التهامى يعيد تقديم ابن الفارض والحلاج وابن عربى لجمهور محكى القلعة
الساحات الممدودة.. نظرة ومَدد

- ياسين التهامى إنسان حقيقى لا يصدر للعالم إنسانيته دون أن يقدم على ذلك دليلًا واضحًا ومؤكدًا
عندما كنت أطالع كتاب الدكتور سعيد أبوالإسعاد «العوائد الملموسة والفوائد المحسوسة فى زيارة أهل البيت والصالحين بمصر المحروسة»، توقفت قليلًا عند صورة أعتقد أنها خاصة جدًا ومميزة جدًا، ومن الصعب أن تجدها لدى أحد لا يسير فى الطريق إلى الله.
الدكتور أبوالإسعاد روى واقعة يقف الشيخ تهامى حسانين والد الشيخ ياسين على أحد طرفيها.
تحدث عن غرفة فى فندق الصفا والمروة بالمنطقة المجاورة لمسجد مولانا الحسين رضى الله عنه، وقال عنها إنه كان لها إرث من مكة المكرمة، فقد كانت تتسع لأى عدد يجلس فيها.
انزع عن روحك حدود المكان الذى يمكن أن يضيق بأصحابه عندما يزيد عدده، وتأمل أنت هذه الصورة، غرفة فى فندق لها فى النهاية مساحتها المحددة، وحدودها المعروفة التى لا يمكن أن تتجاوزها، لكنها مع ذلك تستوعب أى عدد يدخلها.
لقد مررت بهذه التجربة مع الشيخ ياسين التهامى أكثر من مرة، ولو أردتنى أن أكون دقيقًا معك، فإننى سأعترف أننى مررت بهذه التجربة فى كل مرة التقيت به فيها.
قبل الليلة الكبيرة لمولد سيدنا الحسين - ٢٠٢١ - بيوم واحد، كنت أجلس مع الشيخ ياسين فى إحدى شقق الخدمة المحيطة بالمسجد، كانت جلستنا فى إحدى غرفها، لم أكن معه وحدى، كان معنا وحولنا كثيرون، هذا يأتى ليسلم عليه وينصرف من على الباب، وذاك يدخل ليقُبل رأسه طالبًا منه البركة وربما المدد، لكن أغلب من كانوا يفدون علينا كانوا يأخذون مجلسهم فى الحجرة بالقرب منه.
بعد دقائق وجدت نفسى مأخوذًا بالحالة التى أصبحنا عليها، فرغم كثرة العدد الموجود فى الغرفة التى هى بكل حال ضيقة، إلا أن الجميع يجلسون براحة واطمئنان، يتبادلون الحديث والضحكات والقفشات والحكايات التى يدور معظمها عن الشيخ ياسين وعالمه الممتد بلا انقطاع.

لا يمكننى أن أدعى أن هذه الغرفة لها نصيب من إرث مكة المكرمة، كما ذهب الدكتور أبوالإسعاد عن غرفة فندق منطقة الإمام الحسين، لكننى أيقنت أن الإرث الذى نجلس فى ظلاله هو إرث الشيخ ياسين نفسه، فعندما تجلس إليه يصبح الضيق اتساعًا، وهو إحساس تصل إليه بالروح وليس بالجسد، فكل مكان يجلس فيه يصبح ساحة ممدودة حتى لو كان ضيقًا.
يعتز الشيخ ياسين بالساحة التهامية، تلك التى كان يستقبل فيها والده الشيخ تهامى حسانين ضيوفه من أهل الطريق، يرحب بهم ويبسط لهم من كرمه، وهى الساحة التى حافظ عليها حتى الآن، ولا تزال مفتوحة لمن يترددون عليه، يطلبون وصله ووصاله، فهو وبإشراف شقيقه الأكبر الشيخ الجميل محمود الذى يقدمه على نفسه فى كل شىء، يحرصان على إحياء كل ما كان يفعله والدهم، ويجتهد أبناء العائلة التهامية فى بذل كل ما فى وسعهم ليكونوا فى خدمة الأحباب، فهم من صُلب رجل نذر نفسه من أجل المحبين.
الساحة فى حياة الشيخ ياسين التهامى ليست مكانًا، ولكنه هو نفسه تحول إلى ساحة لكل من يتردد عليه، ومن يترددون عليه كثيرون من مختلف المحافظات والمستويات والطبقات، وكلهم يسعون إليه، فأن تجلس معه ولو حتى بشكل عابر فهو حدث، وأن تتحدث معه فهو أمر جلل، وأن يتحدث هو معك فهو غاية الغايات.
يمكننى أن أنظر إلى الشيخ ياسين على أنه ساحة إنسانية بلا حدود، بحر كبير بلا شاطئ، براح بلا ضفاف، ولأنه كذلك فهو يرحب بكل من يفدون عليه، ولأن الترحيب ليس مصطنعًا، فهو وبذاكرته القوية يعرف أسماء كل من يترددون عليه، ويعرف آباءهم، يرحب بهم بأسمائهم، وهو ما يجعله قريبًا وبشكل حقيقى من الجميع.
فكرة الساحة الممدودة فيما أعتقد هى التى جعلت الشيخ ياسين التهامى قادرًا على مواصلة طريقه، فالأرض كلها مملكته، والسماء كلها طوع عينيه، ولا تعتقد أنه وهو ينظر إلى السماء منصرفًا أحيانًا عمن حوله فإنه يفعل ذلك من باب الدروشة، بقدر ما هى محاولة لتفقد هذه المملكة التى منحه الله قدرة على أن يمد بصره فيها بلا حدود ولا قيود.
وقد تعتقد أن من يعيش حياة الشيخ ياسين لا يمكن أن يكون منظمًا أو مرتبًا، وهو اعتقاد خاطئ تمامًا، ففى ظل هذا الزحام الذى يحيط به، إلا أنه منتبه تمامًا لشئونه الكثيرة التى لا يعرف حدودها غيره.
فى جيب الشيخ ياسين دائمًا أجندة للعام، فهو لا يفرط فى أيامه، ولا يجعلها تتفلت من بين يديه، يكتب مواعيده بدقة، ويرتب لقاءاته بحسم، ولا يترك شيئًا للصدفة، فهو رجل مطلوب بشكل دائم، ولأنه كذلك فهو يرتب أيامه حتى لا يخل بموعد أو اتفاق.

لكن الأهم من المواعيد والاتفاقات، فإن الشيخ ياسين يسجل فى أجندته بعضًا من الخواطر التى تقتحمه اقتحامًا لا يقدر على مقاومته، وهى فى الغالب خواطر تأتيه من وجوه مريديه ومن تعاملاته اليومية مع الناس، ومن تأملاته الكثيرة التى يجدها تحاصره بأمر الله، حتى وهو جالس فى زحام المحبين، وكم وجدته يقول لى مبتسمًا إن لديه خاطرة جديدة سجلها، أمنحه أذنى وانتباهى بشكل كامل، فيقول جملته العميقة البليغة، ثم يواصل صمته.
فى ساحات الشيخ ياسين تجده أغلب الوقت صامتًا، يفرش رداءه للمحبين الذين يتحلّقون من حوله، وهؤلاء لا يتوقفون عن الكلام، والكلام فى الغالب عنه هو، أو عن أنفسهم معه، فلا تجد أحدًا يتحدث عن نفسه منعزلًا عن قصة الشيخ الكبيرة.
عندما أستعيد ما يقوله المحبون عن ياسين، أجدهم يجمعون على تواضعه الشديد، أسألهم عن أكثر ما يميز الشيخ، يذهبون فى تفكير عميق، وعندما يعودون إلىّ لا يجدون أعظم ولا أفضل من تواضعه الشديد، ولهم فيه حكايات كثيرة يستحضرونها وكأنها حدثت فى اللحظة التى يتحدثون إلىّ فيها.
قد تتخيل أن الساحات الممدودة التى أتحدث عنها تقتصر على الساحة التهامية فى الحواتكة بأسيوط، أو ساحة بيته فى منطقة سيدنا الحسين، وسيكون معك عذرك تمامًا، لكن لك أن تتصور معى أن الشيخ ياسين له تقريبًا فى كل محافظة من محافظات مصر أكثر من ساحة، فبيوت المحبين والأصدقاء مفتوحة له، يستقبل فيها من يشاء، فقد منحه المحبون الحرية الكاملة ليقضى وقته كما يريد.
من بين ما يميز السابحين فى ساحات التهامى الممدودة وجود رفاق للرحلة، تمتد علاقتهم بياسين إلى ما يزيد على أربعين عامًا، ومن بينهم جلست إلى الدكتور أحمد محمد سليمان نائب رئيس جامعة سوهاج للدراسات العليا، والمستشار عادل سعد حراجى، وهما من المحبين الكبار، الذين يلازمون الشيخ منذ سنوات طويلة، ولهم معه حكايات خاصة يعتبرونها الأهم فى حياتهم وتاريخهم رغم ما لديهم من إنجازات لا تعد ولا تحصى.
قد تكون هذه هى الميزة الكبرى التى يمكن أن نلمحها فى تجربة ياسين التهامى، فالمريدون عنده يصبحون أصدقاء، والأصدقاء يتحدثون عن فضل ياسين، فهو بالنسبة لهم ليس منشدًا فقط، وليس مداحًا عظيمًا فقط، ولكنه راعٍ كبير، يهتم بشئون أصدقائه، يبذل لهم من وقته ومن جهده ومن ماله ما لا يتصوره أحد.
البذل فى حياة ياسين التهامى يؤكد ما أمسكت به فى حياته قبل حتى أن ألقاه، فهو إنسان حقيقى، لا يصدر للعالم إنسانيته دون أن يقدم على ذلك دليلًا واضحًا ومؤكدًا، وهذه هى قيمة ياسين العظمى بالنسبة لى.
من كتاب ياسين التهامى «أسرار عميد دولة المداحين»