الجمعة 19 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ضجيج بلا حجيج.. المثقفون العرب.. حضور باهت فى مشهد صاخب

حرف

- يظل المثقفون الذين يجب أن يقفوا فى مقدمة صفوف الوعى هم المسئولون عما نعانيه

ما الذى حدث للمثقفين العرب؟ 

هل هذا السؤال دقيق؟ وهل يعبر عن الواقع؟ 

أم أننا يمكن أن ننسجه بصيغة أخرى، فيصبح: هل لدينا مثقفون عرب؟ 

يمكن أن تكون هذه الصيغة صعبة وقاسية، أعرف ذلك بالطبع، لكننى أعتقد أنها الأكثر دقة وتعبيرًا عن واقع صاخب، سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا، لا يتجلى فيه المثقفون العرب- هذا إذا ظهروا من الأساس- إلا بحضور باهت. 

المزعج بالنسبة لى أننا نواجه غيابًا كبيرًا للمثقفين الذين ينحازون إلى السلطة، يتكلمون بلسانها، وينظرون لمشروعاتها، ويفسرون قراراتها، ويمكنون لفلسفتها من خلال كتاباتهم، بنفس القدر الذى نواجه به غياب المثقفين الذين يعارضون السلطة ويقفون ضدها، ويتصدون لمشروعاتها، ويكشفون نقاط الضعف فيها. 

هل رأيتم مهزلة أكبر مما أتحدث عنه؟ 

إننا نعانى من حالة جدب ثقافية؟ 

وحتى تتأكدوا من ذلك، يمكن لكم بسهولة أن تحاولوا مطالعة الخطاب الثقافى العربى فى السنوات الأخيرة، ستجدونه هزيلًا هزليًا، تافهًا تهافتًا، منسحبًا ومنسحقًا، لا يتناسب أبدًا مع خطورة الأوضاع على الأرض، بل لا يقترب حتى من فهمها، فهل ننتظر بعد ذلك أن نجد من يصنع وعيًا عامًا بما يحيط بنا من أحداث، وما يترصد له بنا الآخرون؟ 

يمكننى أن أتوقف قليلًا عند الحالة المصرية، ربما لأنها الحالة الأكثر زخمًا من حالات عربية أخرى، وربما لأن مصر هى الوحيدة التى نجت مما كان يخطط له من وراء ما يعرف بثورات الربيع العربى.. التى لم تكن أبدًا ثورات.. ولم يكن أبدًا ربيعًا.. ولم يكن كذلك أبدًا عربيًا. 

مرت مصر بثورتين، تغير النظام فيها مرتين، عبرنا الطريق من أقصاه إلى أقصاه وسط أمواج متلاطمة من الفوضى والانفلات والإرهاب والمؤامرات، وعندما أدركنا أن الوطن يضيع، هب الشعب كله هبة واحدة ضد جماعة متطرفة إرهابية عبثية فاسدة كاذبة متصنعة متاجرة بدين الله، طردناها من ديارنا، وأغلقنا خلفها أبوابنا، ونحن نعرف أنها لن تكف عن محاولات الطرق على هذه الأبواب وتحطيمها من أجل العودة مرة أخرى لما كانت عليه.. وهو ما حدث ولا يزال. 

كلنا أدركنا أن المواجهة لا تحتاج فقط إلى قوة صلبة، ولكن لابد من منظومة فكرية متكاملة، نسق ثقافى متناغم يقف فى وجه أصحاب الدعوات التخريبية، فلسفة حاكمة تضع ما يجب أن نفعله فى إطاره الصحيح، منهجية واضحة تنظم للناس تفكيرهم وتدلهم على الطريق. 

كان من السهل على مثقفى مصر أن يبادروا للعمل على ذلك، لكنهم اختاروا أكثر من طريق، ولم يكن الطريق الصحيح من بينهم إلا قليلًا. 

تفرقت السبل بالمثقفين المصريين. 

وحتى لا تتوه منا الفكرة، فلا بد أن نحدد من نقصد بهؤلاء المثقفين. 

إننى لا أتحدث عن المسئولين الثقافيين، وهم بالمناسبة كثيرون، تولوا رئاسة المؤسسات والهيئات الثقافية، فهؤلاء حاولوا قدر استطاعتهم، وكانت هناك ولا تزال أخطاء فى اختيارهم، فقد تولى أمورنا الثقافية من لا علاقة لهم بالعمل الثقافى، مجرد موظفين يؤدون عملًا وينتظرون رواتبهم آخر كل شهر، ولا يمكن أن نعول على أحد منهم، لأن الثقافة والفكر لا يتناغمان أبدًا مع الموظفين، ثم أنهم استسلموا لقلة الإمكانات المتاحة لهم، ولو جربنا وحاولنا تقييم المسئولين الثقافيين فى مصر خلال السنوات الماضية، فلن تكون النتيجة مرضية لهم ولا لنا ولا لأى أحد. 

ولذلك لا يشغلنى هؤلاء فى كثير أو قليل، رغم أن أثرهم كان مدمرًا فى نواحٍ كثيرة، ولكننى أتوقف عند النخبة المثقفة من أساتذة الجامعات والكتاب والمفكرين والفلاسفة والنقاد والأدباء من الروائيين والشعراء وكتاب الدراما ومؤلفى الموسيقى. 

من الخطأ أن نعمم، فالتعميم ضد المنطق والعقل والمنهج أيضًا، لكن من قاموا بدورهم قلة حاولت أن تترك أثرًا، لكن الكثرة الغالبة تاهت تمامًا فى المشوار الطويل الذى كان يجب أن نقطعه معًا، وتفرقوا على مفارق الطرق. 

اختار كثيرون الصمت، وكأن الأمر لا يعنيهم، جلسوا فى مقاعد المتفرجين، واحتلوها برضا كامل، وكأنهم يعيشون فى كوكب آخر، لم نسمع لهم صوتًا، ولم نقرأ لهم كلمة، ولم تخرج منهم فكرة، ارتضوا بالمراقبة فى انتظار ما تسفر عنه المعارك الدائرة دون أن يتورطوا فيها، خافوا أن ينحازوا إلى جانب بعينه، فقد ينتصر الجانب الآخر. 

وكأنى بهم كانوا ينتظرون من سيفوز فى معركة كانت مصيرية بكل المقاييس، وساعتها يعلنون عن أنهم كانوا معه، فيفوزون بغنائم معركة لم يشاركوا فيها. 

واختار البعض موقف المناوئة، وهؤلاء صدّروا أنفسهم أنهم معارضة لا تقبل أى شىء مما تقوم به السلطة، سفّهوا ما فعلت، وسخروا مما أنتجت، وجلسوا خلف شاشات أجهزة الكمبيوتر وتليفوناتهم المحمولة، يكتبون مقالات ويدونون بوستات وتغريدات، ويعيدون نشر كل ما من شأنه أن يعكر الصفو العام، ورغم أن هذا أوقعهم تحت طائلة القانون، لكنهم واصلوا ما يقومون به بإصرار، رغم أن معطيات الواقع كانت ضد ما فعلوه، لكنهم اعتبروا أن ما يفعلونه بطولة، فاستكملوا طريقهم، وإذا اعترضت طريقهم، ولو بكلمة، صرخوا باسم الحرية أنهم ممنوعون ومحجوبون ولا يتمكنون من كتابة أو نشر آرائهم. 

ولأن هذا هو حالهم، فقد اختفت الأفكار الكبيرة، لا يمكنك أن تعثر بسهولة على مقال فيه فكرة، ولا تمسك بكتاب فيه رؤية، ولا تسمع لمتحدث يشتبك مع الواقع يحلله ويفسره ويقدم بين يديه ما يمكننا اعتباره حلًا، أو خارطة طريق يمكن أن يسير على هداها الناس. 

الغريب فى أمر هؤلاء، ورغم أنهم كتاب ومفكرون كبار، فإنهم تماهوا تمامًا مع الخطاب المعادى للدولة المصرية، فجلسوا يرددون ما يقوله الخصوم، ويعيدون إنتاجه بأشكال وصور أخرى، غير مدركين أنهم يشكلون خصمًا من رصيد حركة الفكر المصرى الذى يجب أن يكون حيًا ويقظًا ومقاومًا لكل ما يراد لنا وبنا، وبدأوا يهيلون التراب على كل ما تقوم به الدولة المصرية وكأنها دولة خصم لهم، يناصبونها العداء، ويتمنون لها الفشل، فقط ليثبتوا أنهم كانوا على صواب. 

الأسف هو الإحساس المسيطر على هذه الفئة التى كان من المفروض أن تكون قيمة مضافة للدولة المصرية، فإذا بها تصبح معول هدم، وهذه هى الحقيقة التى يتهرب منها الجميع، ولا يريدون مواجهتها بصراحة ووضوح وشجاعة، ربما خوفًا من الاتهام بالعداء لحرية الرأى والتعبير، رغم أنهم يتمكنون من نشر آرائهم ومقالاتهم وأفكارهم عبر منصات عديدة، دون أن يعترض طريقهم أحد. 

هناك إشكالية كبيرة لم يحاول أحد أن يفككها، وهى أن الناس يشعرون بالإحباط، لا يصلهم ما تقوم به الدولة من إصلاحات، وهنا لا أتحدث عن الاقتصاد فقط، ولكن عن إصلاحات فى مناحى حياتنا المختلفة، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، يستسهل المجتمع كله توصيف المشكلة بأن الإعلام غير قادر على أن يفعل ذلك. 

ولو تعاملنا بإنصاف، سنجد أن الإعلام يبذل جهدًا خارقًا للقيام بما يجب عليه، وينسى من يتهمون الإعلام بكل نقيصة أنه فى النهاية ليس منشأ لا للأحداث ولا للأخبار ولا للأفكار، ولكنه فى الأساس أداة توصيل لكل ذلك. 

لكن إذا افتقد الأحداث فهو إعلام فقير. 

وإذا افتقد الأخبار فهو إعلام باهت خالى الوفاض. 

وإذا افتقد الأفكار فهو إعلام سطحى. 

الإعلام مرآة لنا، ولن يكون قادرًا على تجميل صورة ليست جميلة من الأساس. 

المشكلة بعيدًا عن الأزمات التى يعانى منها المجتمع والتى قد تكون سببًا واضحًا فى عدم شعور الناس بتحسن، فإن هناك ما قامت به النخبة المثقفة وكان سببًا فى أن تصبح الصورة غائمة، فبما يكتبونه ويقولونه وينشرونه يقومون بأكبر عملية تشويه لما يحدث على الأرض، ويمعنون فى الشوشرة عليه، وهو ما كان سببًا فى ضياع ما يحدث وطمس ملامحه ومعالمه، فتاه الناس، ولم يصبحوا على قناعة أو يقين بأهمية ما يحدث. 

هل أقول لكم شيئًا غريبًا؟ 

لقد خرجت الأفكار الكبرى فى هذا العصر من السلطة، تحدث بها الرئيس السيسى فى أكثر من لقاء وأكثر من خطاب، وكان يجب على الأقل أن تلتقط النخبة المثقفة هذه الأفكار للعمل عليها، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. 

تريدون مثالًا على ذلك، أعرف أنكم تنتظرون على الأقل حتى يكون هناك دليل على ما أقوله، ولا يكون مجرد كلام إنشائى فارغ. 

هل تذكرون فكرة تجديد الخطاب الدينى التى أطلقها الرئيس؟ 

لو قمنا بحصر كم مرة أعاد الرئيس السيسى الفكرة خلال السنوات الماضية بداية من العام ٢٠١٤، سنجده تحدث فيها ما يزيد على ثلاثين مرة فى مناسبات مختلفة، تحدث الرئيس عن هذه القضية بجدية، طرح أفكاره، فعل ذلك وسط تجمعات علماء ومثقفين، وقال إننا فى حاجة ملحة إليها، على الأقل حتى نعبر بشبابنا بعيدًا عن مرافئ الجماعات المتطرفة. 

ما الذى حدث فى هذه الفكرة بعد كل هذه السنوات؟ 

وجدنا كتابات وكتبًا ودراسات ومؤتمرات وندوات ونقاشات وحوارات، لكن لم يسفر كل ذلك عن شىء، نقف محلك سر، لأن أحدًا لم يقدم أفكارًا تجعل هذه القضية محل اهتمام الناس، خضنا فى جدل بلا طائل، كل جهة تحاول احتكار الخطاب الدينى، وكل فريق يسفه ما يفعله الفريق الآخر، والنتيجة صفر كبير، فلم نحصد من هذا الصخب شيئًا. 

لو أردتم أن أضرب لكم عشرات الأمثلة على ذلك أفعل بلا تردد، لكننى سأترك لكم المساحة كاملة لتفكروا أنتم فيما جرى، وكل مرة لا بد أن تسألوا: أين كان المثقفون المصريون؟ وماذا فعلوا؟ وماذا كان إسهامهم على وجه الدقة؟.. وفى كل مرة ستكتشفون أن الإجابة هى لا شىء. 

لا يختلف الأمر كثيرًا فى كل الدول العربية عن مصر، وهو الأمر المؤسف بدرجة كبيرة، فعندما تسأل عنهم فى سوريا وليبيا واليمن وتونس والعراق ولبنان، فلن تجد لهم أثرًا يذكر، والمخجل أن الأمر يتكرر حتى فى الدول العربية المستقرة التى لم تدخل مطحنة الاضطرابات، وهو ما يجعلك تسأل عن السبب فى تراجع النخبة العربية المثقفة كل هذا التراجع؟ 

يحلو للنخب العربية المثقفة أن تضع السلطة خصمًا لها، تعتبرها تقف حائلًا بينها وبين ما يمكنها أن تقوله أو تسهم به فى المجال العام، وهى حجة ليست منطقية ولا مقبولة، لسبب بسيط أن السلطة طول عمرها تفعل ما تفعله، تتحرك بنفس القناعات، وتسلك نفس الطرق، وتتعامل بنفس الأساليب، وتقول نفس الخطاب الذى لم تغيره أبدًا، فأهداف السلطة معروفة لا يمكن لأحد أن يخطئها أو يتوه عنها، لكن فى كل عصر كان المثقفون قادرين على أن يعبروا خيط السلطة السميك ليقدموا رؤاهم وأفكارهم التى كانت فى النهاية تصب فى صالح المجتمع. 

لو كان لديك وقت حاول أن تطالع المجلات الثقافية التى تصدر فى الدول العربية جميعها، تصفح ولو بشكل عابر صفحات الرأى التى لا تزال تنشرها الصحف، ولو تبقى لديك وقت اقرأ بعضًا من المقالات التى تنشرها المواقع الإلكترونية، وفى أوقات فراغك تصفح شبكات التواصل الاجتماعى وتعرّف على الأفكار المطروحة عليها، وفى الليالى الطويلة اجلس أمام الفضائيات لتسمع ما يقوله الضيوف من الكتاب والمفكرين والسياسيين.. لن أقول لك ما الذى ستجده، ولكن احكم أنت بنفسك. 

إننى لا أدين أحدًا، ولا أسعى لذلك، لكننى فقط أحاول تقديم إضاءة على واقع معتم شاركنا فيه جميعًا، كل منا فعل ذلك بنصيب وافر، لكن يظل المثقفون الذين يجب أن يقفوا فى مقدمة صفوف الوعى هم المسئولين عما نعانيه، لأنهم تخلوا عن أدوارهم التى يجب أن يقوموا بها، واكتفوا بالضجيج الذى لا ينقطع.. حتى تحول واقعنا أقرب إلى ما كان يقوله أجدادنا العرب وهو أننا نعيش ضجيجًا لكن بلا حجيج.