الإثنين 15 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

معارك الشيخ والفيلسوف.. زكى نجيب محمود يواجه الشعراوى

زكى نجيب محمود والشعراوى
زكى نجيب محمود والشعراوى

- عندما نعود إلى أرشيف العلاقة بين الشيخ والفيلسوف نجد أن هناك ثلاث مواجهات جرت بينهما منذ ثمانينيات القرن العشرين

- المواجهة الأولى كان العمود الفقرى فيها هو الذبابة وجرت أحداثها فى العام 1977 وكان الشيخ الشعراوى لا يزال وزيرًا للأوقاف

- كان أشد ما أعجب زكى فى الشعراوى كما يقول منهاجه فى شرح وتفسير الآيات القرآنية بطريقة فريدة

- الشعراوى أشاد بزكى نجيب محمود وما يقوله أو يكتبه عنه لأنه هيأ له الفرصة ليشرح فكرة قد تكون غامضة

- فى المواجهة الثانية لم يكن الشعراوى ودودًا مع زكى نجيب محمود بل كان حادًا وغاضبًا

- يقول زكى عما ربط بينه وبين الشيخ: مضت بنا الأيام يتكلم كل منا لغة «فيما يبدو» غير التى يتكلم بها الآخر

بعد 12 يومًا من وفاة الفيلسوف الكبير زكى نجيب محمود، وتحديدًا فى 20 سبتمبر 1993 نشرت مجلة «روزاليوسف» ما وصفته بأنه «شهادة زكى نجيب محمود الأخيرة». 

الشهادة التى قصدتها «روزاليوسف» كانت عبارة عن حوار قصير أجراه محررها محمد حسين مع الدكتور زكى فى منزله قبل أيام من وفاته. 

فى تقديمه للشهادة قال محمد حسين: ربما يكون هذا الحوار هو آخر شهادة أدلى بها مفكرنا الراحل زكى نجيب محمود، فقد تم تسجيله فى منزله منذ شهر واحد فقط، وفى وقت كان يرفض فيه تمامًا الإدلاء بأحاديث صحفية أو إذاعية لعدة أسباب من بينها ظروفه الصحية. 

تحدث زكى فى موضوعات متعددة من بينها ترجمة القرآن وعلاقة المستشرقين بالثقافة العربية، لكننى توقفت عند ما قاله عن موقفه من بعض علماء المسملين وعلى رأسهم الشيخ محمد متولى الشعراوى. 

سأله محمد حسين: ما هى المؤشرات التى تعتمد عليها فى تحديد موقفك من بعض العلماء المسلمين؟ 

قال: أقرب مثل يجول بخاطرى هو كتاب أصدرته الجامعة العربية يحمل مجموعة آراء لرموز وأعلام مسلمين وكلها خاصة بالقرآن للرد على ما يقوله المستشرقون، وقد أسعدنى ذلك كثيرًا فاتجهت وكلى إقبال لأسمع علماء المسلمين بماذا يردون وكيف؟ لا لأتبين فرق العقلية ولكن لأستفيد أنا من هذه الردود فأسقط فى يدى. 

كانت صدمة زكى كبيرة بسبب ما قرأه فى هذا الكتاب. 

يقول: مثلًا حين نسمع رأيهم فى مسألة الوزر أو الخطأ الذى أخطأه الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرته الآيات «ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذى أنقض ظهرك» فلو سألت عن الوزر الذى أنقض ظهره وسبحانه وتعالى أزاحه عنه؟ ترى المعلق المسلم وقد جن جنونه، يقول: لا.. الرسول مطهر ومنزه عن الخطأ والوزر، إنه يقول كلامًا لا يقبله إلا طفل فى الخامسة، رغم أن القرآن تحدث بصراحة، وأتى الخطاب موجهًا إلى الرسول. 

ويضرب مثلًا آخر: انظر رأيهم فى آيات مثل «وسبح باسم ربك واستغفره»، هم يقولون يستغفره، من ماذا؟ أجد المستشرق يمسك هذه الفقرات ويحاول أن يأتى بما يقابلها من حياة الرسول، مما يتناسب مع معانى القرآن، ونجد العالم المسلم يرد وكأن واحدًا قد ذبحه، يقول: كيف يظن هذا المستشرق الملعون أن الرسول أخطأ، بحيث إنه يتوب ويستغفر. 

ويعلق فيلسوفنا على ما قرأه بقوله: هكذا ترانا نخوض دائمًا فى انفعال مجنون مصدره الحرص على الدين شكلًا، وأتذكر عندما كتب توفيق الحكيم «حديث مع الله» وهاجت الدنيا وماجت، وكتب إليه الطيب النجار عن آية «وهمت به وهم بها» وقال إن الأنبياء لا يخطئون، وأن المقصود بـ«همت الأولى» معنى غير «هم» الثانية، كل هذا من أجل أن ينقذ النبى يوسف من مجرد خطأ وقع فيه، إن كل هذا لا شك يفسد عليهم الوقفة العلمية الجادة. 

زكي نجيب محمود 

يخرج الحوار من العام إلى الخاص، من الحديث عن علماء المسلمين إلى الشيخ الشعراوى، وكان السؤال: فى إطار موقفك من فكر بعض العلماء المسلمين حدثت معركة كان الشيخ الشعراوى طرفها الآخر؟ 

 يقول زكى: كنت أتمنى على شيخنا الشعراوى أن يتحرى الأمانة فى أن يسمع أو يقرأ ما كتبته ثم يكون له الرد

يقول زكى: على مدار السنوات الثلاث الماضية كانت الجمعية الفلسفية تدعونى لألقى محاضرة الافتتاح التى ستكون مدار بحث المؤتمر، وكانت مسألة علم الكلام فى عصرنا هى محل المناقشة، وتحدثت فى صراحة ووضوح شديدين عن التجديد فى الفكر الدينى، بمعنى أن علماء الكلام قالوا فكرًا دينيًا خاصًا بمشكلات نشأت لهم، فقلت لهم ليس من الضرورى أن تظل هذه المشكلات هى هى، لأنه قد استحدثت عندنا إشكالات نريد أن نعرف رأى الدين فيها، أو الموضوعات التى يجب على علماء الدين أن يبحثوها بحثًا نزيهًا، بعد ذلك فوجئت بهجمة شرسة من جانب جريدة اللواء الإسلامى. 

تساءل زكى نجيب محمود: ماذا أخذوا على؟ 

ويجيب هو: وجدت أنهم قالوا ما لا أقوله عقلًا ومذهبًا، فأنا لم أزد عن التعرض لموقفنا من الغرب وثقافته، والفجوة بين ثقافتنا وثقافتهم، والتى بلغ عمرها نحو مائتى سنة منذ تلك الصدمة الحضارية بين علماء الأزهر والحملة الفرنسية، هم فى أيديهم العلم ونحن فى أيدينا مجموعة كتب قديمة، وهنا ضربت مثلين لنوع من الحقد على الغرب، وأول هذين المثلين كان خاصًا بوزير أوقاف سابق قدم ورقة عمل للمجالس المتخصصة عن دور المسجد فى تقويم الشباب، وجاء فيها أن هناك ثقافة جديدة وافدة علينا تحتاج أن نحصن شبابنا منها بمزيد من حفظ القرآن لكى يرفضها، وهناك حضارة جديدة من هذا العصر لا تتفق مع إسلام المسلمين. 

وفى الندوة سأل زكى صاحب الورقة الوزير السابق الذى كان هو نفسه الشيخ الشعراوى: هل استطاع هو أن يقاوم ثقافة الغرب؟ فنحن أمام ورق مطبوع على مطبعة من عمل الغرب، وقرأناها على ضوء كهربائى، وأمامنا مكبرات صوت وكل هذا من عمل الغرب وليس من عملنا.. أليس كذلك؟ 

يستكمل فيلسوفنا ما جرى، يقول: ثم جاء المثل الثانى تنويهًا عن الشيخ الشعراوى، وتحدثت عن حقدنا على العالم لأننا عجزة، والعاجز لا بد أن يحقد، وأشرت لدرسه التليفزيونى الشهير حين مد يده فى نوع من السخرية بالعلم الغربى، وقال عن الغرب إنهم فرحون بصعودهم القمر، فما قيمة ذلك؟ ثم أخذ من علبة المنديل الورقية واحدًا وهزه فى الهواء، وقال: هذه أنفع- وكررها مرتين- من الوصول إلى القمر، وهذا غير صحيح، لأنه أول من استفاد فينا من الصعود إلى القمر، لأن إحدى النتائج الفرعية لهذا الصعود هى الأقمار الصناعية، ومن الجائز وهو يلقى هذا الدرس بالذات كان هناك قمر صناعى ينشره فى العالم كله دفعة واحدة، فمن الذى استفاد؟ وهل المنديل الورق ينهض لهذه المهمة؟ 

فى شهادته الأخيرة وجّه زكى نجيب محمود كلامه إلى الشيخ. 

قال: يا شيخ شعراوى أنت تجلس أمام كاميرات التليفزيون فتدخل ملايين البيوت، فاحمد الله الذى أعطى القوة لهؤلاء الغربيين أن يصلوا من العلم للدرجة التى تمكنك من أن تنشر كلامك، وإلا لو كنت جادًا فارفض أن تجلس أمام الكاميرا. 

ويضيف: إننى أذكر أن الناس قد نقلوا له عنى مقولة أن القرآن يجب أن نفهمه بالعقل، فتهكم منى وقال: عقله أم عقلى أم عقل جورباتشوف وبوش؟ بينما أنا لم أقل هذا ولا أقوله، لأن القرآن إيمان، وأنا بح صوتى منذ أكثر من خمسين عامًا فى أن مفتاح التفكير ينحصر فى أن نفرق بين قناتين من الإدراك، هما الإدراك بالفعل، وهذا للعلوم، ثم الإدراك الانطباعى وهذا للفن والدين «ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا»، وهذا هو طريق الإيمان لا يطلب عليه برهانًا، وأنا لا أقول أبدًا إن الإيمان يأتى عن طريق العقل. 

وفيما يشبه البيان الختامى عما ربط بين الشيخ والفيلسوف، يقول زكى: كم كنت أتمنى على شيخنا الشعراوى أن يتحرى الأمانة والإخلاص والصدق فى أن يسمع أو يقرأ ما كتبته، ثم يكون له الرد لكن أن يتهمنى فيما لم أقله، فأنا وغيرى نرفض ذلك تمامًا، بل نرفض موقف علماء الإسلام من الحضارة لأنه موقف عجز يجب أن يخجلوا منه، ولا يدافعوا عنه، وأنا ما دعوت إلى شىء بعنف قدر ما دعوت لضرورة المشاركة فى إنتاج العلم لسد الفجوة بيننا وبين العلم الغربى عن طريق الفكر الدينى الذى يسوى هذه المشكلة حتى لا يضحك الشيخ الشعراوى على الجماهير العريضة. 

جاء فى هذه الشهادة الأخيرة إشارة إلى واحدة من المواجهات التى جمعت بين الشيخ والفيلسوف، وهى المواجهة الثانية بالتحديد، لكن لماذا نستبق الأحداث؟.. فالتاريخ يسجل كل شىء ولا ينسى. 

عندما نعود إلى أرشيف العلاقة بين الشيخ والفيلسوف، نجد أن هناك ثلاث مواجهات جرت بينهما من بدايات ثمانينات القرن العشرين حتى منتصف التسعينيات، وهى مواجهات نكتشف من خلالها كم كان الفيلسوف أكثر جدية فى رغبته فى التجديد، بينما كان الشيخ حريصًا على أن يظل كل شىء على ما هو عليه. 

المواجهة الأولى كان العمود الفقرى فيها هو «الذبابة»، وجرت أحداثها فى العام ١٩٧٧ وكان الشيخ الشعراوى لا يزال وزيرًا للأوقاف، فقد ظل فى هذا المنصب من بدايات العام ١٩٧٦ إلى منتصف العام ١٩٧٧. 

الشعراوي

كان الشيخ الشعراوى يتحدث إلى جريدة الأخبار، وقال إنه إذا سقطت ذبابة فى شراب كاللبن مثلًا، فما على الشارب إلا أن يغمس الذبابة بأجمعها فى الشراب، ثم يمضى فى الشرب، لأن للذبابة جناحًا فيه الأذى، وهو الجناح الذى تسقط به على سطح السائل، وأما جناحها الآخر فمن طبيعته دفع ذلك الأذى، وبهذا التضاد يصبح السائل صالحًا للشرب. 

لم يكتف الشيخ الشعراوى بتفسير الحديث دينيًا، ولكنه أشار إلى أن هناك علماء ألمانًا أقروا هذه الحقيقة، واستشهد باسم العالم الألمانى «بريفلد» من جامعة هامل، الذى قال إنه اكتشف فى عام ١٨٧١ أن الذباب يحمل فى أحد جناحيه نوعًا من الفطريات استخلص منها نوعًا من المضادات الحيوية تقضى على أنواع من البكتيريا الضارة. 

كان كلام الشيخ الشعراوى لافتًا وملفتًا واعتبره البعض مستفزًا. 

تلقت جريدة الأخبار بعض الردود على ما قاله الشيخ، كان من بينها ردًا كتبه أحد أساتذة كلية طب قصر العينى، وقال فيه إن ما قاله الشيخ عن العالم الألمانى «بريفلد» جاء نقلًا عن كتب دينية وليست طبية، وأنه رغم مرور أكثر من قرن على هذا الكلام لا يزال العلماء يحذرون من أمراض متعددة ينقلها الذباب، ولم نسمع أن ألمانيا أو غيرها من الدول الإسلامية أو غير الإسلامية استخلصت نوعًا من المضادات الحيوية من الذباب، ولم يدلل أحد على أن الذباب يحمل مضادات حيوية بعدد الأمراض التى ينقلها، ومعلوم أن لكل مرض المضاد الحيوى الذى يناسبه. 

أصر الشيخ الشعراوى على رأيه، تمسك به، وقال فى رد مقتضب على الجدل الذى أثاره ما قاله: على كل مسلم أن يفهم أن هذا الحديث ورد فى أصح كتاب بعد كتاب الله وهو صحيح البخارى، وكأنه يغلق باب المناقشة تمامًا، ويصادر على كل من يريد أن يعترض أو ينتقد أو يناقش، فما دام الحديث ورد فى صحيح البخارى، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف. 

لم يأخذ زكى نجيب محمود ما قاله الشعراوى مأخذ الحقائق التى يقام لها البرهان 

لكن زكى نجيب محمود لم يستسلم لإغلاق الباب بهذه الطريقة، وكتب فى جريدة الأهرام، متسائلًا: لست أدرى كيف تلقى القراء كلامًا كهذا؟ حتى ولو كانت أسانيده مأخوذة لا من علماء ألمانيا وحدهم، بل من علماء الأرض جميعًا؟ لكن الذى أدريه على وجه اليقين هو وقعه على نفسى، فدع عنك ما أصابنى من غثيان، لأن غثيانى قد لا يهم أحدًا سواى، ولكن ثمة جانبًا من الموقف ينبغى أن يكون موضع اهتمامنا جميعًا، وهو الذوق الحضارى السليم، فإذا ما فرضنا ما لا يجوز فى رأيى فرضه، وهو أن الذباب على نحو ما وصف فضيلة العالم الجليل، وأنا أعلم أنه قول شائع فى عامة الناس، فهل يمكن أن يؤخذ الذباب من حيث هو أجساد مجنحة وكفى، بغض النظر عما ارتبط فى الأذهان من قذارة ونقل للأمراض؟ فإذا كان الذباب فى حياة الناس هو ما هو، فهل يجوز أن يكون غوصه فى طعامنا وشرابنا موضعًا للدفاع؟ ومن الذى يدافع؟ هو فضيلة العالم الجليل، الذى إذا قال أنصت الملايين، وإذا كتب قرأ من لا أعرف عددهم فى بلد تشيع فيه الأمية بمثل ما تشيع عندنا.

لم يأخذ زكى نجيب محمود ما قاله الشيخ الشعراوى مأخذ الحقائق التى يقام لها البرهان، أو الأباطيل التى تهدم بالبرهان، فالموضوع كله- كما وصفه فى مقاله المهم «ويبقى الود ما بقى العتاب» المنشور فى كتابه «قيم من التراث»- لا يستحق هذا الشرف، وهو ما دفعه إلى التصوير الأدبى الغاضب فى سخرية، وكتب مقاله «ذبابة تعقبتها» والذى نشره فى كتابه «مجتمع جديد أو الكارثة». 

تندر زكى فى مقاله على منهج الشيخ الشعراوى من خلال ثلاثة نماذج. 

الأول يقول فيه: نحن الآن فى سنة ١٩٧٧، وتسمع الحوار الآتى يدور بين جماعة هى من طبقاتها الفكرية فى أعلى عليين، وكان الحديث حول مريض يراد أن تجرى له عملية جراحية فى جزء باطنى لم أعلم ما هو:

فلان: دع الجراحة والجراحين جانبًا، وخذ هذا العنوان، فابدأ بصاحبه.

المريض: ومن يكون صاحب العنوان؟

فلان: رجل موهوب فى تحضير الأرواح، لك أن تقول عنه إنه جراح بلا مشارط.

علان: وكيف عرفته؟

فلان: جربته بنفسى فى عملية فى المعدة أو الأمعاء، فلم يصنع سوى أن تحسس بأصابعه ظاهر ثيابى، ثم قال لى: عد إلى بيتك، حاسب على خياطة الجرح إذا استحممت.

علان: وكيف يكون جرحًا وخياطة لجرح وهو لم يمسك مشرطًا، بل لم تخلع أنت شيئًا من ثيابك؟

فلان: هذا ما كان، وعدت إلى دارى، وكشفت عن جسدى فى مكان العلة، فإذا هناك خياطة كالتى يجريها الجراح، وشفيت من مرضى والحمد لله.

المريض: هات لى هذا العنوان.

وأنا أسأل: ماذا كان حوار كهذا ليصبح لو أن هذه الجماعة أو جماعة تماثلها تحدثت فى أمر من هذا القبيل سنة ١٨٧٧، أو تحدثت فيه سنة ١٧٧٧، أو تحدثت سنة صفر، أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟

وفى النموذج الثانى يقول: نحن الآن فى سنة ١٩٧٧، وتقرأ لكاتب- والصحيفة الأدبية تنشر له- يتساءل كيف تعود الشمس إلى الظهور بعد مغيب؟ ثم يقدم حضرته الجواب بأنها فى مخبئها- بعد المغيب- تظل تسجد لله رافعة إليه الدعاء بأن يعيدها إلى الظهور يومًا آخر فتعود، فماذا كان يكتب فى هذا سنة ١٨٧٧؟ ثم ماذا كان يكتب قبل ذلك فى سنة ١٧٧٧؟ أو قبل القبل فى سنة صفر، أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟

أما النموذج الثالث فيقول فيه: نحن الآن فى سنة ١٩٧٧، وتسمع حوارًا جادًا لا يمازجه شىء من مزاح، بين ثلاثة أشخاص فيهم أستاذ جامعى، يناقشون زواج الجن بالأنس ما حدوده، إنهم جميعًا على اتفاق بأن الرجل من الإنس قد يتم زواجه من امرأة جنية، ويؤكد لهم الأستاذ الجامعى أنه مارس هذه الخبرة بنفسه، لكن موضع التساؤل والاختلاف فى الرأى بينهم، هو فى الموقف المعكوس، أى فيما إذا كان الرجل من الجن يمكنه الزواج من امرأة من الإنس، وعلى أى حالة من الحالات، ماذا يكون مصير الأبناء وإلى أى فئة ينتمون؟ فماذا كان مثل هذا الحوار ليكون لو جرى سنة ١٨٧٧، أو سنة صفر وما قبلها بما شئت من سنين؟. 

لم يعلق الشيخ الشعراوى على مقال زكى نجيب محمود، ربما لأنه كان ساخرًا بما يكفى، وربما لأنه لم يتعرض لاسمه ولا تصريح الذبابة فى هذا المقال، لكن الإشارة كانت واضحة. 

بعد هذا الموقف انتبه زكى نجيب محمود إلى الشيخ الشعراوى، ويحكى لنا فى مقال «ويبقى الود ما بقى العتاب» ما جرى. 

أعجب الشيخ الشعراوى زكى نجيب محمود فى أنه رجل معلم بطبعه والصلة بينه وبين تلاميذه تنبض بالحياة

يقول: مضت بى الأيام مرة أخرى، أسمع عن الشيخ ولا أسمع منه، حتى ملأ الدنيا وشغل الناس، فأصبح واجبًا ثقافيًا محتومًا أن ألتمس أحاديثه التليفزيونية فى مواعيدها، فلا أتركها للمصادفات، واستمعت لتلك الأحاديث أربع أو خمسًا متتاليات، وبرغم ما أخذته عليه فى كل مرة، أعجبت به إعجابًا شديدًا. 

أعجب الشيخ الشعراوى زكى نجيب محمود فى أنه رجل معلم بطبعه واستعداده، والصلة بينه وبين تلاميذه تنبض بالحياة نبضًا قويًا، وكلامه يجاوز الآذان لينفذ إلى قلوب السامعين فى مثل اللمح بالبصر، وسواء لدى هؤلاء السامعين أفهمت عقولهم ما قيل أم لم تفهمه، وحسبهم أن فى قلوبهم رجفة الإيمان، بتأثير الأستاذ قولًا وأسلوبًا. 

وكان أشد ما أعجب زكى فى الشعراوى كما يقول: منهاجه فى الشرح والتفسير، فهو يتناول المفردات اللغوية التى تتألف منها الآية الكريمة التى يتولى شرحها وتفسيرها، مفردًا مفردًا، لا يترك منها اسمًا ولا فعلًا ولا حرفًا إلا حلله ووضحه، كما يتناول العلاقات النحوية والبلاغية التى ترتبط تلك المفردات بعضها ببعض، وإذا بهذا التحليل اللغوى نفسه يضىء بمعنى الآية إضاءة لا تدع فيها موضعًا لغموض، فالسامع لحديث الشيخ الشعراوى يضمن لنفسه ضمانًا أكيدًا أن يخرج بمحصول غزير فى الدراسة اللغوية، وهو فوق ذلك قد يزداد إيمانًا على إيمانه الذى بدأ به الاستماع. 

لكن ما الذى أخذه زكى نجيب محمود على الشيخ الشعراوى؟ 

يقول: لحظت فى كل حديث استمعت إليه من الأحاديث الأربعة أو الخمسة نوعًا من العداوة للعلم الحديث، وهو يعبر عن عدائه بصورة لا يبررها صلب حديثه نفسه، أعنى أن من شروحه للآيات الكريمة التى يتولاها لا تزيد وضوحًا بسبب عدائه للعلم. 

يضرب زكى أمثلة على ما يقوله. 

أولًا: بعد أن سخر الشيخ الشعراوى ما شاءت له السخرية من جهود العلم الحديث فى الصعود إلى القمر، والسير على صخوره وترابه، تناول بأصابع يده ورقة من علبة المناديل الورقية كانت موضوعة أمامه، وقال للملايين الذين يسمعونه: إن هذه الورقة أنفع من الصواريخ التى صعدوا بها إلى القمر، والحق أنى عجبت للشيخ يقول كلامًا كهذا، لأن أقل ما يقال فى هذه المناسبة هو أن أحد الفروع التى تفرعت من إعداد تلك الصواريخ ما نسميه اليوم بالأقمار الصناعية، وبعد أن استخدمت تلك الأقمار فى البث التليفزيونى، أصبح ممكنًا أن يذاع برنامج التليفزيون على ثلث الكرة الأرضية دفعة واحدة، بل إنه بشىء من الإجراءات الفنية، قد يذاع على الكرة الأرضية بأسرها، وإذا كان هذا هكذا، فربما كان فضيلة الشيخ الشعراوى وهو يقول لسامعيه إن قطعة الورق التى أمسكها بين أصابعه أنفع من عملية الصعود إلى القمر من أولها إلى آخرها، أقول إنه ربما كان هو وهو يقول ذلك يُعان بأحد الأقمار الصناعية، التى هى إحدى النتائج الفرعية لصواريخ الصعود إلى القمر، فى إذاعة حديثة على العالم الإسلامى كله فى اللحظة عينها، فيكون هو المنتفع بالشىء الذى يستهجنه. 

فى الحديث الثانى استمع زكى نجيب محمود إلى صورة أخرى لكراهية الشيخ الشعراوى للعلم الحديث، إذ كانت إحدى مناطق إيطاليا قد تعرضت للزلازل، وعانت ما عانت، وكان أن أذاع علماؤهم فى الناس احتمال حدوث زلازل أُخرى فى المنطقة الفلانية، فى وقت حدده أولئك العلماء. 

وبعد أن سخر الشيخ الشعراوى من هذا الكلام، قال لسامعيه: إن الحق سبحانه وتعالى، ترك هؤلاء العلماء يجرون أبحاثهم، ويعلنون تنبؤاتهم، حتى إذا ما فرغوا من ذلك، باغتهم بزلازل تقع فى منطقة غير المنطقة التى عينوها، وفى وقت غير الذى حددوه. 

يضيف زكى: كانت الطريقة التى قال بها الأستاذ ما قاله، أكثر دلالةً من معنى القول نفسه، وذلك حين فرقع أصابع يده، وعبرت ملامح وجهه بما يعنى أن الله سبحانه وتعالى كان مع عباده العلماء فى موقف المنتقم؛ لاجترائهم على أن يعلموا، وعلى أن يتنبأوا، وفى الحديث الثالث سمعت، وفى الرابع سمعت، مما أثار حيرتى: أيدفع الشيخ الناس بأحاديثه خطوة إلى الأمام فى درجات الوعى، أم يشدهم إلى الوراء خطوات؟

لم يدخر زكى نجيب محمود هذه الملاحظات لنفسه، بل كان يكتبها فى مقالاته التى ينشرها بجريدة الأهرام، لكنه لم يشر إلى اسمه، كان يستخدم فقط فى الإشارة إليه «العالم الجليل»، وكان دافعه فى ذلك أن نقد الفكرة لا يستدعى بالضرورة ذكر صاحبها، فليست المسألة نزاعًا بين أشخاص، وإنما هى نقد لأفكار وليس لأشخاص. 

فى ١٢ فبراير ١٩٨١ كان الشيخ الشعراوى يتحدث لجريدة الأهرام عن موقفه من العلم الحديث، وكانت أسئلة الحوار جميعها مستمدة مما كتبه زكى فى مقالاته. 

يومها قال الشيخ الشعراوى: أنا لا أعادى العلم، ولكنى أيضًا لا أريد للإنسان غرورًا بقدرته. 

أما المفاجأة فكانت إشادته بزكى نجيب محمود وما يقوله ويكتبه، قال الشيخ: أشكر الله لأخى الدكتور زكى نجيب محمود، إذ هيأ لى فرصةً لأشرح فكرة قد تكون غامضة على بعض الناس، وأنا لا أشك أنه قد قصد ذلك، لأنى أُجله إجلالًا يرتفع به أن يكون قد فهم منى ما فهم، وحسبى أن يكون الدكتور زكى نجيب محمود هو أول من تعرضت له فى التعليق، عما كتب عنى، لأنى أعتز برأيه، وأُحب أن يظل رأيه فى مكان اعتزازى دائمًا، ونفع الله به باحثًا وأستاذًا ومستوضحًا، وهدانى الله إلى ما يحبه لى من بسط الحقائق بسطًا لا يحتاج إلى تعليق. 

فى المواجهة الثانية لم يكن الشيخ الشعراوى ودودًا كل هذا الود مع زكى نجيب محمود، بل كان حادًا وغاضبًا. 

لكن كيف جرت هذه المواجهة؟ 

فى أول يوليو ١٩٩١ عقدت ندوة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، كان من بين حضورها زكى نجيب محمود. 

وفى ٤ يوليو ١٩٩١ نشرت جريدة «اللواء الإسلامى» التى كانت تصدر عن الحزب الوطنى الديمقراطى تقريرًا وصفت فيه من حضروا هذه الندوة بأنهم بعض العلمانيين الذين أخذوا يتحدثون عن الإسلام بجهل من لم يقرأ فى الدين ولم يعرف ما هو الإسلام، ولا قرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه. 

حملت «اللواء الإسلامى» ما دار فى الندوة وما قاله المشاركون فيها إلى الشيخ الشعراوى ليقول رأيه فيه، لكن يبدو أنها لم تكن دقيقة فيما نقلته عن زكى، وهو ما أشار إليه فى شهادته الأخيرة. 

علق الشعراوى على بعض الآراء التى قيلت وقال إن الباقى لا يستحق الرد. 

فى الندوة قال زكى نجيب محمود- كما ادّعت «اللواء الإسلامى»- إن القرآن يجب أن يعرض على العقل قبل الإيمان. 

ورد الشعراوى: أى عقل هذا الذى يعنيه؟ هل هو عقلى أم عقله أم عقل جورباتشوف وأمته الملحدة، أم عقل بوش ورأسماليته، أم عقل رجل الشارع أم عقل الحاكم أم عقل المحكومين، أى عقل هذا الذى يريده أن يكون حكمًا على القرآن، وكل منّا له هوى فى نفسه يحاول أن ينفذه ليحقق مصلحة خاصة، أم أننا سنأتى بمجموعة من الملحدين يعقدون مؤتمرًا ويعرض على عقولهم القرآن؟ 

وأضاف الشيخ: إن هذا الكلام لا منطق له، فلو عرض القرآن على الشيوعيين لقالوا إن القرآن هو الشيوعية، ولو عرض على الرأسماليين لقالوا إنه الرأسمالية، ولو عرض على الفلاسفة الملحدين لقالوا إن القرآن هو الإلحاد، فأى عقل يريد هذا الرجل أن يعرض عليه القرآن، إنه من رحمة الله سبحانه وتعالى أن القرآن هو كلامه، والله سبحانه وتعالى لا هوى له. 

ويقول الدكتور زكى نجيب محمود فى الندوة- كما ادعت عليه اللواء الإسلامى- إنه لا حضارة للإسلام، ولذلك فإننا لا نجد أمامنا إلا حضارة الغرب فنأخذ منها لأنها هى الحضارة الموجودة. 

ويرد الشعراوى على ذلك بقوله: إن المتكلم لم يقرأ شيئًا عن القرآن والسُنة وتاريخ الإسلام، ولو قرأ لعرف أن الإسلام هو أبو الحضارات كلها، وأنه جاء بحضارة فيها إعجاز، وأنه استطاع أن يجعل أمة أمية تسود الدنيا كلها لأكثر من ألف عام. 

وختم الشعراوى كلامه بقوله: كل هذا الكلام الذى تردد فى هذه الندوة ينم عن جهل فاضح بالإسلام، ولذلك فإنه لا يستحق الالتفات إليه، ولا يستحق الرد، لأنهم جاءوا ببديهيات ويريدون مناقشتها، إن كل واحد من هؤلاء يريد أن يرد عليه، حتى يحس أن له قيمة، والحقيقة أنهم جميعًا لا قيمة لهم. 

كان يجب أن يتخلى الشعراوى عن هذه اللهجة بعد أن رد عليه زكى نجيب محمود بما يليق به قبل ذلك، لكنه عاد لإهانته، رغم أن الكلام الذى نقلته «اللواء الإسلامى» لم يكن دقيقًا، فقد كان زكى نجيب محمود فى مرحلة ودع فيها الحديث المطلق عن الأخذ من الغرب وهجر التراث العربى والإسلامى، لكن الشعراوى أصم أذنيه ولم يتحقق مما قيل، وراح يكيل الاتهامات لزكى ومَن كانوا معه. 

يوسف إدريس

وقفت جريدة اللواء الإسلامى فى صف الشيخ الشعراوى، وباستخفاف شديد، نشرت نصًا: اللواء الإسلامى تدعو الدكتور زكى نجيب محمود إلى حوار مفتوح مسجل فى الزمان والمكان اللذين يختارهما، وهى تعلم من الآن أنه سيتهرب من هذا الحوار ولن يواجهنا، فقد سبق أن دعوناه لحوار فقال بالحرف الواحد، إننى مريض ولو غادرت السرير فسأسقط على الأرض من الإعياء، ونحن مستعدون أن نذهب للدكتور زكى نجيب محمود فى بيته. 

 يوسف إدريس وزكى دافعا عن حق الحكيم فى أن يكتب ما يشاء فليس الحديث مع الله أو إلى الله مما يخالف الدين

لم يهتم زكى نجيب محمود بالرد على الشيخ الشعراوى، لم يشتبك معه، ولم يتطرق لنقاط خلافية تدفع الشيخ إلى افتعال معارك فارغة لا قيمة لها، فقد اكتشف تهافت خصمه الفكرى وتراجعه عن استخدام العقل فيما يقول، وكان هذا أكثر ما يزعج من هم فى قيمة وقامة ومكان ومكانة الفيلسوف الكبير، لقد شعر بأن الخلاف يخرج من دائرة النقاش إلى دائرة السباب والتهجم والتكفير. 

المواجهة الثالثة كانت فى العام ١٩٩٣ وقبل شهور قليلة من وفاة زكى نجيب محمود. 

بدأت القصة فى مارس ١٩٨٣ عندما نشر توفيق الحكيم على مدى أربعة أسابيع مقالاته التى وضع لها عنوانًا فى البداية هو «حديث مع الله»، وعندما وجد معارضة شديدة لما كتب جعل العنوان «حديث إلى الله»، ورغم التغيير إلا أن عددًا كبيرًا من الشيوخ ورجال الدين اعتبروا ما فعله الحكيم تجاوزًا وخروجًا على تعاليم الدين الإسلامى وتعديًا على الذات الإلهية. 

بينما كان القراء يتابعون ما يكتبه توفيق الحكيم، وفى ١٧ مارس ١٩٨٣ نشر الشيخ الشعراوى بيانًا فى الصفحة الأولى بجريدة «اللواء الإسلامى»، وضع له عنوانًا واضحًا، وهو «ما يكتبه توفيق الحكيم ضلال وإضلال». 

وجاء البيان نصًا: لقد شاء الله تعالى ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا، إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد كان يتحدث بها همسًا ولا يجرؤ على نشرها، ولقد شاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضع كل خير عمله فى الدنيا، حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيمانى، إننى أطالب كما يتم عقد ندوات فى التليفزيون لمناقشة الذين ينشرون أفكارًا خاطئة عن هذا الدين بأن تعقد ندوة ينقلها التليفزيون المصرى ويحضرها الناس، وأطلب أن يحضر هذه الندوة توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود، وأحضرها أنا وحدى لأكشف هؤلاء الناس للمسلمين فى العالم أجمع وأرد عليهم، ونترك الحكم لجموع المسلمين، كما أكشف وسائل الإعلام التى تقوم بنشر هذا الكلام لهم، وأتحدى أن تعقد مثل هذه الندوة، أنا مستعد لها فى هذه اللحظة، إذا كان هناك ما يسمونه فكرًا لهم، فكل كلامهم خارج هذا الدين وكله مردود عليه، وأنا أريد النقاش علنًا ليعرف كل إنسان قدره، ولا يصبح دين الله نهبًا مباحًا لكل من يريد أن يتعدى على مقدساته ويشوهه أمام الناس، إن ما يقوم به هؤلاء الثلاثة لا يمت إلى الحق بصلة، ولا إلى الفكر الإسلامى الصحيح، وما يكتبونه هو قضية تحمل الضلال والإضلال، وإذا كانت لديهم ذرة حق فليأتوا ولنتناقش أمام الناس جميعًا، وإنى فى انتظارهم. 

كان الخلاف مع توفيق الحكيم، فما الذى جعل الشيخ الشعراوى يزج باسمى يوسف إدريس وزكى نجيب محمود فى المعركة؟، ولماذا طلب أن تكون المناظرة بينه وبينهم الثلاثة؟ 

كان يوسف وزكى قد دافعا عن توفيق الحكيم، وعن حقه فى أن يكتب ما يشاء، فليس الحديث مع الله أو إلى الله مما يخالف الدين فى شىء، ولذلك اعتبرهما الشيخ الشعراوى يقفان فى خندق واحد مع الحكيم. 

لكن أغلب الظن أن الشيخ الشعراوى كان يريد أن يرد على زكى نجيب محمود ويوسف إدريس بأثر رجعى، فقد سبقا وهاجماه وانتقدا خطابه، سنترك يوسف إدريس جانبًا، فله معركة طويلة أخرى مع الشيخ الشعراوى، ونتوقف مع فيلسوفنا زكى نجيب محمود وعند ما كان معه. 

بعد أن كتب الشيخ الشعراوى ما كتبه، خاف توفيق الحكيم على نفسه، خاصة أن هناك ما حدث فى نفس اليوم الذى نشر فيه الشعراوى بيانه. 

عاد الكاتب الكبير إلى بيته مساء ذلك اليوم، فوجد رجلًا يقف عند باب بيته يراقبه، أرسل إليه البواب ليسأله من يكون؟ فقال له إنه مخبر عينته جهات الأمن لحماية الأستاذ بعد ما نشرته اللواء الإسلامى، فشعر الحكيم بالخطر، اتصل بمحاميه صبرى العسكرى ليستشيره فى الأمر، فنصحه باللجوء إلى القضاء، فقدم بلاغًا إلى النائب العام. 

كان نص البلاغ على النحو التالى: مقدم البلاغ حسين توفيق الحكيم الكاتب بجريدة الأهرام، بعد أن علم من بواب العمارة ١٩٠٥ كورنيش النيل أن جهات الأمن قد عينت له حراسة خوفًا على حياته دون طلب منه مما أشعره أن حياته باتت مهددة لأسباب تعرفها جهات الأمن ولا يعرفها هو، بل إن كل ما يعرفه أنه ينشر مقالات فى جريدة الأهرام بعنوان «حديث مع الله أو إلى الله»، كانت محل تقدير كثيرين ومنهم المسئولون عن النشر فى الأهرام، إلى أن طلع الشيخ الشعراوى بتصريح فى مجلة اللواء الإسلامى يقول إن ما كتبه الحكيم ضلال وإضلال، وثار الموقف عند كل من قرأ ومن سمع ومن أشاع أن توفيق الحكيم كافر، وانهالت خطابات الاحتجاج والمقالات واللعنات بالأسلوب الجارح والعدوانى بأسلوب لا يدعو إلى الطمأنينة. 

 طالب الحكيم أيضًا بالتحقيق فيما نسبه إليه الشعراوى من اتهامات وفيما قدمه من آراء خادشة للاعتبار

ما الذى طلبه الحكيم فى بلاغه؟ 

كما يقول هو: كل ما أطلبه من بلاغى هو حمايتى من التهديد بالتحقيق فى هذا الموضوع لإظهار الحقيقة، وهل قد صدر منى حقًا ما يستحق التشهير بدينى، وما حقيقة أنه قد ضل هذا الضلال، خاصة أن الذى أهاج الرأى العام أنه من رجال الدين الموثوق بهم، وأنا لا أوجه اتهامًا إلى أحد لكنى أطلب درء خطر اتهامى بالضلال. 

طالب الحكيم أيضًا باتخاذ الإجراءات القانونية للتحقيق فيما نسبه إليه الشيخ الشعراوى من اتهامات، وفيما قدمه من آراء خادشة للاعتبار، وطالب بالاستشهاد بآراء رجال الدين والفكر المشهود لهم باستقامة الرأى وحرية التفكير وهم كثيرون، على سبيل المثال الشيخ الباقورى والدكتور أحمد شلبى والدكتور أحمد هيكل والدكتور إبراهيم بدران.

لم يفعل زكى نجيب محمود مثلما فعل توفيق الحكيم، لم يذهب إلى النائب العام، لكنه كتب مقالًا مطولًا، هو المقال الذى أشرنا إليه وعنوانه «ويبقى الود ما بقى العتاب»، الذى بعد أن يسرد فيه بعضًا مما جمعه بالشيخ يوجِّه له العتاب، لكن على طريقته. 

يقول زكى عما ربط بينه وبين الشيخ: مضت بنا الأيام، يتكلم كل منا لغة- فيما يبدو- غير التى يتكلم بها الآخر، فما قد رأيته فى أحاديثه من عداء للعلم الحديث، وعداء بالتالى للعصر كله، رآه فضيلته شيئًا آخر، لكن ذلك لا يغير من أمرنا شيئًا، فكلانا يريد للناس خيرًا، كلٌ بطريقته، والقرآن يقول: «قُل كلٌ يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا». 

ويتوقف زكى عند هذه الآية وقفة لها معنى ودلالة، يقول: عند هذه الآية الكريمة أتحول إلى عتاب أوجهه إلى فضيلة الشيخ الشعراوى، كما يعاتب المسلم مسلمًا لهفوة بدرت منه، وبالعتاب يبقى حبل الود ممدودًا بين المخلصين، فقد قالها شاعر، حين قال: ويبقى الود ما بقى العتاب، فالتوجيه الذى يتلقاه المسلم من هذه الآية الكريمة يا فضيلة الأستاذ، هو أن يعمل كل منّا، أو يقول- إن القول ضرب من العمل- وفق ما تمليه عليه ملكاته وقدراته، فلا يحاكى أحد أحدًا لمجرد المحاكاة، بل يعبر عن نفسه هو تعبيرًا أصيلًا صادقًا، والله سبحانه وتعالى وحده هو صاحب الحكم، فيحكم على مختلف السبل التى سلكها الناس أيها أهدى من أيها، فواضح من ذلك يا فضيلة الأستاذ، أنه ليس أنت الذى يقضى فى عباد الله بالضلالة والهدى.

هل كان زكى نجيب محمود يريد أن يقول للشيخ الشعراوى إنه يعلم بالقرآن وأسراره وتفسيره كما يعلم هو، وإنه يمكن أن يفسره للناس كما يفسره هو؟ 

أعتقد أنه أراد لشىء من هذا، لكن الأهم من الرسالة كان الرد الذى وضعه الفيلسوف فى مواجهة بيان الشيخ. 

يقول موجهًا كلامه للشعراوى: لقد فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه من فضيلتكم، إذ فوجئت بمن أنبأنى عن حديث لكم نشرته الصحف، أخذت تضرب فيه ثلاثًا منا باليمين والشمال، ضربًا لم تكن موفقًا فيه، وأنت الإمام الذى يأتم به اليوم ملايين المسلمين، كما يقال لى، وأما الثلاثة الذى استهدفتهم بسهامك، ثم استفزتهم أن ينازلوك أنت وحدك، وأن ينازلوك بثلاثتهم مجتمعين فى حلبة القتال، فهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس والعبد الفقير إلى الله كاتب هذه السطور. 

توفيق الحكيم

ولكى أكتب ما أكون من صحته على أيقن يقين، سأقصر كلماتى على شخصى، تاركًا للزميلين أن يتولياه من الأمر. 

لقد أسلفت القول بأننى لحظت فيما تابعته من أحاديثكم دقة بالغة فى تحليل المفردات اللغوية، حتى لقد خُيل إلىّ أحيانًا أننى أمام محاضر فى فقه اللغة، لا أمام محاضر فى فقه الدين، وعلى هذا الأساس اللغوى الدقيق سيكون نقدى لما هفوت به عنى يا فضيلة الشيخ، جاعلًا ما وجهته إلى الثلاثة مجتمعين موجهًا إلىّ بالضرورة. 

أولًا: وردت هذه العبارة فى حديثكم: إذا كان هناك ما يسمونه فكرًا لهم، فكل كلامهم خارج هذا الدين، وكله مردود عليه. 

وحول هذه العبارة أقول: قف معى قليلًا يا فضيلة الأستاذ عند كلمة «كل» التى ذكرتها مرتين، فلا شك أنك تعنى ما تقول، وأنت الرجل الذى يتعقب مفردات الكلام مفردًا مفردًا، فكم قرأت لىّ يا ترى مما كتبته، ليجوز لك الحكم بأن كل كلامى خارج الدين، وكله مردود عليه؟ إن لى أكثر من أربعين كتابًا وفوقها ما لا أستطيع حصره من مقالات وأحاديث، ولست أزعم أن ما كتبته جدير بشرف أن تقع عليه عيناك، لكن ها أنت قد شرفتنى بالإشارة إلى كل ما نطقت به، وكل ما جرى به قلمى، وأنا أعيد عليك السؤال: كم قرأت لى يا ترى وكم سمعت؟ إذا كنت لم تقرأ كل ما كتبته ولم تسمع كل ما تحدثت به، ألا توافقنى فى هذه الحالة على أنك قد هفوت معى فى الحكم؟ 

ثانيًا: جاء فى عبارتك ما يلى: أنا أريد النقاش علنًا، ليعرف كل إنسان قدره، ولا يصبح دين الله نهبًا مباحًا لكل من يريد أن يتعدى على مقدساته ويشوهه أمام الناس. 

وعن ذلك أقول: مرة أخرى أرجوك يا فضيلة الإمام، أن تقف معى قليلًا أمام كلمة يريد وأنت أعلم عنه أنه لا يستخدم لفظًا إلا وهو يعنيه، فلو أن فضيلتك قد كفاها أن تحكم على ما كتبته بالخطأ فى الدين لهان الخطب، لأن الأمر عندئذ ما كان ليعدو أن يخطئ كاتب وهو لا يدرى أنه أخطأ، وكان يمكن لعالم كفضيلتك أن ينبهه إلى الصواب ويستقيم المعوج، لكنك أضفت الإرادة المتعمدة، وأنا أترك لك أنت محاسبة نفسك ومراجعتها، أواثق أنت أنه قد كان وراء الكلام الذى رأيته فوجدته خاطئًا، إرادة تحركت فى جوفى لتتعمد الخطأ والتعدى على مقدسات الدين؟ وإذا أجبتنى بكلمة نعم فاسمح لى ساعتها أن أطالبك بالدليل، وأما إذا أجبتنى بكلمة لا أفلا تكون فى هذه الحالة قد اتهمت مسلمًا بأبشع ما يتهم به مسلم أخاه المسلم، وعلى غير بينة يستند إليها؟ 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلست أريد أن أتجاهل قولك فى العبارة المذكورة، إنك تريد مناقشة علنية ليعرف كل إنسان قدره، فما هو موضوع المناقشة الذى تقترحه، بحيث لقدر نفسك أن يبرز أمام الناس عملاقًا، ويضؤل الآخرون أقزامًا؟ ومن يا ترى الذى يترك له اختيار الموضوع،؟ أنت أم أنا؟ أغلب ظنى أنك لو تركت لى الاختيار لاستطعت الوقوع على ما تجهله أنت وما أعلمه أنا؟ وكذلك إذا ترك لك الاختيار، حدث عكس هذا، فالله سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بيننا فى المال وفى العلم أيضًا، والله لا يحب كل مختال فخور. 

ثالثًا: جاء فى عبارتك ما يلى: إن ما يقوم به هؤلاء الثلاثة لا يمت إلى الحق بصلة، وما يكتبونه هو قضية تحمل الضلال والإضلال. 

وعن الشق الأول أعيد ما قلته فى «أولًا»، وخلاصته أن فضيلتك لا يجوز لك أن تحكم حكمًا كهذا، إلا إذا كنت قد ألممت بكل ما قمت به، ثم حددت الحق كما تراه، ثم وازنت فلم تجد من ذلك الحق شيئًا فيما قمت به، والأرجح أن فضيلتك لم تتسع لبحث متسع كهذا. 

وأما الشق الثانى فأنا أدعو الله لك عما ورد فيه رحمة وغفرانًا، فلأن يكون فيما كتبته خطأ فكثير على فضيلتكم أن تصفوه بالضلال وأكثر منه أن تصفوه بالتضليل، إن الله غفور رحيم. 

رابعًا: ورد فى حديثكم أنك تريد المناقشة العلنية لأكشف هؤلاء الناس للمسلمين فى العالم أجمع، وأرد عليهم، ونترك الحكم لجميع المسلمين. 

وتعليقى على ذلك هو أنك لو قلت إنك تريد أن تحتكم إلى عقلاء المسلمين لكنت أكثر توفيقًا، أما جميع المسلمين يا فضيلة الإمام فمشغولون اليوم، يقتل بعضهم بعضًا فى حرب الخليج، ويعترك مذهب منهم مع مذهب فى كل أرجاء الإسلام، أإلى هؤلاء تريد أن تحتكم فيما بيننا من اختلاف، وما من مجموعة منهم إلا وتلعب بها خناصر الكفار؟ يا سبحان الله العلى العظيم. 

ويختم زكى رده بقوله: أما بعد يا فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، فإننى أحمل لك التقدير وأُكبر فيك الشجاعة فى إبداء رأيك علانية، ويقينى أنك تريد لسواك أن يكون له مثل ما لك من حق التفكير وحق التعبير، والله يوفقنا جميعًا إلى ما هو أهدى سبيلًا.