«الفجر الكاذب».. ننشر أول قصة نشرها نجيب محفوظ بعد «نوبل»

- لن ينقذك إلا اعتمادك على نفسك افعل ما فعله رمسيس الثانى عندما حاصره الحيثيون
- أذكر دائمًا دراستى الجامعية الضحلة العقيمة وبطالتى التى أمارسها فى الوزارة والسعادة التى أحلم بها دون جدوى
- للفرح يوم واحد لا يتكرر مهما تكرر وهو من صنع الرحمن لا البشر من أجل أسمى غاية وهى عمران الوجود
- المسألة أن نجاتك أو هلاكك بيدك أنت فليس عندى ما أقوله

كأنما هو سباق بينى وبين قرص الشمس المائل نحو الغروب، بلغت شارع ابن ياسر المكلل بأشجار الأكاسيا على جانبيه، تستبق فوق أديمه السيارات فى تيارات متدفقة، وتقوم فى موقع من وسطه العمارة بمدخلها الواسع الممتد، وضوئها المشع من داخل الجدران الشفافة، رفعنى المصعد إلى الدور الثامن، ضغطت على الجرس ففتحت الشراعة عن وجه الخادم. تقدمنى إلى الثوى المكون من ثلاث حجرات متصلة، فجلست على مقعدى فى الأعماق. أزاح الرجل ستارة وفتح نافذة، فتدفق هواء الخريف. وهلت سيدتى فى فستان أزرق آية فى البساطة والرقة، وشبشب أزرق مذهَّب السير، ترنو إلىَّ بعينيها النجلاوين الثاقبتين، وأنا أتعجب من صفاء بشرتها. سألتنى عما أحب أن أشرب، فطلبت القهوة فقالت إنها سلَّت بعض فراغها بصنع شيكولاتة بالبسكويت، قلت إذن أتناول واحدة. وأمرت لىّ بما طلبت. ونظرت فى وجهى مليًا، وقالت: واضح أنك لم تتقدم خطوة مفيدة.
فقلت فى تسليم: هذه هى الحقيقة.
تساءلت ضاحكة: ترى أهو ذنب المشكلة أم ذنبك؟
– لا أدافع عن نفسى، ولكن لا يمكن أن أُتهم بالإهمال.
– كأننا لم نبدأ بعد.
– وهذا ما يؤرقنى.
وجاء الخادم دافعًا أمامه خوانًا، يحمل القهوة والشيكولاتة. وتركتنى أحتسى القهوة فى هدوء، ودون أن يزايلنى التوتر. وقلت برجاء: لا تُسيئى بى الظن.
– تهمنى النتائج لا النوايا أو الأقوال.
– نحن فى زمن عجيب، شهدنا إنسانًا يهبط فوق سطح القمر، ونرى السوق ملأى بكتب عن القُوى الخفية.
– لا يعنى هذا أن يقف الإنسان مكتوفَ اليدين، وهو يعلم أنه عرضة للهلاك فى أى لحظة.
– لم أقف مكتوفَ اليدين، وطالما أتعبت سعادتك معى.
– أمرك يهمنى كما تعلم.
فبسطت راحتى على صدرى، وأحنيت رأسى شاكرًا، ثم قلت: طبعًا سمعت عن الذى قتل والديه؟
– والتى قتلت ابنها، وقديمًا سمعنا عن ريا وسكينة. ماذا تريد أن تقول؟
– يشعرنى ذلك باقتراب القدر.
فقامت لتغادر المكان، وهى تقول: سأحرر لك رسالةً للبك.
وغابت حوالى ربع ساعة ثم رجعت، فسلمتنى رسالة مطوية فى مظروف مغلق، وتساءلت: هل تبقى للعشاء؟
فقمت بدورى شاكرًا، وغادرت الشقة. ليل الخريف هبط بسرعته المألوفة، وأضواء السيارات المبهرة اقتحمت الأعين. وذكريات متلاطمة تفعل بإحساسى ما تفعله أضواء السيارات المبهرة، ولكنها تختفى وتضيع قبل أن أقبض عليها. فالدنيا تبدو مراوغة مثيرة للحيرة والقلق. ومضيت من توِّى إلى شارع البورصة، إلى مشرب الزهرة الصغير الأنيق الذى لا يتلاشى الجالس فيه. طلبت من النادل سندوتش لحم بقرى وقدح شاى، وقال لى الرجل قبل أن يذهب: سألَتْ عنك.. وستجىء لمقابلتك بعد قليل. سُررت بذلك وتناولت عشائى وانتظرت.
ولم يطل بى الانتظار، فجاءت تخطر فى بنطلونها بجسمها الرشيق الثرى، ووجهها الأسمر الصافى المنمق، وقد ارتدت جاكتة من الجلد البنى. وطلبت الشاى كالعادة وهى تنظر إلىَّ فى عتاب: لم أرَك منذ أيام.
– آسف، أنا غريق فى مشكلتى، وأمضى من وسيط إلى وسيط.
– لم يمنعك ذلك من ملاحقتى كظلى فى وقت مضى.
– لا يمنعنى عنك إلا عذر قاهر.
– ولكنك تدور فى حلقة مفرغة، لا ترى لها نهاية.
– لولا أنه يوجد فى الدنيا أمل كالذى تعديننى به؛ لانتهيت من زمن بعيد.
استشعرَت شيئًا من الحياء وهى تتساءل: لماذا تصر على تأجيل زواجنا حتى تحل جميع مشکلاتك؟
– هذا هو التصور الطبيعى.
– ولكن الزواج يهيئ لك نصف الأمان على الأقل؛ فأخى من كبار رجال الشرطة!
فقلت وأنا أنظر فى عينيها بإشفاق: خصمى شخص مجهول.
– هو أيضًا لم يهتدِ إليك بعد، وقد يساعدك أخى على معرفته.
– أتمنى أن أتزوج وأنا رائق البال.
– لا عقبة فى طريقنا إلا ما ينبثق من ذاتك.
عاودتنى عواطف صافية من زمن مضى، فرمقتها بحنان وحب وقلت: فلنجلس لنحلم فى عذوبة وهدوء، وقريبًا سوف تنقشع الهموم.
وتبادلنا حبًا عميقًا بلا كلمة ولا حركة. وفى لحظات عابرة بدت الدنيا مراوغة، وتلاشت حبيبتى من مجلسها القريب. وعادت مرة أخرى مشرقة الوجه، فواصلنا الحب المتبادل الصامت. ولما تركتنى تذكرت بزهو عنادى فى مطاردتها، حتى انتزعت من صميم قلبها الاعتراف بالحب، وأمدنى اللقاء بحماس جديد، فقمت لأقابل البك وأسلمه الرسالة. ذهبت إلى النادى بشارع الشط الأخضر، وجدته جالسًا مع نخبة من الأصدقاء فى الشُّرفة المطلة على الحديقة الواسعة. ولما رآنى مقتربًا قام مستأذنًا من صحبه، وصافحنى إكرامًا طبعًا للهانم، ومضى بى إلى الثوى الأخضر. أجلسنى قريبًا منه، ونظر إلىَّ بعينيه الثقيلتين وبوجه لا يعبر عن شىء، وسألنى: هل من جديد؟
فقلت بأسَى: أقابل أناسًا وأتلقى وعودًا.
وتناول منى الرسالة وأبقاها فى يده المنبسطة، وتساءل: ألا يقنعك هذا؟
– أريد أن يتحقق وعد.
– لكلٍّ عمل يشغله، هذه أيام الصرف الصحى، والعدوان على تونس، وخطف السفينة الإيطالية، ثم خطف الطيارة المصرية... والدولار.
– مشكلتى غاية فى البساطة.
– أنت تتصور ذلك، لا، انظر إلى الموضوع بعين محايدة.
– لكن حياتى مهددة!
– هل تعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الإسرائيليون؟ .. والفلسطينيين الذين قتلهم العرب؟.. وضحايا العنصرية فى جنوب إفريقيا.. والطائفية فى لبنان، وضحايا الزلازل والبراكين، والسموم البيضاء، والمظاهرات؟
فقلت وأنا أنظر بين قدمىَّ: ما علىَّ إذن إلا أن أستسلم للموت.
– بل أعنى أن تصبر وتعتمد على النفس.
– أليس من الحكمة أن أستثمر علاقاتى بالرجال الكبار؟
– لن ينقذك إلا اعتمادك على نفسك، افعل ما فعله رمسيس الثانى عندما حاصره الحيثيون، وأوقعوه فى الشرَك...
فقلت وأنا أدارى ابتسامة: سيدى، أنا لست رمسيس الثانى.
– لتكن رمسيس المائة أو الألف.
وتنبه للرسالة بين يديه، فقصَّ المظروف وقرأها بعناية. ونادى النادل فطلب رسالة ومظروفًا. وفى تلك الأثناء هفت إلى أنفى رائحة مسك فلم أستطع أن أخفى اضطرابى، فسألنى عما ألمَّ بى، فكاشفته بما تردده الشائعات عن خصمى المجهول، قلت: إنه يتطيب عادة بالمسك.
فقال الرجل بضجر: وغيره كثيرون، لا أظنه عضوًا فى نادينا.
وغرقت فى مستنقع الهواجس على حين راح هو يكتب التوصية الجديدة، ثم سلمها إلىَّ فى مظروف مغلق. وغادرت النادى، ولما قرأت اسم الوسيط الجديد، رأيت أن أذهب إليه ضحى الغد. وذهبت إلى مسكنى بشارع الجندى المجهول، غيرت ملابسى وجلست أمام التليفزيون أشاهد فيلمًا بطله سيارة تندفع ذاتيًا، وتقتل من يصادفها من البشر. شقتى صغيرة بالية ولكن الزمن رفعها ألف درجة، وجعل منها درَّة لا يفوز بها إلَّا ذو حظ سعيد. وقد أقمت بها مع قريب على عهد التلمذة، ثم استقللت بها بعد انتهاء دراستى الجامعية وتعيينى فى الوزارة. ورن جرس الشقة فعاودنى الشك الذى اجتاحنى حين شممت رائحة المسك، ومضيت إلى العين السحرية فطالعنى وجه جارتى المقيمة فى الشقة المواجهة لشقتى. ماذا جاء بها دون طلب أو اتفاق؟ دخلت ملتفة فى روب وردى مشرقة الوجه بالزواق، ولما رأت فتور وجهى، قالت: لا تحب أن ترانى إلا وقت الحاجة؟!
وجلست على مقعد قريب من مقعدى وهى تقول: لا يوجد زبائن، فقلت: أسلى وحدتى بجلسة بريئة!
ثم بعد صمت: ماذا جرى للزبائن؟
فقلت دون أدنى اكتراث: لعلها الحالة الاقتصادية.
– أنا لا أتعامل بالدولار.
وتفحصتنى قليلًا ثم قالت: ما زلت غارقًا فى همومك؟
– طبعًا.
– يوجد فى قريتى من يصمم على قتلى، لو عثر علىَّ ولكنى لا أفكر فى الغد.
فقلت بحيادٍ: كل شيخ وله طريقة.
– لكلٍّ أجله وهو يعمل مستقلًا عن الأسباب.
فقلت وأنا أدارى غيظى: فلسفة عظيمة، أنت امرأة سعيدة.
– لا.. وزنى ثقيل، وهو آخذ فى الازدياد، وتسبب فى حرمانى من تعلم الرقص.
– ولكن الشهرة ليست فى صالحك، وقد تدل عليك مَن يريد قتلك.
وانقطع حبل الحديث. ولم تجد من ناحيتى أى رغبة فى وصله، فسلمت بفشل مهمتها، وانصرفت وهى تلوح لى مودعة. وأنا أهم بالنوم عاودنى الإحساس بأن الدنيا تراوغنى، فخيل إلىَّ أن جارتى لم تأتِ لزيارتى، وخيل إلىَّ حينًا آخر أنها ترقد إلى جانبى، وفى الصباح ذهبت إلى الوزارة. هى المكان الوحيد الذى ألقى فيه الاحترام وأسمع الثناء تلو الثناء. ولىّ زميل غاية فى الدماثة والمودة. وهو يحثنى دائمًا على أن أعيش حياتى، وأن أستهين بالظنون والأقاويل التى لا يقوم عليها دليل مادى.. يقول لى: مَن منَّا لا يتربص به الموت؟
ودعانى ذلك الصباح إلى الاشتراك فى رحلة إلى جنوب سيناء، فوعدته بالتفكير فى الأمر. وعند الساعة العاشرة استأذنت فى الانصراف لعذر مهم، وغادرت المؤسسة إلى شارع الوادى الجديد، حيث توجد عيادة الوسيط الجديد الذى أحمل إليه الرسالة. ورجوت التمرجى أن يوصل الرسالة إلى الطبيب فذهب بها ثم عاد بعد دقائق؛ ليأذن لىّ فى الدخول فورًا. وجدت الطبيب جالسًا وراء مكتبه يطالعنى بشخصية قوية وعينين نافذتين، غير أنه توكد لدىّ ما يحظى به صاحب الرسالة من منزلة فريدة عنده. قلت: أعتقد أنى قادم إلى سعادتك بصفتك الشخصية لا المهنية.
فسألنى بجدية: ما الذى حملك على هذا الاعتقاد.
– مشكلتى، بل كل مشكلاتى، لا علاقة لها بالطب.
لكن الطب له علاقة بكل مشكلة، على أى حال ظنك فى محله، وما نريد إلَّا أن تمكث فى مصحَّة لىّ بحلوان فترة من الزمن؛ حيث يتهيأ الأمان والأمن.
– ولكنى بعد خروجى، سأرجع إلى ما كنت فيه.
– أو يكون الوسطاء قد تمكنوا من تصفية مشكلاتك فى أثناء ذلك.
– ولكن المصحة ستسىء إلى سمعتى.
– مصحتنا تعيش فى سرية كاملة.
وترددت متفكرًا فتساءل: ألا يوجد فى حياتك ما تخجل منه أو تندم عليه؟
– هذه مسألة أخرى.
– بل لعل كثيرًا من المشكلات يرجع إليها.
فقلت بيأس: إذن فأنا ذاهب للعلاج.
– لن أفرض عليك شيئًا لا تريده.
وقلت بمرارة وكأنما أخاطب نفسى: كيف أعيش بين مجانين؟!
فتساءل متهكمًا: وهل تعتبر نفسك عائشًا بين عقلاء؟!
وانفجر قلقى فقلت: معذرة يا سيدى، لن أذهب إلى المصحة.
فقال بهدوء كريه: فى هذه الحالة سأوصى إليك بأن يتركوك لشأنك، دون رعاية أو عناية.
فقلبت النغمة قائلًا: أعطنى مهلة قصيرة.
فقال موافقًا: لك ذلك.
أنفقت بقية النهار متسكعًا، وتجاذبتنى طوال الوقت الحقائق والأحلام، ولم تبقَ إلا خطوة يسيرة؛ لأتساءل عمن أكون، وفى أى مكان أقيم، والزمان الذى أعاصره. ورجعت مساء إلى عمارتى، ولكنى قصدت شقة الجارة لا شقتى. وخيل إلىّ أنها استقبلتنى دون مبالاة، وربما بشىء من الجفاء، وكأنما تعاقبنى على إعراضى عنها ليلة أمس. ولكن مسكنها يضفى علىَّ شعورًا بالألفة، ولا يخلو من فتور وضجر وإحساس شبه خفى بالخيبة. وهو بعيد كل البعد عما يجده الزائر المتسلل من التوتر والمغامرة. ولكيلا تتساءل عن سر غيابى الوشيك زعمت لها أنى راحل إلى قريتى لمهمة طارئة. وفى الصباح أعددت حقيبتى وذهبت إلى المصحة بحلوان. وهى مبنى رائع يقع فى أقصى المدينة، ويقوم على هضبة تطل على الصحراء. واخترقت حديقة واسعة لأصل إلى البناء فى العمق، وقادونى إلى جناح يتكون من صف طويل من الحجرات، تفتح أبوابها على ممشَى طويل يتصل بالحديقة بسلم رخامى يشغل الوسط. وتبدت حجرتى بيضاء الجدران والسقف، بها ما يلزم من فراش وصوان وخِوان ومقعدين، ولبثت وحيدًا، حتى جاءتنى ممرضة ناضجة الشخصية والأنوثة بالغداء. سألتها عن الطبيب فأجابت بأدب: سيجىء فى وقته!
وأعطتنى قارورة صغيرة تشف عن أقراص بيضاء خالية من أى ملصقات، وقالت: حبة بعد كل وجبة.
فقلت محتجًا: ولكننى لست مريضًا.
فقالت بهدوء وهى تغادرنى: ليست مصحتنا للمرضى، ولكنها للراحة والأمان.
وأخذت أشعر بالندم على المجىء، وأنتظر فى مللٍ متصاعد. وفى تمام الخامسة مساءً، انفتح الباب ودخل الطبيب. جلس على المقعد الآخر أمامى وقال: بداية حسنة، فانعم بالأمن والأمان.
فقلت بقلقٍ: ولكنى أتعاطى دواء.
– ما هو إلا مهدئ وفاتح للشهية.
– ومتى يستحسن أن أذهب؟
– وقتما تشاء من ناحية المبدأ، أما إذا راعينا مصلحتك، فالأوفق أن تذهب بعد أن تؤدى الامتحان.
– أى امتحان يا سيدى؟
– ما عليك إلا أن تسجل على الورق أكبر مشكلة مصرية، وأكبر مشكلة عالمية، ثم تفكر فى الحل المناسب لكل منهما.
فندَّت عنى ضحكة عالية، وقلت: لا شك أنك تمزح يا سيدى.
فقال بجدية وبرود: ليست مصحتى مسرحًا فكاهيًا.
فقلت متراجعًا: معنى هذا أنى سأبقى هنا إلى الأبد.
– إنها محاولة لمعرفة تصورك ليس إلا، وعقب ذلك تذهب بسلام.
– ولكن ما علاقة ذلك بمشكلتى أنا؟
– إذا استطعت أن تقدم تصورًا لحل مشكلتَىْ مصر والعالم، فلا شك أنك تستطيع ذلك بالنسبة لمشكلتك الخاصة.
– لكن مشكلتى من نوع خاص.
– ولو، لن تكون أعقد من مشكلات العالم.
– أنت تعلم، ولا شك أننى مهدد بالقتل فى أى لحظة.
– كلنا مهددون بالقتل فى أى لحظة!
وسكتُّ مغلوبًا على أمرى، حتى همَّ بالذهاب فسألته: هل يشترط أن تكون الإجابة صحيحة؟
– لا أحد يزعم أنه يعرف الإجابة الصحيحة ليقيس عليها، حسبك أن تقدم تصورًا معقولًا.
وعلى أثر ذهابه جاءتنى الممرضة بورقة مسطرة وقلم رصاص، ووضعتهما على الخوان. جذبتنى بقوة إلى أنوثتها ونضجها دون أن تتكلف كلمة أو حركة. وانبعثت فىَّ آمال عجيبة ملأتنى جرأة، وفى الوقت نفسه محت صورتها من قلبى العالق من خطيبتى وجارتى. قلت لها: إنى مدين لك بحسن الرعاية.
فقالت بجدية وحياء: إنى أؤدى واجبى.
ونظرت إلى خاتم الزواج فى يسراها، وتساءلت: سعيدة فى زواجك؟
فقالت بدهشة: سؤال غريب!
– لا مؤاخذة ولكنَّ لى هدفًا.
– أى هدف؟
– إذا خطر لك أن تجربى حظك من جديد؛ فإننى على أتم الاستعداد للزواج منك.
فغادرت الحجرة دون أن تنبس بكلمة. وسرت فىَّ قشعريرة إحباط وبرودة، وضقت بالحجرة، فخرجت إلى الممشى. بعض النزلاء يجلسون أمام الحجرات أو يتمشون. جارى رجل فى الأربعين، حدجنى باهتمام فتبادلنا التحية. واقترب منى وسألنى عمَّا جاء بى، فلخصت له الموقف فى شىء من التحفظ، ثم سألته بدورى عما جاء به، فقال: لعلى الوحيد بينكم الذى جاء بلا مشكلة!
– ولكن كيف؟
– أنا رجل ميسور الحال، صاحب مزاج، أحب السرور والرحلات، ولا أحمل للدنيا همًا.
– عظيم.. عظيم.
– لىّ صديق مشترك بينى وبين الطبيب، هاله أن يجدنى بلا مشكلة، وأصرَّ على أن أعيش فى المصحة مدة.
– جئت؛ لأنك بلا مشكلة!
– هذا هو الواقع.
– وكيف قبلت؟
– قلت: لتكن تسلية جديدة.
– وهل أديت الامتحان؟
– هذه هى مشكلتى الجديدة، فلا علم لىّ عن أى مشكلة فى مصر أو العالم، ولا أقرأ من الصحيفة إلَّا الإعلانات والوفيات، وأين تذهب هذا المساء.
– ما عليك إلَّا أن تقرأ الصحف، وستمدك بمشكلات لا حصر لها.
فتساءل ضاحكًا: وكيف أقدم حلولًا لمشكلات لا تهمنى البتة؟
والحق أنه امتصَّ منى توترى بغرابة مشكلته، وفتح نفسى للرجوع إلى حجرتى لأداء الامتحان المطلوب منى. وعند منتصف الليل آويت إلى فراشى ونمت نومًا عميقًا. وفى الصباح الباكر جاءتنى الممرضة بالإفطار. وجاءت معها برائحة ما إن شممتها حتى ارتعدت أطرافى. ولما لاحظت تغيرى سألتنى عمَّا ألمَّ بى، فقلت بقلق لم أستطع أن أداريه: هذه الرائحة!
فقالت بثقة: رائحة المسك أطيب الروائح.
– من أين لك بها؟
– أهدانيها أحد زوار النزلاء.
– هل يتردد على المصحة من زمن؟
– منذ أكثر من شهر، ألا تعجبك؟
فقلت متحفظًا: هى مرتبطة فى حياتى بذكريات غير سارة!
فقالت بمرح: فك الارتباط، وتناول إفطارك.
ونضب إعجابى بالممرضة وتبخر. ولعلها شعرت بذلك على نحوٍ ما فتساءلت بجدية: هل فرغت من تسجيل المشكلات لآخذها إلى الدكتور؟
وفى الحال أعطيتها الورقة؛ لأتخلص منها فى أقصر مدة. وجاءنى الطبيب قبيل الظهر. دعانى إلى الجلوس أمامه واضعًا الخوان بيننا، وألقى على ورقتى نظرة جديدة، وقال: أنت ترى أن مشكلة مصر الأولى تتركز فى عدد السكان؟
– هى أُم المشكلات كلها.
– عظيم، أى حل تقترح لها؟
– يجب أن يهبط العدد إلى ما يتناسب مع الإمكانات المتاحة، فتحل جميع المشكلات دفعة واحدة.
– وكيف نتخلص من الزائد؟
– بالهجرة الدائمة، وقتل الباقى بوسيلة رحيمة خالية من الألم!
– يا لك من رجل رحيم!
– كل عاقل يجب أن يعتبرنى كذلك.
– ومن حسن الحظ أننى عاقل.. والآن ننتقل إلى العالم، فأنت ترى أن الحرب النووية هى مشكلته الأولى؟
– نعم.
– فكيف ترى العلاج؟
– أن تقوم الحرب وتقضى على العالم، وتخلصه من مخاوفه.
– ولكن الإبادة ستلتهم المخاوف والخائفين معًا.
– أو يبقى نفر كالذين نجوا من الطوفان.
– الحق أن تفكيرك لا يخلو من رحمة وكمال دائمًا!
وتبادلنا نظرة طويلة، ثم سألته بقلق: هل أستطيع أن أذهب الآن؟
فقال وهو يقوم تأهبًا للذهاب: بيدك وحدك أن تذهب وقتما تشاء.
وفى الحال أعددت حقيبتى وذهبت. ذهبت أسوأ مما جئت، ولكن روح استهانة استحوذت علىَّ، وأملَتْ علىَّ أن أمضى فى حياتى دون اعتبار لأى شىء إلا الحياة نفسها. ونازعتنى نفسى إلى لقاء الهانم التى لولا عطفها؛ لهلكت من زمن بعيد. وعند العصر أقبلت علىَّ فى ثوبها متلفعة بروب خفيف بنفسجى زادها جمالًا وصفاء. جلسنا حول إبريق الشاى وهى تقول: لم يفُتْنى شىء من أخبارك، وإنى مسرورة بما سمعت.
فنظرت إليها بارتياب وقلت: تجربة المصحة تجربة غريبة، وفى جملتها غير سارة، وحتى هناك طاردتنى رائحة المسك.
فابتسمت عن لآلئها، وقالت: الطبيب مرتاح ومتفائل، ويجب أن تطمئن إلى حكمه فهو ثقة علَّامة.
وترددت قليلًا ثم قلت: عَنَّ لى أن أزور قارئة الفنجان المشهورة.
فابتسمت قائلة: كما تشاء، الحقيقة اتسعت فى أيامنا هذه، حتى شملت كل شىء.
وقبّلت يدها، وغادرت مقامها إلى مصر القديمة، إلى مسكن المرأة التى شغل ذكرها صحفنا الكبرى. وجدت حجرة الانتظار مزدحمة، فطال انتظارى حتى أوشك صبرى أن ينفد. ثم جلست أمامها على مقعد صغير مريح الوسادة، وحسوت فنجان القهوة، فلم تبقَ إلا الرواسب. وتناولت الفنجان وراحت تتأمله بعناية، وطال تأملها حتى قطبت كالحائرة.
ثم قالت: لا أدرى كيف أقرأ مستقبلك.
فتساءلت منزعجًا: أهو غامض لهذه الدرجة؟
– المسألة أن نجاتك أو هلاكك بيدك أنت. فليس عندى ما أقوله.
– لى خصم عنيد مجهول.
– نعم، أنت مجهول أمامه أيضًا، وهو يخشاك كما تخشاه.
– لم يعرفنى بعد؟
– نعم، رغم أن الحياة جمعت بينكما أكثر من مرة!
– جمعت بيننا؟
– هذا واضح.
– أليس لديك معلومة إضافية تبل الريق؟
قلت ما عندى، والله معك.
تركتها مشتت الخاطر ينهمر فوق رأسى القلق من سماء ملبَّدة بالغيوم. تقول: إن الحياة جمعت بيننا أكثر من مرة، اللعنة! فهو إذن أحد سكان العمارة أو زميل فى الوزارة، وربما يكون البك أو طبيب المصحة! وذهبت إلى الزهرة؛ لأتناول لقمة وأتمالك أنفاسى. سرح بى الخيال إلى عهد الطمأنينة والسلام قبل أن أطلب يد خطيبتى. وكيف نما إلى علمى أن نفرًا من أهلها اقترحوا رفضى لهوان أصلى. ومع أن خطيبتى ذللت العقبات بقوة إرادتها إلا أن اقتراح الرفض آلمنى جدًا، ودفعنى إلى النبش فى الماضى؛ لعلى أعثر على أصل كريم غابر أخنى عليه دهر لا يَرحم. وأهلتنى دراستى الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، وما زلت أنتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير فى عصره. كيف تدهور ذلك الجد العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث، واستقبلت ذريته تاريخًا طويلًا من الفقر والذل، وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذى اتخذ من الثأر المتوارث وسيلةً متجددة، ومقدسة فتك بها بأرواح لا تحصى من أبناء الأسرة جيلًا بعد جيل، لا يُعفى منها غنى أو فقير. وقدرت بالحساب الدقيق أننى المرشح اليوم للقتل، لا يؤخر الأجل عنى إلا أن الخصم لم يهتدِ إلىَّ بعد. هكذا استوعبتنى مشكلات الأصل والموت فلم تبقِ من حيويتى إلا القليل لمشكلات الحياة اليومية الملحة. وطبيب المصحة يرى أن تصورى لحل مشكلات مصر والعالم قادرٌ ضمنًا على حل مشكلتى المؤرقة، ولكن من يضمن لىّ الحياة حتى تُحل مشكلات مصر والعالم؟! وتاقت نفسى للخروج من قصر التيه بأى ثمن، ولأن أحيا حياتى مهما كلفنى الأمر. ودعوت خطيبتى إلى لقاء بالزهرة فى أصيل اليوم التالى. ولبَّت كالعادة بكل حيويتها واستجابتها العذبة. وقصصت عليها حكايتى مع قارئة الفنجان منتظرًا تعليقها. قالت باسمة: هذا يعنى أنه يحتمل أن أكون أنا خصمك المجهول!
ثم بجدية: احذر أن تسىء الظن بالجميع، فتصبح وحيدًا منبوذًا.
فقلت بنبرة واضحة وقوية: لا أودُّ أن أموت قبل أن أموت.
– يسعدنى أن أسمع ذلك.
– وأودُّ أن نتزوج فى الحال.
فوهبتنى الموافقة بنظرة عينيها ودون كلام. وإنى على أتم استعداد والحمد الله. واتفقت مع مقاول من المترددين على الوزارة؛ لتجديد شقتى الصغيرة العتيقة، يغير أرضيتها ويصلح النوافذ ويدهن الجدران والأسقف، ويعيد بناء الحمام ودورة المياه والمطبخ. ولما انتهى العمل فى الشقة مضوا يفرشونها بجهاز العروس تحت إشراف خطيبتى وأمها وأخيها ضابط الشرطة. ولما كلل التعب بحسن الختام إذا بحماتى تقول بنبرة ذات مغزى: لا بد من فرحة!
لكن مدخراتى أوشكت على النفاد، وهمست بذلك، فقالت الست: لا نريد حفلًا فى فندق، حسبنا عشاء لائق فى مطعم خلوى، وبلا رقص أو غناء!
ولبيت رغبتها على رغمى، واقتصرت الدعوة على الأهل. غير أنى دعوت الهانم فشرفتنا مع هدية سعيدة متبرعة للاجتماع بفرقة «كان كان» الموسيقية. وجلسنا متواجهين حول مائدة طويلة، ورأيت بين المدعوين البك وطبيب المصحة، دون أن أدرى كيف تم ذلك. وعاودنى إحساسى الغريب بمراوغة الذكريات الغامضة، ولكن سعادتى بالعروس غلبت على كل شىء. وخطر لى فى أثناء الطعام أن خصمى المجهول موجود حتمًا بين المدعوين، ولكنى طردت الفكرة بإصرار وواصلت الأكل والشرب. ولما فرغنا من الطعام وقف رجل كان يجلس فى الصف الآخر إلى يسار حماتى ليلقى كلمة فيما بدا. خُيل إلىَّ لأول وهلة أننى أراه لأول مرة فى حياتى، ثم خيل إلىَّ مرة أخرى أننى سبق أن لمحت هذا الجبين البارز والحاجبين الغزيرين والفكين القويين، ولكن أين؟ ومتى؟
وملت نحو الهانم الجالسة إلى جانبى وسألتها عنه، فقالت: رجل طيب يقدم نفسه فى الأفراح طلبًا للرزق.
وركزت عليه بصرى باهتمام لا يخلو من قلق، أما هو فراح يقول بصوت جهير:
سيداتى.. آنساتى.. سادتى
للفرح يوم واحد، لا يتكرر مهما تكرر، وهو من صنع الرحمن لا البشر، من أجل أسمى غاية وهى عمران الوجود، فالزواج طاعة، والحب عبادة، إذا حاد أحدهما عن طريقه ضلَّ إلى الأبد. وفى مثل هذا اليوم تسجل الحياة أحد انتصاراتها الرائعة، فلنهنئ العروسين، ولنُحى ذكرى ربَّىْ أسرتهما النبيلة آدم وحواء، اللذين دُفعا إلى دنيانا بسبب العصيان، ورُفعا منها بحكم الغفران، ولندعُ الله أن ينصرنا على إبليس، عدو الأسرة القديم الذى لا يكف عن طلب الثأر، والعقبى لكم فى المسرات.
وأحنى الرجل رأسه؛ شكرًا للتصفيق الذى أعقب كلمته ثم جلس. وكاد ذكر الثأر يفسد علىَّ ليلتى، لولا لباقة عروستى التى جذبتنى لنَجواها. وانفضَّ الحفل الصغير على خير حال. ومضيت بعروسى إلى شقتى، ولكن استعصى علىَّ أن أُدخل المفتاح فى عروة الباب. ماذا حدث؟! وفتحت شراعة الباب عن وجه لم أتبين معالمه. سألنى قبل أن أفيق من ذهولى: مَن أنت؟
فصرخت فيه: مَن أدخلك شقتى؟
فصاح الرجل بغضب: سكران!.. مجنون!.. اذهب قبل أن أكسر دماغك.
ادعى كل منّا أن الشقة شقته، وأن الآخر معتدٍ أو معتدٍ ومجنون، ولم أجد بدًا من الاستغاثة بالشرطة. ولكن أين عروسی؟ هل بادرت إلى أخيها؟ ولم أحب أن أضيع الوقت فى البحث عنها، فذهبت إلى قسم الشرطة، واصطحبنى ضابط إلى الشقة، واطلع على العقد، ثم صارحنى بأنه لا يستطيع أن يتعرض للرجل بسوء، وأن الأمر يجب أن يُعرض على النيابة. وتكشَّف التحقيق عن غرائب وعجائب. أثبت الرجل أن الشقة شقته بعقد قديم، وشهد معه صاحب العمارة والبواب وكثرة من السكان. واستشهدت بعروسى وآلها الذين فرشوا الشقة بأيديهم، وأدلوا بشهادتهم القاطعة بأنهم لا يعرفوننى، وأننى لم أتزوج من ابنتهم. وماذا يقول الذين لبوا دعوة العشاء وشهدوا الزفاف؟.. ماذا تقول الهانم، والطبيب، والبك؟.. أجمعوا على أن أقوالى ادعاءات باطلة لا أصل لها وأنهم لا يعرفوننى، ولم توجد بينهم وبينى أى صلة. ولعل الوحيد الذى لم ينكرنى، والذى جاء دون دعوة منى، هو صاحب الخطبة. سمعته يقول للمحقق إنه أخى الأكبر، ويرجو أن يذهب بى لأعالج من تلك الحالة الطارئة!
ودخلت فى شبه غيبوبة لا أدرى كم غشيتنى ولا متى انقشعت. ولكنى أنتبه أحيانًا إلى وجود أخى إلى جانبى، وأحيانًا أخرى أعى إقامتى فى مصحة الطبيب بحلوان. وبعودتى إلى ذاتى أدركت أننى مريض وأننى أُعالَج، وأن الطبيب يعالجنى بالعقاقير والكهرباء. ولما خاطبت أخى فى شئوننا الخاصة هتف الرجل بسرور: الحمد لله، ها أنت تعود إلى الواقع.
ولكن علاجى امتد طويلًا وجالسنى الطبيب كثيرًا، حتى أنست إليه وأسرنى بذكائه وإنسانيته. وفى آخر مرة قال لى: أعتقد أنك على أتم ما يكون من الشفاء الآن.
فوافقته بتسليم وصبر. فسألنى: ما حقيقة علاقتك بأخيك الأكبر؟
فأجبت بهدوء ويقظة ودون أى إرهاق: إنى أقيم معه فى شقته بالعمارة، وهو زوج وأب، وذو ميول دينية واضحة، ولا يكف عن حضى على الزواج رغم الظروف المعاكسة، ولم يرَ بأسًا من أن أتزوج بجارتنا الأرملة، على رغم أنها تكبرنى بأعوام، ولكنها تملك الشقة وبعض المال، ولم أذعن لمشيئته؛ لنفور قلبى من المرأة ولارتيابى فى استقامة سلوكها، لا أنكر عطفه علىَّ ونصاعة خلقه، ولكنه طالما وقف من سلوكى موقف الناقد طويلًا بل والرافض.
ولما سألنى عن عروسى ضحكت طويلًا، وقلت: كانت زميلتى فى الكلية، أحببتها وكأنها كانت تزن مستقبلها بميزان العقل، فأثبتت لى بمنطق واضحٍ حادٍ أننى غير صالح للزواج، أى غير قادر عليه. وفضلًا عن ذلك فقد صارحتنى بأن أهلها يصرون على اختيار زوج لها من طبقتها.
وسألنى عن الهانم فقلت: عرفتها من خلال عملى بوزارة الشئون الاجتماعية كرئيسة لإحدى الجمعيات الخيرية، بهرنى جلالها وقوة شخصيتها ورقة إنسانيتها، وأقررت لها بأنها تملك من المزايا ما يؤهلها لحكم أمة حكمًا عادلًا سعيدًا، ولم أجد بها من عيب إلَّا زواجها من «البك»، الذى كان أدنى منها كثيرًا فى العلم والخلق.
وقال الطبيب: أما أنا فلا شك أنك عرفتنى عن طريق التليفزيون.
– بالضبط، وأعجبت بأسلوبك فى معاملة مرضاك باعتبارهم ضيوفًا.
– تبقى مسألة القتل والثأر، فهل لك أعداء؟
فقلت ضاحكًا: بدأت المسألة بالمجاز، يقول أخى لى فى شتى المناسبات إننى عدو نفسى وإنه يجب أن أحذر العدو الكامن بين جوانحى، وأقول له إنه يوجد أكثر من عدو يتربصون بنا الدوائر.. وإلَّا فكيف تفسر هذا الانهيار الشامل؟!
وهز الطبيب رأسه وهو يبتسم، ثم قال: وفى حوارنا المتصل الطويل لمست انفعالك الشديد حول قيم كثيرة كالعلم والعمل والسعادة، أيرجع ذلك للأسباب التى ذكرتها؟
فقلت بحدة: ليس ذلك فحسب، لكنى أذكر دائمًا دراستى الجامعية الضحلة العقيمة، وبطالتى التى أمارسها فى الوزارة، والسعادة التى أحلم بها دون جدوى.
– ورحت تكمل ما ينقصك بأحلام اليقظة، حتى أشرفت على الضياع الذى أُنقذت منه بمعجزة.
فقلت خاشعًا: بفضلك يا سيدى.
وخرج أخى عن صمته فقال: وبفضل الله قبل كل شىء.
فقال الطبيب: حدثنى الآن عن الدرس الذى أفدته من إقامتك القصيرة فى مصحتى؟
فقلت بحماس: إن أحلام اليقظة غير مجدية!