذه القصص فى الصفحة الأدبية بجريدة الأساس، وكان هذا فى عام ١٩٤٧، سنة تخرجه من الجامعة، ولم يكن يفكر فى أن يحصل على أجر أو مكافأة، ولكن بعض زملائه شجعوه أن يطالب بأجر هذه القصص، قالوا له إن الأساس تدفع خمس جنيهات عن كل قصة، وكان قد نشر ست قصص، ومن ثم أصبح مستحقًا لثلاثين جنيهًا، وذهب إلى رئيس التحرير فعرض عليه أن يصبح محررًا للصفحة الأدبية على أن تدفع له الجريدة ٢٥ حنيها فى الشهر، وقبل أنيس منصور العرض، كان يشترك معه فى تحرير الصفحة زملاء كثيرون، ووجدهم يتركون العمل فى الأساس.
وبعدها أصبح هو المحرر الأدبى للجريدة دون أن يظهر اسمه، وحتى عندما انتقل إلى العمل فى روزاليوسف كان قد اختار لنفسه اسمًا مستعارًا هو سلفانا ماريللى، وتحت هذا التوقيع نشر كثيرًا من الموضوعات حتى أصبح مشهورًا عند القراء وعند الصحفيين.
أكثر من هذا ففى عدد واحد من روزاليوسف ظهرت إمضاءات عديدة مثل أحلام شريف، وشريف شريف، ومنى جعفر، ولم تكن هذه التوقيعات إلا أسماء استعارها أنيس منصور، وحتى لا تقف عقبة تكرار الاسم فى العدد الواحد حائلًا دون نشر موضوعاته.
وعندما انتقل إلى العمل فى أخبار اليوم، خشى أن يترك اسم «سلفانا ماريللى» على روزاليوسف، وإنه لهذا السبب نشر خبرًا قال فيه «إن سلفانا ماتت فى حادث سيارة، ولكنه لم يفعل هذا مع أحلام شريف التى كانت تظهر أحيانًا على صفحات الملحق الأدبى لجريدة الأخبار».
وفى جريدة الأهرام ظل أنيس منصور يكتب القصة القصيرة التى كانت تنشرها فى صفحتها الأخيرة، وبلغ عددها ٥٠٠ قصة، نشرت كلها بدون إمضاء، ولعله غريب وعجيب أن يكون أنيس هو محرر الصفحة النسائية التى كانت تنشرها الأهرام فيما بين عامى ١٩٥٠ و١٩٥٢، وأنه رغم جهله بالموضة فى تطوراتها فى ذلك الوقت، وأسماء الفساتين والأزياء، وكان يقصى أيامًا يتردد فيها على بيوت الأزياء، ويستعين بعدد من مصممى الأزياء لترجمة مصطلحات الموضة، وقد نجحت هذه الصفحة فى كسب ثقة عدد كبير من القارئات، وكسبت الأهرام أرقامًا جديدة فى توزيعها.

«الأهرام» تعزل وزير العدل من منصبه بكاريكاتير صلاح جاهين
كان الدكتور مصطفى أبوزيد فهمى قد عين فى وظيفة مبتكرة هى «المدعى العام الاشتراكى» وفى أحد التعديلات الوزارية عُين وزيرًا للعدل مع بقائه فى منصب المدعى الاشتراكى.
أدلى مصطفى أبوزيد فهمى بحديث لإحدى الصحف، رأى الفنان الكبير صلاح جاهين أن يتخذ منه مادة لكاريكاتيره اليومى الذى ينشره فى «الأهرام»، وهو الكاريكاتير الذى يقول أحمد بهاء الدين إنه كان يشاوره فيه بالتليفون صباح كل يوم، وأنه وافقه على الفكرة ورسم الدكتور مصطفى أبوزيد فى صورة كاريكاتيرية.
ظهر الكاريكاتير وأحدث ضجة هائلة، وفى اليوم التالى دخل صلاح جاهين منزعجًا على أحمد بهاء الدين فى مكتبه، وقال له إنه تلقى استدعاءً بالتليفون بالذهاب غدًا إلى مقر المدعى الاشتراكى للتحقيق معه فى الواقعة المنسوبة إليه.
طلب بهاء من جاهين ألا يذهب فى الموعد المحدد له، وإذا أراد أن يذهب فليس عليه إلا أن يقول لمن يسأله أكثر من أنه استخدم حقه فى التعبير عن الرأى، وأنه عرض الرسم على رئيس التحرير المسئول، وأنه يطعن فى حق المدعى الاشتراكى ومكتبه فى التحقيق معه، ويطلب السماح له باستدعاء محام ومندوب من النقابة ورئيس التحرير المسئول. فى اليوم الذى كان مفروضًا أن يذهب فيه صلاح جاهين إلى المدعى الاشتراكى، ظهرت «الأهرام» وفى صفحتها الأولى برواز كبير على عمودين يروى الخبر ببنط كبير بطريقة تنطوى على التشهير والتحدى والإعلان عن دخول معركة إذا اقتضى الأمر ولم يكن ذلك مألوفًا وقتها.
أحدث النشر بهذه الطريقة ضجة كبرى جعلت الذين ذهب إليهم صلاح جاهين لا يفتحون معه أى تحقيق فى انتظار تعليمات جديدة وعاد صلاح جاهين بلا تحقيق ولحق به رد طويل وعنيف من الدكتور مصطفى أبوزيد فهمى للنشر.
نشرت «الأهرام» رد الدكتور أبوزيد فهمى كاملًا وكتبت ردًا طويلًا عليه، وأعادت نشر الصورة الكاريكاتيرية فى وسط الموضوع بحجة أنها تقليد صحفى ليراها من لم يكن قد رآها.
رد أبوزيد على الرد.
التقط أحمد بهاء الدين الخيط، وكتب ردًا.
رد أبوزيد فهمى على بهاء، فرد عليه، ووصلت الأهرام بالحملة إلى أن طالبت بإحالة الموضوع إلى لجنة الشئون التشريعية فى مجلس الشعب للبت فيه.
توقفت «الأهرام» عن متابعة القضية فى انتظار ما ستفعله اللجنة التشريعية.
المفاجأة أن الرئيس السادات اتصل بأحمد بهاء الدين وقال له: إيه الحكاية مع مصطفى أبوزيد؟... انتوا مش تسيبوا الراجل بقى؟ ولا أنت عايز الناس تقول إن الأهرام رجع يشيل وزراء ويحط وزراء؟
رد بهاء: اسمح لى يا ريس... المقارنة اللى فى بالك لا أساس لها إطلاقًا، وهو الذى تجنى علينا وليس العكس، ومنذ أحيل الأمر إلى اللجنة التشريعية توقفت «الأهرام» عن نشر أى شىء عنه حتى لا يساء تأويله، وأنا يا ريس واثق من قرار اللجنة مهما كانت الظروف.
قال السادت: الظاهر كده كما قيل لى... لكننى زعلان على مصطفى أبوزيد.
رد بهاء: مشكلته يا ريس إنه يسرف فى الرد وفى عنف الجدل والخصومة.
أنهى السادات كلامه: هو مندفع شوية، لكن تعرف إنه عاجبنى بسبب الحكاية دى، هو كما تقول فعلًا لا يترك شيئًا إلا ويرد عليه، هو صحيح بيزودها أحيانًا لكن مش أحسن من الوزراء التانيين اللى عاملين صم وبكم، لا يردوا ولا يصدوا، وهم فى الحقيقة يتركونى أرد عنهم جميعًا. بعد أيام انتهت اللجنة التشريعية إلى قرار بابقاء مصطفى أبوزيد فهمى مدعيًا اشتراكيًا وتعيين وزير آخر لوزارة العدل.

مصطفى محمود يتفرغ للصحافة مقابل 100 جنيه
فى العام ١٩٥٣ تخرج الدكتور مصطفى محمود فى كلية الطب، وعين طبيبًا فى مستشفى الصدر بالعباسية، وظل يعمل به حتى عام ١٩٦٠، ووصل أيامها إلى منصب حكيمباشى مستشفى الأمراض الصدرية بالعباسية.
وفى نفس العام ١٩٦٠ أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارًا جمهوريًا بعدم الجمع بين وظيفتين.
سأل مصطفى محمود صديقه الكاتب الصحفى لويس جريس: إيه رأيك يا صديقى أستمر فى عملى حكيمباشى الأمراض الصدرية أم أستقيل من مستشفى الأمراض الصدرية بالعباسية وأكتفى بالكتابة فى روزاليوسف.
كان ذلك فى شهر مايو ١٩٦٠، وكان الرئيس جمال عبدالناصر قد أصدر قرارًا بتنظيم الصحافة، ولكن القرار أبقى على أصحاب الصحف التى كانت تصدر فى ذلك الوقت كرؤساء مجالس الإدارة لكل مؤسسة صحفية.
ظل إحسان عبدالقدوس صاحب روزاليوسف رئيسًا لمجلس الإدارة، وعين صديقه يوسف السباعى عضوًا منتدبًا بالمؤسسة.
كان جمال عبدالناصر يعرف إحسان عبدالقدوس معرفة جيدة، لذلك عين صديقه يوسف السباعى عضوًا منتدبًا من قبل قيادة الثورة.
أجبت الصديق مصطفى محمود: أنت تحب الكتابة وأصبحت من المعروفين ككاتب قصة وروائى، وليس كطبيب أمراض صدرية، ثم إن كلية الطب سوف تستمر فى تخريج أطباء للأمراض الصدرية، ما أريد أن أقوله لك إن الأمراض الصدرية ستجد أعدادًا كثيرة من الأطباء الذين يعالجونها، أما القصة والأدب فستخسر كثيرًا إذا تركها مصطفى محمود، أنت فى روزاليوسف مرتبط بالقراء، والقراء يتجاوبون معك فلا تتركهم.
قام مصطفى محمود وصحبنى معه إلى مكتب إحسان عبدالقدوس، وبعد أن ألقى التحية والابتسامة والضحكة الشهيرة، التى كانت تصدر عنه عند لقائه بأحبائه، على نرمين القويسنى والزميلة العزيزة مديحة عوزت، والتى كانت تجلس فى مكتب سكرتارية إحسان عبدالقدوس، دخلنا إلى إحسان.
قال مصطفى محمود: شوف يا إحسان أنت دلوقتى رئيس مجلس إدارة روزاليوسف والرئيس أصدر قرارًا بعدم الجمع بين وظيفتين، أنا أتقاضى أربعين جنيهًا من عملى فى مستشفى الصدر بالعباسية، وأتقاضى ستين جنيهًا نظير المقالات وباب «اعترفوا لى» فإيه رأيك تدينى مائة جنيه فى الشهر وأنا أستقيل من مستشفى العباسية.
وقد كان.. قدم مصطفى محمود استقالته من مستشفى العباسية وتفرغ لصباح الخير وروزاليوسف نظير ١٠٠ جنيه شهريًا، وكان ذلك فى عام ١٩٦٠.







