عملية عزل المطران.. ماذا يحدث فى دير سانت كاترين؟

- آباء أخوية الدير يتهمون رئيس الأساقفة بسوء استغلال الصلاحيات التى منحتها له الحكومة المصرية
وكأننا أمام سيناريو درامى صاخب، يعود به دير سانت كاترين بسيناء مرة أخرى إلى واجهة الأحداث الساخنة، بعد شهور قليلة من جدل جرى على هامش النزاع عليه بين الحكومة المصرية وإدارة الدير، وهو جدل تداخلت فيه الحكومة اليونانية.
هذه المرة الصراع داخلى، وهو صراع ليس سياسيًا، بل دينى وإدارى، توالت أحداثه عاصفة، واقترب بتفاعلاته من أبواب النيابة العامة.
ذروة الأحداث كانت مساء يوم الثلاثاء ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥.
فى ساعة متأخرة من هذا اليوم فوجئ رهبان الدير بعودة المطران «داميانوس» رئيس الأساقفة - كان قد أصبح فى هذه اللحظة مخلوعًا وسابقًا - ولم يكن وحده، كان معه عشرة رجال مُقنعين يعملون معه كحرس شخصى، دخلوا الدير بشكل مفاجئ، وبدأوا فى الاعتداء على قلايات الرهبان.
قاد المُقنعون العشرة فى حملة اعتدائهم على قلايات الرهبان الأب «أكاكيوس»، حيث أخرجوا الرهبان من قلاليهم، وكسروا أبواب ونوافد القلالى المغلقة، وأجبروا الآباء على الخروج حفاة فى مشهد اعتبره كل مَن شهدوا الواقعة مهينًا ومؤلمًا.
الاعتداء ترك وراءه خمسة رهبان أُصيبوا إصابات بالغة، ونُقل بعضهم إلى مستشفى شرم الشيخ لتلقى العلاج، استولى المقتحمون على باب الدير وأغلقوه من الداخل طوال الليل، ولم يسمحوا لرجال الشرطة بالدخول، وكان المشهد اللافت أن أحد عشر أبًا وجدوا أنفسهم مطرودين خارج أسوار الدير، واضطروا إلى أن يبيتوا فى العراء.
كانت النتيجة المنطقية لهذه الأحداث الجديدة على الدير- فلم يرَ الآباء شيئًا من هذا من قبل- أن يتوجه أربعة من الرهبان إلى قسم شرطة سانت كاترين لتحرير محضر بالواقعة، ثم انتقلوا إلى قسم شرطة نويبع لمتابعة الإجراءات القانونية.
لكن: لماذا لجأ المطران «داميانوس» إلى هذا التصرف؟
يمكننا أن نعود معًا إلى اجتماع مجمع أخوية دير سانت كاترين الذى عُقد بين يومى ٢٧ و٣٠ يوليو ٢٠٢٥، وهو الاجتماع الذى قررت فيه الأخوية عزل المطران «داميانوس»، وبررت هذا العزل بأسباب محددة، ضمّنتها بيانًا رسميًا صدر عنها، وكانت هذه الأسباب على النحو التالى:
أولًا: لم يكن داميانوس يقيم بصورة دائمة فى سيناء، بل كان يمكث فترات طويلة فى أثينا وأماكن أخرى، فلم يقضِ فى الدير منذ ٢٠١٨ أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر إجمالًا.

ثانيًا: عطّل فعليًا عمل السلطة العليا لإدارة سيناء «الأخوية السينائية»، وذلك بعدم دعوته إياها إلى أى مجمع كما تنص اللوائح، مستأثرًا بسلطاتها تعسفًا واستبدادًا، فكان يتصرف منفردًا فى قضايا تخص طرد الرهبان أو تعيين وعزل المسئولين الإداريين والماليين، مخالفًا بصورة ممنهجة اللوائح الأساسية لعمل دير سيناء.
ثالثًا: استقدم منذ سنوات إلى شقته الخاصة فى أثينا امرأة غريبة، تدعى «إيكاترينى» سبيروبولو، فى مخالفة صريحة لقانون من قوانين المجامع المسكونية ينص بوضوح على العزل فى حال انتهاكه القانون، وكان يظهر معها علنًا فى الدير خلال زياراته القصيرة، ويقيم معها فى الشقة نفسها، وترافقه دائمًا فى جميع مقابلاته العلنية، بل وتدخلت بشكل مستمر فى شئون إدارة الدير وأموره المالية، وقد تناولت هذه المسألة الفاضحة للغاية مذكرة سرية لوزارة الخارجية اليونانية ظهرت مؤخرًا إلى العلن.
رابعًا: ارتكب بشكل متواصل سلسلة من الاختلاسات المالية، فعلى سبيل المثال فى سنة ٢٠٢٤ حصل بمفرده من العائدات الرسمية من المتوخ التابع لدير أثينا والبالغة ٥٣٨.٦٣٨ يورو على ٤٩٠.٧٤١ من الإيجارات و٤٧.٨٩٧ من التبرعات المثبتة بإيصالات، بينما لم يحصل دير القديسة كاترين وبصعوبة- وكأن الآباء يستجدون الإحسان- إلا على ٦٠.٥٥٨ يورو فقط عبارة عن ٥٤.٨٠٠ نقدًا و٥.٧٦٨ كمصاريف للآباء، علما بأن المبالغ المسجلة رسميًا كنفقات شخصية لرئيس الأساقفة بلغت ٦٢.٨٩٣ يورو.
خامسًا: واصل ارتكاب تجاوزات مالية وغير قانونية بحق أملاك الدير، بما فى ذلك بيع ممتلكاته دون إبلاغ الأخوية، ودون موافقة مجمع رهبان الدير، مخالفًا المادتين ٨ و١٤ من اللوائح الأساسية لتنظيم شئون الدير، ومن ذلك مثلًا بيع عقار فى شارع كيفيسياس ١٠٨ بأثينا بمساحة ٦٣ مترًا مربعًا، مقابل ٧٥ ألف يورو، وبيع مخزن أرضى بمساحة ٢٤٥ مترًا مربعًا فى شارع المتحف الأثرى بتسالونيكى مقابل ٤١ ألف يورو.
سادسًا: أبرم من تلقاء نفسه اتفاقيات ضارة بالتناول عن حقوق الدير الفكرية ونقلها من دون أى استشارة أو موافقة من الأخوية. مثال ذلك اتفاقية رقمنة مجموعة كبيرة من مخطوطات الدير والتنازل عن الحقوق الفكرية المتعلقة بها لجامعة كاليفورنيا فى لوس أنجلوس، حيث كان ابن إيكاترينى سبيروبولو المدعو «دميانوس كاسوتاكيس» من الشخصيات الأساسية للشركة المتعهدة بالمشروع، وعندما تجرأ مجمع الآباء على إبداء اعتراضه عزل رئيس الأساقفة بشكل تعسفى واستبدادى ودون مبرر مسئول المالية وأحد أعضاء مجمع الشورى الأب «سيميئون باتيراكيس» وبرر ذلك بقوله إنه شخص منعدم الكفاءة، وكان من نتيجة ما حدث أن تم اعتقال الابن الثانى لإيكاترينى فى مطار القاهرة متهمًا باختلاس مواد رقمية تعود إلى الملكية الفكرية للدير، وكان يعمل فى مشروع مشابه.

سابعًا: تواطأ بشتى الطرق مع مسئولين حكوميين فى أثينا لتمرير قانون يخص شخصية اعتبارية عامة باسم الدير فى اليونان من دون أى علم أو موافقة من الأخوية، بل تضمن القانون المنشور فى الجريدة الرسمية نظامًا داخليًا جديدًا للدير، مغايرًا للوائح الأساسية النافذة، ومن دون علم أو موافقة الأخوية، فصار يظهر كقانون للدولة اليونانية، ما يشكل خيانة عظمى من رئيس الأساقفة تجاه الدير.
يقول آباء الدير فى نهاية بيان عزل رئيس الأساقفة: بما إن كل هذه التجاوزات والإهمال من رئيس أساقفة سيناء تعد أسبابًا جوهرية للخلع حسب اللوائح الأساسية النافذة لدير سيناء التى كان داميانوس نفسه هو من صاغها ورفعها إلى الأخوية لإقرارها عندما كان أرشمندريتًا وسكرتيرًا للدير فى العام ١٩٧١- لذلك أقدمت الأخوية السينائية بصفتها الهيئة المخولة حسب قوانين الدير على عزله، ملتزمة بدقة شديدة بالإجراءات القانونية المنصوص عليها فى اللائحة الأساسية لقوانين الدير، ومبينة تفصيلًا الضرورة المطلقة والملحة لهذا العزل فى المذكرة المرفوعة إلى بطريرك أورشليم.
وأضاف آباء الأخوية إلى هذه الأسباب التى تستوجب عزل رئيس الأساقفة أنه مع إيكاترينى المرأة التى معه، وبرفقة راهبين ومجموعة من البلطجية المأجورين- اقتحموا مساء ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ الدير عنوة، وطردوا الآباء السيناويين بالقوة، واستقروا فيه، فألغوا بذلك الشرعية النظامية والكنسية فى سيناء.
وقّع على هذا البيان عن الأخوية السينائية مجمع الشورى المقدس، وكيل الدير الأرشمندريت نيفون، وأمين خزانة الدير الراهب إيسيخيوس، والأجلوم مسئول المالية الراهب صوفرونيوس.
لم يفعل آباء دير سانت كاترين ما فعلوه عفو الخاطر، أو نزولًا على هوى شخصى لديهم، أو بسبب كيد تجاه رئيس الأساقفة، أو مدفوعين إلى ذلك دفعًا، فقد كانت لديهم أسبابهم القانونية.
فبعد انتخاب رئيس الأساقفة داميانوس نفسه فى ٢٧ نوفمبر ١٩٧٣، تم إعداد اتفاقية بتاريخ ٣٠ نوفمبر ١٩٧٣ بين رئيس الأساقفة المنتخب والأخوية، وبموجبها تولى رئيس الأساقفة ووقّع باليد على التزامات محددة، يمكن أن نستعيدها على النحو التالى:
أولًا: الحفاظ على نظام الشركة فى الدير وعلى التقاليد والعادات القديمة.

ثانيًا: لضمان الإدارة الآمنة والحكم السليم وحماية المصالح المادية والمعنوية للدير، يتعين عليه الإقامة سنويًا فى الدير لمدة لا تقل عن ثمانية أشهر، وفى الفترة المتبقية يتصرف وفق ما تتطلبه مصالح الدير.
ثالثًا: عدم القيام برحلات خارج الدير دون الحصول على موافقة خطية من مجمع الشورى لآباء الدير، وإذا اقتضت الضرورة أن يسافر خارجًا لأجل مصالح الدير، يجب أن يتم ذلك بموافقة مسبقة وخطية من مجمع الشورى الذى يحدد أيضًا مدة الإقامة الخارجية والنفقات المطلوبة.
رابعًا: عدم القيام بأى عمل ولو كان لا يذكر دون استشارة المجمع المقدس لآباء الدير، ومن ثم التشاور معه بشأن كل قضية تتعلق بالدير واتخاذ القرار بشأن ما يجب فعله.
خامسًا: عدم تقديم أى التزام أو وعد إلى السلطات الكنسية أو المدنية، أو حتى لأفراد كتابة أو شفويًا بخصوص مسائل تخص الدير دون معرفة وموافقة المجمع المقدس لآباء الدير، والتى يجب أن تكون مكتوبة فى محضر، وكل خطوة يقوم بها رئيس الأساقفة أو أى وعد يعطى باسم الدير لأى سلطة أو شخص دون معرفة وموافقة المجمع، يعتبر لاغيًا، وأى ضرر مادى أو معنوى ينشأ عن ذلك يقع على عاتق رئيس الدير الذى تصرف بشكل منفرد وإرادى.
سادسًا: عدم إرسال أى رسالة أو مستند يتعلقان بالدير ما لم تتم الموافقة عليهما مسبقًا وتوقيعهما فى الدير من قبل المجمع المقدس لآباء الدير، وفى القاهرة من قبل الوكلاء المعنيين هناك، ويعتبر أى انتهاك لهذا الشرط اعتداءً جسيمًا على المجمع المقدس لآباء الدير.

سابعًا: عدم تعيين أى شخص ككاهن أو منح أى منصب كنسى دون موافقة المجمع المقدس لآباء الدير.
ثامنًا: عدم إدارة أى من الموارد المالية للدير أبدًا، سواء بمحض إرادته أو بناءً على اقتراح من أى عضو من الأخوية، وإذا حاول القيام بأى إدارة مالية من هذا النوع، فإن الأخوية تعتبره مطرودًا من منصبه كرئيس للدير.
ولما كان رئيس الأساقفة قد خالف كل ما تم الاتفاق عليه وبالدليل الكامل على ذلك، فقد قررت الأخوية السينائية عزله.
ومن المخالفات الجسيمة التى رصدتها الأخوية على رئيس الأساقفة المعزول أنه رفض مرارًا وتكرارًا الاعتراض الصريح الذى أرسلته الأخوية لاحقًا فى رسالتها المؤرخة فى ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ إلى وزيرة التربية والتعليم والشئون الدينية، ومن خلال إنذارها القانونى المرسل بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠٢٥ بواسطة مأمور قضائى الذى تم توثيقه رسميًا، حيث قام رئيس الأساقفة، بالتعاون مع الحكومة اليونانية، بدفع مشروع قانون مثير للجدل بشكل كبير بشأن الوضع القانونى لدير القديسة كاترينا فى اليونان، وبمساعدته ودعمه وحضوره الشخصى فى البرلمان، تم التصويت على هذا المشروع فى ١ أغسطس ٢٠٢٥ بالأغلبية.
ويشير آباء الأخوية إلى هذا القانون المنشور فى الجريدة الرسمية اليونانية بتاريخ ٥ أغسطس ٢٠٢٥، برقم ٥٢٢٤/ ٢٠٢٥ ويكشف عن تجاوز غير متوقع ومأساوى وغير معقول وغير مسبوق وخيانة جسيمة من قبل صاحب السيادة.
ويزيد آباء الأخوية الأمر إيضاحًا بقولهم: من دون أن يكون لرئيس الأساقفة المعزول الحق القانونى الأدنى، أدرج فى القانون الجديد تنظيمًا أساسيًا جديدًا لتشغيل الدير، وهو تجاوز لم يخطر ببال أحد ولم يحاول أى شخص القيام به، ويعد خيانة قصوى للدير وللأخوية، وبالرغم من أن أعلى سلطة فى الدير، أى مجمع الدير، الذى تقع تحت إدارته أصول الممتلكات، والذى كان ملزمًا المطران بالاتفاق معه، قد رفض رسميًا وبشكل صارم فى اللحظة الأخيرة التصويت على المشروع المذكور- فإن المطران أقدم على كل ما سبق، منتهكًا التزاماته وتعهداته، وبالأخص تلك الناشئة عن المادتين ٨ و١٤ من القوانين الأساسية للدير.
هذا الخلاف الذى يمكن أن نعتبره داخليًا وصل الآن إلى النيابة المصرية لتحقق فيه، وهو تحقيق محمول على اتهامات محددة توجهها أخوية دير سانت كاترين لكبير الأساقفة المخلوع على النحو التالى:
أولًا: استغلال النفوذ، حيث يتهم رئيس الأساقفة السابق بسوء استغلال الصلاحيات التى منحته إياها الدولة المصرية بموجب المرسوم الرئاسى رقم ٣٠٦ لسنة ١٩٧٨.
ثانيًا: انتهاك حرمة مكان مقدس، حيث توجه له تهمة الاعتداء على موقع دينى مقدس، يخضع لحماية وزارة السياحة والآثار، ويصنف كموقع تراث عالمى من قبل منظمة اليونسكو.

ثالثًا: إغلاق الدير، حيث يواجه اتهامًا بإغلاق الدير أمام الزوار والسياح دون الحصول على تصريح رسمى من الدولة، فى مخالفة صريحة للوائح المنظمة.
رابعًا: تضليل السلطات حيث يقال إنه ضلل الدولة المصرية بادعائه أن حياته مهددة، فى حين أن تصرفاته تثبت عكس ذلك تمامًا.
خامسًا: إثارة الفتن، حيث يتهم بإثارة الفوضى والفضائح فى منطقة جنوب سيناء.
سادسًا: الاستقواء بالسلطة، بما أنه استخدم سلطته لطرد الرهبان من مصر، وهو أمر لا يملكه بأى حال من الأحوال.
سابعًا: مخالفة الدستور، ففى انتهاك صارخ للدستور المصرى، يقال إنه يعيش مع امرأة داخل الدير رغم أنه غير متزوج.
ثامنًا: التصريحات غير المصرح بها، حيث يتهم باستغلال مكتبه داخل الدير لإصدار بيانات وتصريحات دون موافقة الدولة المصرية.

تاسعًا: تأزيم العلاقات، حيث ينظر إلى أفعاله على أنها تسبب توترًا وأزمة دبلوماسية بين مصر وجمهورية اليونان.
حاول رئيس الأساقفة الذى عزلته أخوية الدير أن يلتف على هذه الاتهامات، ويشير إلى أن ما يرددونه عنه مجرد شائعات وأخبار كاذبة، وأنه بدوره سيقاضيهم.
فى النهاية يظل الحدث كله أمام النيابة العامة التى تحقق.. ومن المنتظر أن تصدر قرارها فى الأمر قريبًا.