الإثنين 11 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

نهاية مستنقع العبث.. رسالة إلى المعترضين على محاسبة أباطرة «التيك توك»

حرف

- على هؤلاء أن يصمتوا فما يقولونه يزيد مساحة الفوضى ويعمق هوة الانفلات

- ما قام به نجوم التيك توك مخالف لمعايير أى مجتمع محترم ولذلك يربحون الملايين

فى ١٨ سبتمبر ٢٠٢٤ قمت هنا على صفحات «حرف» بما أسميته «زيارة ودية إلى منصة مخيفة». 

كانت المنصة هى «تيك توك». 

وكانت ودية لأننى كنت أستكشف فيها هذا العالم، الذى أصبح يشكل وعى أجيال عديدة ومختلفة ومتباينة. 

وكانت المنصة مخيفة بعد ما رأيته عليها. 

ولا أخفيكم سرًا أننى كنت أتوقع أن يأتى اليوم الذى تعود فيه الأمور إلى نصابها الصحيح، فما رأيته كان خارجًا عن أى منطق، ولم يكن له أى مبرر. 

كنت أستخدم المنصة مثلى مثل آخرين، لكنى كنت أحدد ما الذى أشاهده من خلالها، ولا بد أن أعترف بأننى وجدت فيها محتوى جيدًا على المستويين السياسى والاجتماعى، كما وجدت فيها منصة تستغلها جهات عديدة لتمرير ما تريده من أفكار، وما ترغب فى زراعته من قيم، وما تسعى إلى تشكيله من وعى. 

أم ساجدة 

ما جعلنى أنتبه لتوحش هذه المنصة وخطرها، أننى عندما كنت أشاهد بعض الفيديوهات وكان إلى جوارى صديق، وفجأة سألنى: إنت التيك توك بتاعك ده غريب كده ليه؟ 

ولما سألته عما يقصده، قال لى إن هناك فيديوهات كثيرة غير التى تشاهدها، يقدمها نجوم أصبحوا أصحاب ملايين فى فترات قصيرة جدًا، ولما دلنى عليهم، بدأت أبحث عنهم، وكانت المفاجأة المذهلة بالنسبة لىّ، فنحن أمام مهزلة بكل المقاييس. 

وجدت أمامى عشوائيين يقدمون محتوى عشوائيًا بشكل كامل، بحثت عنهم فوجدتهم أشخاصًا عاديين، لعبت الصدفة فى حياتهم لعبة الحظ، فتحولوا من أصحاب حرف مشردين إلى مؤثرين، يقولون أى شىء، ويفعلون أى شىء، فقط من أجل أن يحصدوا الأرباح التى كانت مليونية، ووجدت لهم جمهورًا طويلًا عريضًا يتابعهم، ويكرر كلامهم، ويطعم كلامه بإفيهاتهم. لا يترددون عن استخدام الألفاظ المتدنية الفاحشة، ولا يتورعون عن الإتيان بالأفعال الفاضحة.. والغريب أن نجوميتهم كانت تزداد يومًا بعد اليوم. 

أم مكة

وتصادف أن شاهدت أحد البرامج على قناة فضائية من قنوات الدرجة الثالثة، كان يستضيف عددًا من نجوم التيك توك، وسمعتهم لأول مرة يتحدثون، وكانت الصدمة التى أوقفتنى عن متابعة ما يقولون أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة. 

أخذت اثنين من نجوم التيك توك كما يقولون كدراسة حالة، وهما «لوشا» و«أم ساجدة». 

وفى نهاية ما كتبت قلت: البعض يرى أن «أم ساجدة» ليست إلا موضة ستأخذ وقتها على التيك توك وترحل إلى عالم النسيان، كما أن «لوشا» نفسه ليس أكثر من تقليعة يتابعها الناس لبعض الوقت، وبعد أن يملوا منه، سيزهدون فيه ويبحثون عن تيك توكر آخر يتابعون فيديوهاته، وقد يكون هذا صحيًا إلى حد ما، لكن ما لا يعرفه من يقولون ذلك أن «لوشا» ليس شخصًا فقط، وأن «أم ساجدة» ليست مجرد سيدة جربت حظها فأنعم الله عليها بما لا تتوقعه من شهرة ومال. 

كل منهما أصبح فكرة وصيغة يمكن أن يتكررا. 

فإذا تبخر «لوشا» فسوف يخرج مثله ألف لوشا. 

وإذا انتهت «أم ساجدة» فستكون هناك ألف أم ساجدة. 

سوزي الأردنية

وسيتكرر مع الزائرين الجدد نفس ما حدث مع لوشا وأم ساجدة، فيديوهات فارغة بلا مضمون ولا محتوى ولا رسالة تحقق مشاهدات بالملايين، وملايين الجنيهات التى تحول حياتهم وأحوالهم إلى ما لا يتصوره أحد. 

وطرحت وقتها سؤالًا هو: أين العيب.. أين مكمن الخلل.. أين العطب.. لماذا نعانى كل هذا العبث؟ 

فما نراه ونشاهده بلا قواعد ولا أصول ولا معايير. 

هل العيب فى «لوشا» و«أم ساجدة» عندما ينتجان هذه الفيديوهات التى لا يتوافر فيها أو لها أى معنى أو قيمة؟ 

أم أن العيب فى المجتمع الذى يُقبل على هذه الفيديوهات ويمنحها مشاهدات بالملايين تتم ترجمتها إلى ثروات هائلة؟ 

هل العيب فى «لوشا» ابن السيدة زينب الذى لا يعرف أحد له مؤهلًا ولا ثقافة ولا تأهيلًا لإنتاج المحتوى؟ 

أم فيمن يبحثون عنه ويشاهدون ما يقدمه وهم منبهرون به ويروجون له ويرسلون لبعضهم بعضًا بالجديد الذى ينتجه؟ 

هل العيب فى «أم ساجدة» التى كل ما فيها مزعج شكلًا وصورة وصوتًا وأداء للدرجة التى تتعجب كيف يمكن أن يتحملها أحد وهى لا تكف عن الصراخ فى كل من يحيطون بها؟ 

أم أن العيب فيمن يعتبرونها قائدة رأى، ويتسمرون أمام فيديوهاتها وفى ساعات قليلة تحصد ملايين المشاهدات، فى حالة تحتاج إلى تحليل نفسى قبل أن ندخل إليها من مدخل اجتماعى؟ 

هناك من يعارض هذه الفيديوهات. 

وهنا من يعترض على المحتوى المقدم. 

وهناك من ينتقد الحالة كلها على بعضها دون أن يترك فيها شيئًا قائمًا على قدميه، فكل ما فى هذه الظاهرة عبثى إلى المنتهى. 

شاكر محظور

لكن تخيلوا أن أمثال «لوشا» و«أم ساجدة» يقابلان هذه الانتقادات باتهام من يرددون هذا الكلام بالحقد والحسد والاعتراض على حكمة ربنا، التى اقتضت أن يتحولا هما وأمثالهما إلى نجوم.. شهرة وأموال وتأثيرًا. 

يمكننا أن نستسلم بسهولة إلى أن ما يحدث ليس إلا ترجمة لحالة السيولة المجتمعية التى تعيشها مصر منذ أحداث ٢٠١١، فكل شىء متاح ومباح ومستباح، لا توجد قواعد ولا معايير ولا قيم، كل مواطن يمكنه أن يفعل ما يريد دون أن يسأله أحد ودون أن يعارضه أو يعترض عليه أحد. 

ورغم أن هذا التفسير صحيح ودقيق فى آن واحد، فإنه لا يكفى، لسبب بسيط أن المجتمع استرد نفسه من حالة السيولة، وبدأ يبنى منظومة جديدة لها معايير وقواعد وأصول، لكن الظاهرة استمرت وتوغلت وأصبحت قائمة، وكلما تبدد «لوشا» ظهر لوشا آخر، وكلما تراجعت «أم ساجدة» ظهرت «أم ساجدة» جديدة. 

لا أعفى التكنولوجيا وما أحدثته فى المجتمع من المسئولية، فسهولة التعامل معها والوصول إليها مكن الكثيرين، ممن لا يمتلكون أى كفاءات ولا مؤهلات، من أن يصبحوا نجومًا يتابعهم الناس بالملايين، وهو ما لن نستطيع أن نواجهه أو نخفف من تأثيره. 

لكن السؤال هو عنّا نحن، عن الذين يستهلكون هذه البضاعة الفاسدة ويستطيبونها ويتفاعلون معها ويمنحون من ينتجونها شرعية تجعلهم يعتقدون أنهم على حق، ما الذى تعطل فينا، وهل أصبحنا على هذه الدرجة من السطحية والسذاجة والابتذال، ليصبح هؤلاء هم النجوم الذين يتحلق الناس من حولهم بالملايين؟ 

لعقود طويلة كان بعض المفكرين يذهبون إلى أن شيئًا ما فى أعلى العقل تعطل. 

الآن يمكننا أن نقول إن شيئًا ما فى أعلى الذوق تعطل. 

بل يمكننى أن أقول إن هناك ذوقًا فاسدًا هو الذى يحكم ويتحكم ويسهم إلى درجة كبيرة فى تسييد نمط أشباه «لوشا» و«أم ساجدة». 

فى نهاية ما كتبت أكدت أنه ليس من مبادئى أن أدعو إلى المصادرة، فالمصادرة كلمة كريهة، لكن عندما يكون خطر المحتوى المقدم على المنصات الإلكترونية يساوى تمامًا خطر المخدرات، فإننى أجد واجبًا علىّ أن أحذر منه، بل وأدعو المشرع المصرى أن يقوم بدوره فى التصدى وبقوة لهذه المخدرات التى يتعالى تأثيرها كل يوم دون أن ينتبه إليها أحد. 

قمر الوكالة

وتساءلت: هل يتحرك أحد؟ 

بعد أشهر جاءت الاستجابة من قبل وزارة الداخلية، التى لم تتحرك من فراغ، فعندما تركنا الحبل على الغارب للعابثين على «التيك توك» تحولوا من مقدمى محتوى يمثل خطرًا على المجتمع إلى مجرمين، فقد كشفت التحقيقات الأولية مع من تم القبض عليهم من نجوم التيك توك أن هناك عمليات غسل أموال، وهناك من قاموا بترويج أخبار كاذبة وبث شائعات، لا لشىء إلا لزيادة المشاهدات والمكاسب، ما يعنى أننا أمام جرائم جنائية مكتملة الأركان. 

وعندما نتأمل ما جرى الآن على هامش ما تكشف، سنجد أننا أمام حالة فوضى استغلها منتجو المحتوى الهزلى الهابط، وتماهت معها فئات كثيرة فى المجتمع، فمنحتها شرعيتها، وحولت أصحابها من مجرد مجرمين وعشوائيين إلى نجوم، يعرف الناس أسماءهم، ويتسمرون أمام ما يقدمون، يبدون إعجابًا بما يشاهدون، ويسهمون فى ترويجه. 

لقد شعرت بالخطر عندما ظهرت «مروة بنت مبارك»، تلك الفتاة الصغيرة التى ادّعت أنها ابنة شرعية للرئيس مبارك والفنانة إيمان الطوخى، ورغم أن الادعاء لم يكن منطقيًا، ولا توجد فيه رائحة عقل، لكن هناك من صدقوا ذلك، بل صدقوا ما روّجته عن تجارة الأعضاء، واتهام فنانين ونشطاء آخرين على المنصة بالتورط فى هذه الجريمة.

وكان مفزعًا بالنسبة لىّ عندما احتفلت الفتاة الصغيرة الفاشلة «سوزى الأردنية» بنجاحها فى الثانوية العامة بعد مرات رسوب، حصلت على ٥٠ بالمائة، لكنها احتفلت، وحصلت على ما يقرب من مليون جنيه فى أربع ساعات من المهنئين والمشجعين، فى مشهد هزلى وعبثى، يضرب بكل قيم التعليم والعمل عرض الحائط. 

لوشا

ولذلك عندما تابعت تحركات وزارة الداخلية فى مواجهة مد هذه المافيا، تفاءلت خيرًا، فما كان لمجتمع يريد أن يبنى نفسه أن يمكّن لأمثال هؤلاء تواجدًا وانتشارًا وتصديرًا لأنفسهم على أنهم قادة الرأى فيه. 

لقد خذلنا أنفسنا فى هذه القضية، وتخيلوا أن منصة التيك توك نفسها سعت إلى تبرئة نفسها مما يجرى على أرض مصر. 

ولعلكم قرأتم البيان الذى أصدرته، وهو البيان الذى وصفته بأنه تقرير إنفاذ إرشادات المجتمع للربع الأول من عام ٢٠٢٥، وسلطت فيه الضوء على الخطوات التى اتخذتها لتعزيز بيئة رقمية آمنة فى عدد من الدول العربية. 

من الخطوط العامة للبيان سنكتشف أن المنصة أزالت ١٦.٥ مليون فيديو مخالف لإرشادات المجتمع خلال الفترة من يناير إلى مارس ٢٠٢٥، فى كل من مصر والعراق ولبنان والإمارات والمغرب. 

‎وفيما يتعلق بمحتوى البث المباشر أوقفت «تيك توك» أكثر من ١٩ مليون بث مباشر مخالف على مستوى العالم خلال الربع الأول من العام ٢٠٢٥، بزيادة بنسبة ٥٠ بالمائة مقارنة بالربع السابق، وذلك فى مؤشر واضح على تعزيز قدراتها التقنية فى اكتشاف المحتوى المخالف بكفاءة وسرعة، دون التأثير على دقة عمليات الإشراف على المحتوى المتقدمة القادرة على رصد المحتوى المخالف بسرعة ودقة. 

وأكد بيان «تيك توك» أن الالتزام بإرشادات المجتمع يظل من أولويات المنصة الأساسية. 

ففى الربع الأول من العام ٢٠٢٥ حظرت المنصة ٨٤٩.٩٧٦ من مضيفى البث المباشر، وأوقفت بشكل استباقى أكثر من ١.٥ مليون بث مباشر فى كل من مصر والإمارات والعراق ولبنان والمغرب، ما يعكس الجهود المتواصلة لالتزام «تيك توك» بالحفاظ على دقة الإشراف. 

ويهتم البيان بحالة مصر، ففيها أزالت المنصة ٢.٩ مليون فيديو خلال الربع الأول من العام ٢٠٢٥، لانتهاكها إرشادات المجتمع، وحققت معدل إزالة استباقى بنسبة ٩٩.٦ بالمائة، حيث تم رصد المحتوى المخالف وحذفه قبل أن يبلغ عنه المستخدمون، كما أظهرت المنصة سرعة استجابة لافتة، حيث تمت إزالة ٩٤.٣ بالمائة من المحتوى المخالف خلال أقل من ٢٤ ساعة، ما يعكس استجابة قوية، بالإضافة إلى إزالة مقاطع الفيديو القصيرة المخالفة، كما حظرت المنصة أيضًا ٣٤٧.٩٣٥ مضيف بث مباشر، وأوقفت ٥٨٧.٢٤٦ بث مباشر لانتهاكها إرشادات المجتمع. 

لا يمكننا أن نفعل كما فعلت منصة «تيك توك». 

لا يمكننا أن نبرئ أنفسنا مما جرى، لا من مَن يقدمون المحتوى الذين حاولوا بكل الأشكال التبرؤ من المحتوى الذى قدموه، وأنهم لم يكونوا يقصدون خدش حياء المجتمع ولا استخدام هذه الألفاظ والإيحاءات، ولا مَن قاموا باستهلاك هذا المحتوى، وروجوا له، وجلسوا يشاهدونه بإعجاب، ولا مَن سكتوا عنه طويلًا دون مبرر أو سبب مقنع. 

مداهم

لقد توقفت طويلًا عند بعض المعترضين على الإجراءات التى اتخذتها وزارة الداخلية بناء على بلاغات تقدم بها عدد من المحامين لمواجهة مافيا التيك توك، وعللوا اعتراضهم ذلك بأن ما يحدث ضد حرية الرأى، وأن هؤلاء فى النهاية يعبرون عن نمط ثقافى فى المجتمع، لا يمكننا أن نتجاهله. 

وفى الحقيقة ما قرأته لا يمكن أن أصفه بأنه مثلًا حق يراد به باطل، فهو باطل يسعى إلى تكريس وترسيخ باطل كامل، فما يفعله هؤلاء ليس رأيًا بل عبثًا، وما يقدمونه ليس تعبيرًا عن نمط ثقافى، بقدر ما هو تعبير واضح عن فوضى وانفلات، وحتى لو تعاملنا معه على أنه نمط ثقافى، فهل نصمت حتى يسود هذا النمط المدمر؟ 

على هؤلاء أن يصمتوا، فما يقولونه يزيد مساحة الفوضى ويعمق هوة الانفلات. 

على الشاطئ الآخر من مملكة العبث رأيت كثيرين يعلنون غضبهم على نجوم التيك توك باعتبارهم يترجمون خللًا هائلًا فى المجتمع، أحد أساتذة الجامعة صب جام غضبه على الجميع، على اعتبار أنه لا يحصل على شىء فى مقابل حصول هؤلاء على كل شىء، وهى مقارنة ليست مناسبة ولا واقعية، فما قام به نجوم التيك توك مخالف لمعايير أى مجتمع محترم، ولذلك يربحون الملايين، فهل يريد أساتذة الجامعة أن يخالفوا هم أيضًا هذه المعايير. 

ما حدث من إجراءات أتمنى أن يسهم فى عدل كفة الميزان، أن ينهى مملكة العبث التى انتشرت وتوغلت، وكل ما أخشاه أن تكون هبّة من الهبات العابرة، ثم يعود كل شىء إلى ما كان عليه.