الجمعة 03 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

مهمة ثقافية خاصة.. ماذا ننتظر من معرض الكتاب المُقبل؟

افتتاحية العدد الواحد
افتتاحية العدد الواحد والتسعين من حرف

لا أحد يشكك فى قدرات ولا كفاءات أعضاء اللجنة العليا للمعرض ولكنها ليست كافية لتلبية كل المنتظر

منذ تقدم الدكتور أحمد بهى الدين العساسى باستقالته من منصبه كرئيس للهيئة المصرية العامة للكتاب، والذى كان يباشر مسئوليته من خلاله عن معرض القاهرة الدولى للكتاب، وجموع المهتمين بالشأن الثقافى، ليس فى مصر فقط ولكن فى الوطن العربى، ينتظرون من سيخلفه فى مهمته.
وعندما أعلن وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو عن قراره بتعيين الدكتور أحمد مجاهد، الأستاذ المتفرغ بقسم الدراما والنقد المسرحى بكلية الآداب جامعة عين شمس، مديرًا تنفيذيًا لمعرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته السابعة والخمسين- وهناك شعور كبير بالارتياح والاطمئنان على ما ينتظرونه من المعرض المقبل الذى لا تفصلنا عنه سوى شهور قليلة.
الدكتور أحمد مجاهد يدخل الهيئة العامة للكتاب هذه المرة ليس رئيسًا لها، ولكن مديرًا تنفيذيًا للمعرض، وهى مهمة ثقافية وطنية رفيعة المستوى وكبيرة القيمة، وتعبر عن نضج فى الرؤية، وتؤكد أن من وقفوا وراء اتخاذ هذا القرار ودعموه يفطنون وبقدر كبير إلى أهمية المعرض والدور الذى يقوم به، ولذلك اختاروا أن يكون للمعرض مدير تنفيذى، مهمته فقط إدارة المعرض بعيدًا عن أعباء ومهام ومسئوليات رئيس الهيئة الذى كان يتولى رئاسة المعرض إلى جانب أعماله الأخرى.
خبرات الدكتور أحمد مجاهد تؤهله إلى أن يقوم بهذا الدور على أكمل وجه، فإذا وضعنا جانبًا كفاءته العلمية، التى يشهد بها الجميع، كأستاذ جامعى مرموق، فقد تولى عددًا من المناصب الثقافية من بينها رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة والهيئة المصرية العامة للكتاب وصندوق التنمية الثقافية والمجلس القومى لثقافة الطفل.. وهى المناصب التى وضعته فى قلب المشهد الثقافى، يعرف أسرار مكوناته وكواليس إدارته والتحديات التى تواجهه، والعقبات التى يمكن أن تعترض طريقه، وهو ما يجعله صاحب علم وخبرة.
تكليف الدكتور أحمد مجاهد بهذا المنصب، الذى يدخل به معرض الكتاب عهدًا جديدًا، لا يعنى أنه يبدأ من الصفر، بل سيكون مطلوبًا منه أن يبنى على ما قام به سابقوه، الدكتور هيثم الحاج على والدكتور أحمد بهى الدين، وقد ساهم كل منهما فى تطوير الأداء فى المعرض بدور كبير أعتقد أن أحدًا لا يستطيع أن ينكره أو يجحده.
خلال الأيام التى فصلت بين استقالة بهى الدين من الهيئة وتعيين مجاهد مديرًا تنفيذيًا للمعرض، رصدتُ خطابًا عبثيًا إلى درجة كبيرة، حاول أصحابه أن يهيلوا التراب على كل شىء يتعلق بالمعرض وما تم فيه خلال السنوات الماضية، وكنت أعتبر أن أصحاب هذا الخطاب ينطلقون من أرضية مصالح شخصية ورؤى ذاتية ضيقة، وكيد ثقافى ممقوت، ولذلك لم ألتفت إليه كثيرًا، بل لم أعلّق عليه من باب أنه لا يستحق التعليق بالفعل.
كان ما جرى تعبيرًا دقيقًا عن حالة مصرية عتيقة ومتأصلة، فلا أحد يعترف للسابقين بفضل، ولا يقر لهم بجهد، ولا يشكر لهم إضافة، وكأن من أنهى مهمته فعل ذلك لإخفاق وقع فيه، وأن من سيأتى بعده يتولى مهمة إنقاذ من ورطة وقعنا فيها، وهو ما لم يكن حقيقيًا، فمعرض الكتاب، الفعالية الأولى والأهم ثقافيًا فى مصر، لم يكن غريقًا حتى نبحث له عمن ينقذه، أو ينجيه من الغرق والضياع.
لقد أثبت المسئولون الثقافيون الذين تعاقبوا على رئاسة معرض الكتاب أنهم كانوا على قدر المسئولية، وأعتقد أنه فى افتتاح الدورة السابعة والخمسين يجب أن يتم تكريمهم بالشكل اللائق بهم، وسيكون من ترسيخ التقاليد الثقافية الراقية أن يقف الدكتور هيثم الحاج على والدكتور أحمد بهى الدين العساسى إلى جوار الدكتور أحمد مجاهد فى حفل افتتاح المعرض، ليقوم الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافية، بتكريمهما، وشكرهما على ما سبق وقدماه، ليستمر المعرض بهذه القوة والقدرة على التعبير عن قوة مصر الناعمة، وعن تقاليد دولة تحفظ لأبنائها ما أنجزوه.
أعتقد أن هذا المشهد ستكون له قيمته وقدره، ولن ينساه المهتمون بالشأن الثقافى، ليس فى مصر وحدها ولكن فى العالم العربى كله، وأتمنى ألا يتوه هذا الاقتراح فى زحمة الأحداث التى ستتوالى على القائمين على شأن المعرض، وأعرف أنها كثيرة.. كان الله فى عونهم.
إن آفة أى عمل عام فى مصر تكمن فى أن المسئول الجديد يبنى من البداية، لا يلتفت إلى ما أنجزه سابقوه، يعتقد أنه بذلك سينقذ عمله من أى خدش، رغم أن قواعد الحياة تقول إنه لا يمكن أن ينجح عمل من فراغ، ولا يمكن أن يستمر عمل إذا قررنا أن من سبقونا لم ينجزوا شيئًا، ولا يمكن أن يكون لدينا تراكم من أى نوع، إلا إذا كان لدينا أرضية ثابتة نقف عليها.
لا ينفى هذا أن لدى الدكتور أحمد مجاهد عملًا كبيرًا ومتشعبًا، ولا بد أن تكون إضافته هذه المرة ملموسة يشعر بها من ارتفع بهم الطموح بقرار تعيينه مديرًا تنفيذيًا للمعرض، وأعتقد أنه على قدر هذا الطموح، ورغم أننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من المعرض، إلا أنه من المفروض أن يجرى الدكتور مجاهد جلسات استماع لأصحاب الشأن والمستفيدين من المعرض، يستمع منهم وينصت لهم، ويستجيب لما يريدونه، فهذه بداية الطريق الصحيح الذى لا بد أن نسلكه معًا.
جلسات الاستماع التى أشير إليها يجب أن يشارك فيها الناشرون من مختلف الاتجاهات والمستويات، فلا تقتصر على الناشرين الكبار، ولكن لا بد أن يكون هناك ممثلون لصغار الناشرين، فهؤلاء كل عام لديهم ما يقولونه، ويريدون فقط أن يستمع إليهم أحد، ولا أقول إنه سيكون من المنتظر أن تلبى لهم كل احتياجاتهم، فهذا ليس منطقًا ولا عقلًا، ولن يكون عمليًا بالطبع، لكن على الأقل نضع ما يطالبون به فى اعتبارنا.
إننا لا نريد أن يكون المعرض مجرد سوق لبيع الكتب، لكن لا يمكن أن ننكر أنه فى جانب كبير منه كذلك، فهناك ناشرون يعملون طوال العام من أجل المعرض فقط، وإذا فاتتهم فرصة تحقيق أرباح خلاله، يكون العام كله بالنسبة لهم عامًا بائسًا، وهو ما يجعلنا نضعهم فى اعتبارنا، ولا نغفل ما يطالبون به، فهم أصحاب مصلحة مباشرة.
وسيكون من المنطقى أن يشارك فى جلسات الاستماع مثقفون ومفكرون ومبدعون من مختلف الاتجاهات والمشارب السياسية والفكرية والثقافية، للاستماع إلى وجهة نظرهم فى البرنامج الثقافى فى المعرض، وهو العمود الفقرى لهذه الاحتفالية الثقافية القومية، فنحن نفتقد بالفعل لحالة الحوار الحقيقية فى المجتمع، وحالة الحوار هذه لن تتم إلا بجلوس المختلفين على مائدة واحدة، يقدم كل منهم ما يراه، ثم تكون لإدارة المعرض حرية الحركة فى تشكيل برنامج ثقافى مهم وملهم.
وليس بعيدًا أن يسهم فى هذه الجلسات عدد من القراء والمستهلكين للثقافة بوجه عام، وهؤلاء يمكن انتقاؤهم بسهولة، فلديهم ما يقولونه، فهم فى النهاية يتلقون الخدمة، ومن يتلقى الخدمة لا بد أن يكون له رأى فيه، فمن خلال الاستماع إليهم نعرف ما يحتاجونه وما يريدونه، ويمكن أن نوازن بقدر كبير بين ما يريدونه وما يحتاجونه.
إلى جانب هؤلاء لا بد أن تكون هناك جلسات يشارك فيها متخصصون فى الإدارة، فهؤلاء يمكن أن يكون لهم إسهام كبير فى أداء المعرض وتنظيمه، وإضفاء لمسة احترافية على الشكل النهائى الذى يجب أن يكون عليه بالصورة التى تليق بمعرض يحمل اسم مصر، ويعيد تقديمها إلى العالم كل عام.
ولن يكون بعيدًا إذا اقترحت أن تضم جلسات الاستماع مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين الذين لديهم اهتمامات بالشأن الثقافى، وهؤلاء كثيرون، فلديهم أيضًا ما يقولونه، وأعتقد أن وجودهم مهم أيضًا فى دعم المعرض.
هناك قناعة بأن معرض القاهرة الدولى للكتاب معرض قومى، تنظمه الدولة وتشرف عليه، وهو ما يجعل هناك حرجًا فى أن يكون هناك رعاة من القطاع الخاص ورجال الأعمال والمستثمرين الكبار، وأعتقد أننا يجب أن نتخلص من هذا الحرج، لأنه يحرم المعرض من دعم هائل يمكن أن يسهم فى تطويره، ثم إن وجود الرعاة لا يعنى أن تكون هناك وصاية من أى نوع على أعماله، وسيكون من المناسب أن تقوم إدارة المعرض الجديدة بإسناد تسويق المعرض إلى وكالة إعلانية محترفة.
هذا الإسناد سيكون من شأنه نقل المعرض نقلة هائلة فى التسويق والترويج له مصريًا وعربيًا، ثم إنه سيوفر له دخلًا كبيرًا، يمكن من خلاله تخفيف العبء على الناشرين، ويمكّن إدارة المعرض من تنفيذ أفكارها مهما كانت طموحة وحالمة، ولن نجد أنفسنا مضطرين إلى القبول بشركات ودور نشر تفرض شروطها من أجل دخل بعينه، لا من داخل مصر ولا من خارجها.
لا تعنى جلسات الاستماع هذه أن هناك رغبة فى تقييد إدارة المعرض الجديدة، فالغرض منها توسيع دائرة الرؤية، والخروج من إطار التقليدية إلى إطار من التنوع والتعدد فى التفكير والاقتراحات والأفكار، وهو ما نحتاج إليه، وأعتقد أن الدكتور أحمد مجاهد سيكون حريصًا على ذلك، ومبلغ علمى أن لديه أفكارًا محددة فى هذا السياق.
لا أحد يشكك فى قدرات ولا كفاءات أعضاء اللجنة العليا للمعرض- والتى أطالب بإعادة تشكيلها بالمناسبة- ولكنها ليست كافية لتلبية كل المنتظر من المعرض، فالعمل يتم بشكل تقليدى، ولا يمكن أن نحصل على عمل استثنائى له خصوصيته التى تلبى طموح من ينتظرون المعرض بعمل تقليدى دأب أصحابه على أن يؤدوه بشكل روتينى ووظيفى منذ سنوات.
وإذا قال أحد إن الوزير أعاد تشكيل اللجنة العليا للمعرض منذ أيام، وليس معقولًا أن يعيد تشكيلها من جديد، فإننى أرى أن تغيير تركيبة إدارة المعرض بتعيين مدير تنفيذى له يمكن أن يكون مناسبة معقولة لإعادة النظر فى إدارته كلها، وإذا تحجج أحد بأن الوقت أصبح ضيقًا أمامنا، وأننا يمكن أن نقوم بذلك العام المقبل، وعلينا ألا نضيع الوقت فى أمور فرعية، سأقول إن هذه ليست أمورًا فرعية، بل هى فى صلب ما نريده، وإن لم نبدأ الآن، فلن نبدأ أبدًا.
يروق للبعض أن يطلق على مهمة الدكتور أحمد مجاهد الجديدة فى معرض الكتاب أنها مهمة إنقاذ، وأميل أكثر إلى أنها مهمة بناء، أو لنقل بدقة إنها مهمة استكمال البناء.
لقد فقدنا بسبب سياسات، بعضها جزئى وبعضها عشوائى وبعضها وظيفى، كثيرًا من مظاهر قوة مصر الناعمة، وأعتقد أن معرض الكتاب هو الفعالية الأكثر تماسكًا حتى الآن، فهو ليس مجرد فعالية ثقافية، ولكنه مجمع فعاليات، ويمكننا من خلال أيامه أن نستعرض كل أشكال وألوان القوة الناعمة المصرية فى مكان واحد.
لقد اجتهد الآخرون- ومن حقهم أن يجتهدوا بالطبع- أن تكون لديهم معارضهم ومناسباتهم الثقافية، أنفقوا من أجل ذلك ما لا نقدر على إنفاقه، لكنهم لم يستطيعوا أن يسحبوا البساط من تحت أقدام المعرض الذى يعتبره المثقفون والعرب قبلتهم التى يتجهون إليها فى صلواتهم الثقافية والفكرية كل عام، وهو ما يجعل الحفاظ عليه مهمة وطنية، وليس كثيرًا إذا قلت إن معرض الكتاب أصبح مسألة أمن قومى.
لقد تفاءلت بوجود الدكتور مجاهد فى هذه الفترة المفصلية من عمر معرض الكتاب لمعرفتى به، فمن خلال لقاءاتنا ومحاوراتنا، وكان واحدًا ممن سجلت شهادتهم على أحداث العصر الكبرى التى ألمّت بنا منذ يناير ٢٠١١ وحتى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ فى برنامجى «الشاهد»، أدركت أنه ليس مثقفًا وظيفيًا، يقوم بعمله ولا شأن له بعد ذلك بما يدور بعيدًا عنه، ولكنه مثقف مؤسسى يعرف جيدًا أن الدور الذى يقوم به حلقة فى سلسلة كبيرة تكتمل بجهود كل من ينتمون إليها.
هذه السمة التى يتمتع بها الدكتور مجاهد تجعلنى أثق أننا أمام نقلة منتظرة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، لن أكون منشغلًا بتفاصيلها، ولا أريد مثل آخرين أن أحدد له ما يفعله، ولكننى أشير إلى إطار عام يمكنه أن يتحرك فيه، وهو إطار على الجميع أن يقوموا بدعمه، فأحمد مجاهد لا يمثل الآن نفسه، من يحبه يساعده ومن لا يتفق معه يضع فى طريقه العراقيل، فهو يقوم بمهمة ثقافية وطنية خاصة، يجب أن يقف الجميع إلى جواره وهو يتحرك فى طريقه إلى القيام بها.
فمن لا يملك شيئًا يدعمه به.. فعلى الأقل يدعو له بالتوفيق.. وهذا أضعف الإيمان.