الإثنين 06 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ومنين بييجى الرضا؟.. أشعار وأفكار سيد حجاب لتجديد العقل العربى

سيد حجاب
سيد حجاب

- تجربة الانضمام إلى جماعة الإخوان علمته أن الانتماء لا بد أن يكون للوطن وحده

-  لا يجب أن تكون الأديان سببًا من أسباب الفُرقة والنزاع والعداء بين البشر

- الإخوان مشروعهم الأساسى يصب فى استمرار الالتحاق بمعسكر الرجعية العالمية

- المطلوب هو تجديد العقل العربى حتى نستطيع تنقيته من بعض الكتابات الإسرائيلية المليئة بالأخطاء والتجاوزات

- كانت الأغانى الدرامية أداة سيد حجاب لمخاطبة الضمير ومرر من خلالها أفكاره ليس لتجديد الدين فقط

- يجب أن ندخل عالم الحداثة بالإسلام الذى يصلح لكل زمان ومكان وليس بالإسلام الرجعى

عندما كان الطفل سيد حجاب فى الحادية عشرة من عمره، انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين. 

لا يوجد ما يدعونا لأن نندهش من ذلك، فالجماعة كانت متوغلة كالسرطان فى جسد المجتمع المصرى، ولن يكون غريبًا أو عجيبًا عندما تقرأ أن الكاتب الفلانى أو المفكر العلانى أو المثقف الترتانى مر على الجماعة، فالعبرة عندى ببقائهم فيها، ثم وهذا هو الأهم لماذا تركوها وراء ظهورهم؟ 

الأسباب التى يرحل من أجلها من كانوا أعضاء فى الجماعة لوقت طال أو قصر تساعدنا فى التفسير والتحليل والتأكد من أننا على صواب فى رفض نهج ومنهج الجماعة التى ترى أنها ظل الله والمتحدثة باسمه على الأرض. 

يلخص حجاب شهادته على رحلته مع الجماعة فى لقاء موثق بالصوت والصورة، سجله بعد أحداث ثورة 30 يونيو، يقول: كانت فترة طفولية ساذجة، ولا يجب أن يندم الإنسان على أى فترة عاشها واستخلص منها الدروس. 

ويضيف: تركت الجماعة وعمرى أربعة عشر عامًا، كنت وقتها من أشبال الدعاة، وقررت الرحيل فى لحظة كنت مكلفًا بتوزيع منشورات ضد اتفاقية الجلاء التى تمت فى العام 1954، قرأت المنشور، وكان كل جيلنا قد تربى على فكرة الاستقلال التام أو الموت الزؤام، والجلاء.. الجلاء، فاكتشفت أنهم يعارضون هذه الاتفاقية، وسألت نفسى: كيف تعارض الجماعة الاتفاقية التى يحلم بها كل الشعب المصرى، فتركت المنشورات للإخوان الذين كانوا معى، وأخبرتهم أننى لست معهم بعد اليوم. 

يستكمل حجاب قصته مع الإخوان. 

يقول: انقطعت علاقتى بالجماعة نهائيًا وإلى الأبد، قابلت بعضهم فى الوقفات الاحتجاجية التى كانت تنظمها حركة كفاية والتى كانت تضم كل الفصائل الوطنية، وكنا نعتبر الإخوان حتى هذا الوقت فصيلًا وطنيًا، إلى أن كان منهم ما كان. 

رواية سيد حجاب عن علاقته بجماعة الإخوان صادقة لكنها ليست دقيقة. 

فى أحد حواراته الصحفية والمنشور فى ١٥ أغسطس ٢٠١٠ روى حجاب قصته مع الجماعة. 

قال: أخى الأكبر هو من جعلنى أنضم للإخوان المسلمين، كنت أقدم مع المؤذن التسليمات قبل الأذان مثل «الصلاة والسلام عليك يا بحرًا جاريًا فى علوم الله»، وكنت أحضر الاجتماعات ومأثورات «الإمام الشهيد» وحديث الثلاثاء فى الشعبة، وبعضنا كان يختار ليقول كلمة الدعاة الصغار، وكنت أنا المختار فى معظم الأحيان لألقى قصيدة شعرية، وكان لهذه الفترة تأثير على تكوينى الشعرى بالطبع، فقد كنت أكتب باللغة الفصحى، وحتى والدى نفسه أقنعنى بتعلم علم العروض من باب «الله يفتح عليك يا شيخ سيد»، وكان هناك عدد من الأنشطة الأهلية المحدودة جدًا، ولكن كان هناك بعض مراكز للتجمعات من بينها شعبة الإخوان المسلمين، والتى كانت تضم نشاطى المكتبة والدعاة وغيرهما، وبهذا انضممت للإخوان، ثم بعد فترة انضممت لحزب مصر الفتاة بلعبة ابتزازية طفولية. 

يطلعنا حجاب على هذه اللعبة الطفولية، فقد كان فى الثانية عشرة من عمره، وكان الجميع معبأ بمشاعر وأحلام وطنية، وفى البيوت لم تكن القضية الوطنية تنام، خاصة مع انفجار الكفاح المسلح فى بورسعيد والقنال، وكان كل من الإخوان وحزب مصر الفتاة ينظم معسكرًا لتدريب الفدائيين، فاتجه لمعسكر الإخوان، وقال لهم: أريد أن أنضم للكفاح المسلح، وأن حزب مصر الفتاة عرض علىّ أن انضم لمعسكره، وإن لم يقبلوا انضمامى إليهم، فسوف أنضم لمصر الفتاة. 

رد عليه مسئول الأسرة التى ينتمى إليها، قال له: الكفاح أولى أن يكون من خلال الإخوان، ووافق على انضمامه للمعسكر، وخلال ٤٠ يومًا تدرب سيد على قواعد النيشان والمصارعة اليابانية، وكان يعيش حياة شبه عسكرية فى إحدى جزر بحيرة المنزلة، وانتهى المعسكر برحلة على الأقدام لمقر شعبة الإخوان المسلمين ببورسعيد. 

يحكى سيد هنا رواية مختلفة عن تركه لجماعة الإخوان. 

يقول: بعد فترة من انتهاء المعسكر بدأت أزور مقر حزب مصر الفتاة لقراءة مزيد من الكتب غير تلك التى انتهيت منها لسيد قطب والخولى وغيرهما، وفى هذه الفترة كان أحمد حسين رئيس مصر الفتاة نجمًا ساطعًا إعلاميًا، ولم أنس مقولته «رعاياك يا مولاى»، فكان اتجاهى لمصر الفتاة بناء على الشغف للقراءة والفضول لمعرفة المزيد وهو ما لم أتمكن منه وسط الإخوان المسلمين.

عدم الدقة فى روايات سيد حجاب عن انضمامه للإخوان وانفصاله عنها، سببها بالنسبة لى تضارب التواريخ، فهو من مواليد ٢٤ سبتمبر ١٩٤٠، بما يعنى أنه عندما كان فى الثانية عشرة من عمره كنا وصلنا للعام ١٩٥٢، ووقتها كان حسن البنا مؤسس الجماعة قد اغتيل، فكيف يحضر سيد جلسات مأثوراته وحديث الثلاثاء الذى كان يلقيه على أعضاء جماعته؟ 

إذا تركنا تدقيق التواريخ جانبًا، فإننا لا يمكن أن ننكر على سيد حجاب تجربته، وما خرج به منها. 

فى حوار العام ٢٠١٠ لم يذكر حجاب شيئًا عن قصة توزيع منشورات معارضة اتفاقية الجلاء الإخوانية، لكنه أشار إلى وداع تجاربه السياسية الصبيانية. 

يقول: بعد أن وصلت سن الرابعة عشرة، وفى مرحلة الثانوية العامة انقطعت هذه التواصلات الصبيانية مع الحركة السياسية، ولكنها تركت بداخلى حلم تحرر اشتراكى إسلامى غير واضح المعالم يتضمن مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية، كان الإخوان ومصر الفتاة يعدان سببًا فى تغذية كليهما، وبعد أيام من الثانوية العامة أعلن سعيد رمضان عن تأسيس منظمة الشباب فانضممت لها وحصلت على دورة تدريبية وتدربت على بندقية «الليهام فيلد» الشهيرة، ثم أعلنوا عن الحرس الوطنى الذى أسسته حكومة الثورة وتلقيت دورة تدريبية فى الحرس الوطنى.

هذه الرؤية المبكرة للجماعة، والتى تؤكد أنها ليست جماعة وطنية بالمرة، جعلت سيد حجاب يقظًا فى التعامل معهم، وعندما تحدث فى سبتمبر من العام ٢٠١٣ وبعد أقل من شهرين على إزاحة الإخوان من الحكم، قال: كل فكر الفاشية الاستبدادية يتم تحت اسم الدين، والدين منهم براء، ويستوى فى هذا الإخوان وحلفاؤهم، وقد تمت هزيمة فكرهم وأثبتوا تخلفهم عن الحياة وعن أحلام الشعب المصرى. 

ويلتفت حجاب باهتمام إلى الفخ الذى كان منصوبًا فى الدستور الإخوانى - دستور ٢٠١٢ - لخلط الدين بالسياسة، يقول: هذا الدستور كان سيحول مصر من بلد إسلامى إلى بلد سنى تمهيدًا لانخراطنا فى الصراع المرجو بالنسبة للاستعماريين بين السنة والشيعة، وأظن أن الشعب المصرى سيسقط كل محاولات إيقاعنا فى الخطأ مرة أخرى، ومن المطلوب حل جماعة الإخوان ومحاكمة المتورطين فيها، فهذه الجماعة ثبت أنها إرهابية، واستخدمت السلاح ضد المجتمع المصرى، أرفض المصالحة مع قيادتها المجرمة، فهم الذين يرفضون تحية العلم والوقوف للسلام الوطنى المصرى، لأنهم ضد الوطنية. 

وعندما دخل سيد حجاب إلى لجنة الخمسين التى كلفت بوضع دستور جديد بعد ثورة ٣٠ يونيو، كان حريصًا على أن تنجو مصر من هذا الفخ. 

قال وقتها إن أهم المواد التى سيهتم بها فى الدستور هى عدم خلط الدين بالسياسة، فهذا الخلط أساء للدين والسياسة والشعب معًا، فالهوية لا بد أن تكون قائمة على المواطنة والديانة. 

تركت تجربة الإخوان المنقوصة فى حياة سيد حجاب أثرًا بالغًا، علمته أن الانتماء لا بد أن يكون للوطن وحده، أصبح على قناعة أن الدين ملك الإنسان ولا يمكن لأحد أن يتدخل فيه. 

فى القاهرة وفى العام ١٩٥٩ تحديدًا وكان عمر سيد وقتها قد أصبح تسعة عشر عامًا، انضم إلى أحد الفصائل اليسارية التى يصفها بأنها كانت «يسار اليسار»، لكنه قبل أن ينخرط فى أعمالها قال لمن جنّده: سأدخل هذا التنظيم بشرط ألا يناقشنى أحد فى مسألة تدينى، ولا أريد أن أناقش أحدًا فى تدينه، إنها مسألة شخصية ولا تخص أى شخص غيرى. 

قال له نصًا: أنا مؤمن ومتدين. 

فأجابه من جنّده: ستقابل عددًا من الملحدين.. لا تناقشهم فى إلحادهم ولن يناقشوك فى إيمانك. 

وهو ما جرى بالفعل. 

المفاجأة أن سيد حجاب عندما دخل التنظيم اليسارى وجد أن التنظيمات اليسارية - طبقًا لما قاله - قائمة على فكر ليست له علاقة سلبية بالدين، ولا يتعارض مع الديانات السماوية. 

ويؤكد حجاب: خلال حياتى عرفت عددًا كبيرًا من الشيوعيين شديدى التدين، ومنهم من كان زعيم العمال واسمه محمد عبدالغفار من شبرا الخيمة، وقضى فى السجون والمعتقلات أكثر من ١٦ سنة، وكان شديد التدين. 

كان هذا المعنى واضحًا لدى سيد فى قصيدته «بحب البحر» التى يقول فيها: 

بحب البحر لما يزوم.. وبعشق صرخته فى الريح

وأحس فى موجه شوق مكتوم.. لناس حرة وحياة بصحيح

وأحبه لما يتهادى.. وأدوب لما يوشوشنى

ويفرش موجه سجادة.. فى أحلامى تعيشنى

مالوش أول مالوش آخر.. قراره طاوى أسراره

ودايمًا فى الهوا مسافر.. ولا نهاية لمشواره

بحب البحر وأعشق صرخته وأنه

وأحب الناس ماهم فيهم حاجات منه

وأحبك ياللى أحلامى فى هواكى زهزهوا وغنوا

يا بلدى ياللى وأنا فيكى عيونى إليكى بيحنوا

بحب الورد فوق السور.. وباعشق ضحكته الفانية

وأحس فى ريحته شوق مسحور لناس حرة وحياة تانية

وأحبه بين إيدين عشاق.. رسالة مهفهفة بأشواق

وحتى وهو بين أوراق كتاب العشق ذكرى فراق

حياته فى الهوا ليلتين.. وعمره ماكان بعمره خليل

يرش هواه على الماشيين.. ويتقاسموا مع الجايين

بحب الورد وأحب البحر وأحب الناس

وأحب نعيشها أحرار مرفوعين الراس

ولا تفرقنا لا الألوان ولا الأديان ولا الأجناس

وأدوب فى أذان يرفرف تحضنه أجراس

تعالوا نقيم لبكرة الجاى يا ناس.. قداس

يضع سيد حجاب ببساطة أساسًا لفلسفته، فالإنسان عنده هو الإنسان، لا ينظر للونه ولا لجنسه ولا لدينه، بل لا يجب أن تكون الأديان سببًا من أسباب الفُرقة والنزاع والعداء بين البشر، وهى فكرة لها أصول فى دراسات واجتهادات ممتدة عبر التاريخ، نادى أصحابها بوحدة الأديان، فالله واحد والدين واحد مهما اختلفت الشرائع أو الرسالات. 

ولأن قلب سيد فى مصر لا يغادرها، فهو يؤكد أن هذا هو الأساس الذى قامت عليه مصر، فهى تحتضن الدين بمعناه الواسع، تقوم شخصيتها الأصيلة الباقية على الدمج ما بين الدين والفكر والفن. 

اسمعه وهو يغنى فى نهاية تتر «بوابة الحلوانى»: 

وادى وبوادى وبحور وقصور وموانى

توحيد وفكر وصلاة.. تراتيل

غُنا وابتهالات

وكل ده فى مصر يا ولاد

مصر يا ولاد حلوة الحلوات. 

بهذه الروح امتلك سيد حجاب وعيًا مصريًا خالصًا فى مواجهته لجماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسى التى تخلط السياسة بالدين، وهو ما يظهر لنا بوضوح فى حواراته التى أدلى بها فترة حكم الإخوان، ومن أهمها حوار نُشر فى ديسمبر ٢٠١٢، فى عز قوة وجبروت حكم الجماعة. 

تعامل حجاب مع تيار الإسلام السياسى على أنه جزء من المؤامرة على الشعب المصرى، وهى المؤامرة التى شاركت فيها أطراف وقوى داخلية وخارجية، لكنه كان على يقين أن الشعب المصرى قادر على هزيمة نظام الإخوان. 

توالت الأسئلة والإجابات على نحو يعكس وضوح الرؤية لدى سيد حجاب، وتمكنه من كشف حقيقة هذه الجماعات، وكان هذا جزءًا من الحوار: 

المحاور: هل تتوقع تصاعد حدة الصدام بشكل أقوى؟ 

حجاب: الإخوان يسعون فى اتجاه رفع درجة الصدام وجعله أكثر عنفًا، وبدا ذلك واضحًا فى موقعة «الاتحادية» وقبلها فى «جمعة تصحيح المسار»، بالإضافة إلى أن كثيرًا من شباب الثورة الذين وجدوا أنهم لم يصلوا بعد لحق الشهداء يفكرون فى اتخاذ مسارات أخرى من أجل تحقيق هدفهم، ولهذا فأنا أدعو كل عقلاء الأمة للتصدى لمحاولات تحريك الأحداث فى اتجاه الصدام العنيف، وأدعو شباب الأمة الذين هم وقود الثورة وقادتها الحقيقيون إلى أن يحرصوا على شعارات الثورة الأساسية التى أنجحتها فى أيامها الأولى وهى «السلمية» و«إيد واحدة» و«الوحدة الوطنية»، فبهذا وحده سنتمكن من هزيمة أساليب هذه الميليشيات حتى لو اضطررنا لتقديم شهداء، لكننا فى النهاية سنعلن إفلاس هذه الاتجاهات فكريًا وأخلاقيًا وشرعيًا.

المحاور: هل كنت تتوقع ارتكاب الإخوان كل تلك الأخطاء المتلاحقة فى هذه الفترة القليلة؟ 

حجاب: أظن أن جزءًا كبيرًا من بشارة النصر للشعب المصرى هو غباء وحماقة الخصم وتصوراته الوهمية للمجتمع وللواقع، وبالتالى ارتكاب حماقات متتالية تنذر باقتراب الهزيمة له، فالإخوان ليس لديهم مشروع مجتمعى حقيقى، وإنما مشروعهم الأساسى يصب فى استمرار الالتحاق بمعسكر الرجعية العالمية المتمثل فى الراعى الإقليمى «الصهيوهابى»، ومن خلال التطمينات العديدة التى خرجت منهم لإسرائيل وللولايات المتحدة رغم تصريحاتهم العنترية فى الماضى عن اتفاقية السلام ورفضها، وهو ما «لحسوه»، وهم «يلحسون» أقدام المستعمر الأمريكى والراعى الإقليمى فى المنطقة. 

المحاور: ما رأيك فى فضائيات الدعاة الجدد التى تناصر الإخوان والنظام القائم؟

حجاب: لا علاقة لتلك المحطات بالدين ولا الدعوة الإسلامية، فهى محطات للانحطاط الفكرى والأخلاقى المُعادى حتى لشرف الإسلام وسماحته وحريته وعدله، وهى تسىء للإسلام أكثر مما تدعو إليه، لقول الرسول «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، و«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وقرآننا يأمرنا بأن نجادلهم بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالبذاءة والانحطاط الفكرى. 

المحاور: وكيف تفسر اتباع الكثيرين لمشايخ هذه القنوات؟ 

حجاب: هذه طبيعة التنظيمات السرية منذ أن نشأت فى قديم الزمان، فهى لا تعتمد على العقل بقدر الاعتماد على السمع والطاعة اللذين هما ضد طبيعة الإسلام الذى يحث على إعمال العقل. 

ولذلك كان طبيعيًا بعد أن انقض الشعب المصرى على الإخوان، ونجح فى إزاحتهم، أن يشيعهم سيد حجاب شعرًا، وكم كان صادقًا عندما قال: 

ولا بعد حرق الزرع جيرة

ولا بعد قتل الولد خيرة

أقزام قصاد مصر الكبيرة

ضيعتوا فرصتكوا الأخيرة

خلاص بقى فضوها سيرة

وبهذه الروح أيضًا يمكننا أن نعثر فى أفكار وأشعار سيد حجاب على ما يمكننا اعتباره روحًا تجديدية ليس للفكر الدينى فقط، ولكن للعقل العربى كله. 

كان سيد حجاب يتحدث فى ندوة عقدها المجلس الأعلى للثقافة بصالون الجبرتى فى ٨ يناير ٢٠١٥، وكان عنوانها «رؤية لمستقبل مصر». 

أمسك حجاب بالعُقدة التى نعانى منها فى تخلفنا الحضارى وتراجعنا الفكرى وتردينا الدينى. 

عاب على المؤسسات الدينية الدور الذى لعبته، ووصفه بأنه كان تدميريًا ورجعيًا فى تجهيل المجتمع المصرى، منذ دعا شيوخ هذه المؤسسات إلى خلافة السلطان فؤاد بعد إلغاء الخلافة الإسلامية فى العام ١٩٢٤، ثم وضعهم التاج الملكى على رأس الملك فاروق، ولولا تصدى النحاس باشا الذى كان وقتها رئيسًا للوزراء لهم، لأسسوا بذلك سلطة كهنوتية. 

حجاب وضع المؤسسات الدينية فى مصر هدفًا واضحًا له. 

قال: كان شيوخ هذه المؤسسات باستثناء بعضهم بالطبع، يرسخون للجهل ويرفضون الحداثة، حتى أصبح عشًا للغلو، لأنهم وقفوا بما يدرسونه من كتب ومواد حائلًا دون الدخول إلى عصر الحداثة. 

قفز سيد حجاب إلى قلب القضية التى كانت تنبض بالحياة فى هذه الفترة وهى قضية تجديد الخطاب الدينى. 

قال: ما نحتاجه الآن ليس تجديد الخطاب الدينى كما يطرح دائمًا، لكن المطلوب هو تجديد العقل العربى، حتى نستطيع تنقيته من بعض الكتابات الإسرائيلية المليئة بالأخطاء والتجاوزات والخرافات التى دمرت صورة الإسلام فى نفوس المصريين، وهنا علينا إعادة الوجه المشرق للإسلام بالعقل السليم، وعندما نجدد العقل، سنجد أنفسنا مباشرة أمام تجديد الخطاب الدينى، وسيكون على مفكرينا فى هذه اللحظة أن يعيدوا النظر فى كل الموروث لتنقيته مما يدنسه. 

لا يطلق حجاب رؤيته فى تجديد الخطاب الدينى بشكل عشوائى، ولكنه يضع لها أساسًا واضحًا وهو العلم، وحتى يدلل على ذلك فإنه يعود إلى التاريخ، حيث بدأت فى مصر معركة التنوير. 

يقول: مصر فى معركة مهمة جدًا منذ زمن طويل، تحديدًا منذ العام ١٥٠٠ حيث دخلت الثقافات القديمة دائرة الفرز والتصنيف، وحاولت التعرف على مفردات الوجود حولها، وعندما جاء عام ١٨٠٠ بدأ الفكر الأوروبى يطرح فكرة العلة والسببية، ومن خلال طرحهم هذا أعملوا العقل فى المعارف القديمة، حتى مشارف الثورة الفرنسية، وتغير العالم نتيجة الكشوف الجغرافية، وتغيرت مفاهيم كثيرة، وبدأ الاهتمام بالعوالم التجريبية، حتى اكتشفوا أن الإنسان حر، وأن هذا الإنسان الحر أدرك أن منطق العلم هو الذى يجب أن يسود العالم، وليس شيئًا آخر. 

وعلى عكس ما حدث فى الغرب، فإن الحضارة العربية - كما يرى حجاب - لم تفعل ذلك، فعندما تحدث ابن رشد عن السببية فى الأندلس، تصدى له أبوحامد الغزالى، وغضب منه المحافظون التقليديون، وأبطلوا عمل السببية، وتمسكوا بالتفكير من خلال قواعد العقل القديم. 

وفيما يشبه السيناريو المُحكم يرسم لنا سيد حجاب مشهدًا تاريخيًا معبرًا عما جرى فى مسار تعطيل العقل العربى. 

فقد طلب بعض تجار البنادق مقابلة السلطان قنصوة الغورى، ليعرضوا عليه سلاح البارود، مدحوه وعددوا له استخداماته، وقدرته على التصدى لأى غازٍ أو محتل، وأن العالم من حولنا أصبح يستخدم هذا السلاح، لكن السلطان الغورى قلل من أهمية ما يقولون، وقال لهم وهو يصرفهم من مجلسه: أعتقد أننا لسنا فى حاجة إلى هذا السلاح. 

بعد ستة أشهر فقط من هذه الواقعة دخل سليم الأول مصر منتصرًا على جناح البارود الذى لم تكن تعرفه مصر، ورفض الغورى شراءه اعتمادًا على ما يعرفه ورفضًا لما يجهله. 

يحلل سيد حجاب هذا المشهد بقوله: ما فعله السلطان الغورى يعبر عن مقابلة العقل القديم وعقل الحداثة، حيث رفض الحاكم المصرى التطور حتى هُزم. 

وبحسم ورؤية وبصيرة يعود سيد حجاب إلى ما يريد أن يقوله عن الإسلام، وأعتقد أن فى كلامه مفتاحًا مهمًا لمسألة التجديد، يقول: يجب أن ندخل عالم الحداثة بالإسلام الذى يصلح لكل زمان ومكان، وليس بالإسلام الرجعى الذى يروج له بعض الجهلاء. 

لم تكن هذه الفكرة جديدة أو طارئة على سيد حجاب، طرق بابها قبل ذلك فى حوار مطول نشرته جريدة الكرامة فى ١ سبتمبر ٢٠٠٨، وهنا يمكننا أن نسمعه مجددًا وهو يتحدث عن الحداثة. 

يقول حجاب: الحداثة فى العالم كله بدأت عندما أخرجت العالم القديم من ثقافته القديمة التى كانت تنبنى على المنطق الأرسطى، حينما كان الإنسان يصنع حكوماته على أساس أن هناك ظلًا لله على الأرض، وهو الإقطاعى أو الإمبراطور، هذه الثقافات القديمة كلها كانت تدور فى إطار محاكاة الطبيعة وتعتمد على التشبيه فى الأساس، أما فنون الأزمنة الحديثة فاعتمدت لنفسها منطقًا مختلفًا هو المنطق العلمى والسببى الذى أسهم فى نهضة العلوم التجريبية، والذى وصل بنا بعد ذلك إلى صُنع دول على أساس إنسانى. 

ويمسك سيد بالتجربة المصرية، يقول: عندنا فى الشرق وفى مصر بالتحديد حاولنا الدخول فى هذا العصر الحديث من الفنون منذ عهد محمد على ورفاعة رافع الطهطاوى، لكن محاولات النهضويين والتنويريين لم تصل بعد إلى نهايتها، ولم تصل بعد حتى الآن إلى إنضاج ثقافة وطنية تندمج فيها الثقافة الشعبية بثقافة العصر الحديث، لم نصل بعد إلى تأسيس دولتنا الحديثة، وبالتالى أى وهم لخلق فنون حداثة فى واقع غير حداثى تجعل من هذه الفنون فنونًا نخبوية لا تصب فى ثقافة الأمة ولا تشكل وجدانها، وهو شىء تعيس جدًا ومحزن جدًا. 

كان حجاب شاعرًا عرف طرقات الشعر ودروبه، ورغم أهمية ما كتبه من قصائد، إلا أن الأغنيات التى كتبها، وزين بها المؤلفون والمخرجون مسلسلاتهم الدرامية تظل هى الأكثر حضورًا وتأثيرًا فى الوجدان المصرى والعربى. 

بدأت الرحلة مبكرًا، لكن المحطة الأساسية كانت عندما كتب أغنيات مسلسل «الأيام» الذى يوثق حياة عميد الأدب العربى درامًيا. 

فى العام ١٩٧٩ تواصل المخرج الكبير يحيى العلمى مع سيد حجاب، طلب منه أن يقرأ السيناريو الذى كتبته أمينة الصاوى وأنور محمد ويوسف جوهر لمسلسل «الأيام» الذى يحكى قصة عميد الأدب العربى طه حسين. 

قال العلمى لحجاب: نريد رد الجميل للأستاذ طه حسين الذى تعلمنا على يديه، ونحول حياته إلى ملحمة شعبية. 

يروى حجاب ما جرى: كان السيناريو مكتوب وحش جدًا، فقد قامت عليه أمينة الصاوى فى البداية، ثم عدّل عليه أنور أحمد، وحينما لم يقدم ما كان ينتظره المنتجون عدله يوسف جوهر، ولكنه قدم لهم على قد فلوسهم، وعندما اطلعت على السيناريو اعتذرت ليحيى العلمى عن عدم كتابة أغانى المسلسل، فطلب منى تعديله، فقمت بذلك، وكتبته من جديد، ألغيت خمس حلقات كاملة وأضفت خمس حلقات أخرى، لأن فى حياة طه حسين مشاهد أساسية غير مذكورة بالمرة فى سياق السيناريو، بينما هناك مشاهد مثل مشهد الدراسة فى الأزهر، ليس مهمًا على الإطلاق ولا يضيف إلى الدراما، كان شيئًا ممطوطًا للغاية فألغيته، وأضفت مشاهد مهمة مثل المشهد الذى تركه أهله فيه بالقطار، وقمت بتعديلات ليصبح العمل ملحميًا يليق بقصة طه حسين بعد الرجوع إلى الرواية الأصلية. 

بنعومة شديدة، يكثف سيد حجاب رحلة طه حسين مع التنوير وإعلاء قيمة العقل، فى مشهد رغم قسوته إلا أنه كان كاشفًا. 

الطفل الصغير طه حسين يستعد للامتحان أمام لجنة من شيوخ الأزهر الكبار، يدخل فى صحبة أحد رفاقه، يستقبله أحد شيوخ اللجنة بتجهم وبصوت خشن يقول له: ادخل يا أعمى.

لا يجيب طه حسين، ولكن يتولى سيد حجاب الإجابة شعرًا، فيضع على لسان طه الصغير: 

أنا مش أعمى يا هو

يا خلق يا عميانين

ده أنا قلبى ما فى أخوه 

لكن زمانى ضنين

أنا لا عاجز ضرير 

ولا كل من شاف بصير

والله يا عمى القلوب 

لأخط بإيدى المصير 

وكأنه يصف بدقة ما جرى من طه حسين فى مسيرته الفكرية، فهو ليس صاحب بصر، لكنه يمتلك البصيرة، فى مواجهة أصحاب البصر الذين يفتقدون البصيرة. 

كانت الأغانى الدرامية أداة سيد حجاب لمخاطبة الضمير، مرر من خلالها أفكاره ليس لتجديد الدين فقط، ولكن لتجديد الحياة كلها، وتراه ببساطة يحسم قضايا وجودية، احترنا جميعًا فى حلها. 

لقد سمعناه يغنى فى ليالى الحلمية. 

ومنين بييجى الشجن

من اختلاف الزمن

ومنين بييجى الهوى

من ائتلاف الهوى

ومنين بييجى السواد

من الطمع والعناد

ومنين بييجى الرضا

من الإيمان بالقضا

دع عنك الثنائيات الأولى، وتوقف معه عند الثنائية الأخيرة. 

فهو يسأل: منين بييجى الرضا؟

ويجيب: من الإيمان بالقضا. 

إنه بفلسفة عميقة وحكمة مُصفاة، يحسم القضية التى لا يدرك حقيقتها علماء الدين، فهم لا يفهمون سر كل هذا الغضب والتذمر الذى يبديه الناس، يظلون يرددون كلامًا إنشائيًا عشوائيًا عن أصول وقواعد الإيمان، لكن حجاب ينهى القضية بإجابة بسيطة، فالإيمان بالقضاء والتسليم له، هو سر الرضا الذى يبحث عنه الناس جميعًا، باعتباره مفتاح السعادة الكاملة فى الحياة. 

وبنفس الرقة والنعومة والهدوء يحسم قضية الصراع الأبدى بين البشر، اسمعه وهو يقول فى تتر «الشهد والدموع»:

تحت نفس الشمس

فوق نفس التراب

كلنا بنجرى ورا نفس السراب

كلنا من أم واحدة أب واحد دم واحد

بس حاسين باغتراب

لقد حار الفلاسفة والمفكرون والمثقفون والكُتّاب على اختلاف العصور فى تفسير أسباب الصراع بين البشر، لكنه هنا يضع حلًا سهلًا، فعندما يقتنع البشر أنهم من أب واحد ومن أم واحدة، ودمهم واحد، لن يجدوا أسبابًا لا للخلاف ولا للشقاق. 

إنه يكشف دون معاناة سبب الشقاء الذى يعيش فيه الناس، فهم يجرون وراء سراب ويشعرون باغتراب، لأنهم لا يعرفون حقيقتهم، ولا حقيقة حياتهم. 

وهو ما يتضح بشكل أوضح وأكثر شفافية عندما يضعنا وجهًا لوجه أمام أنفسنا بكلماته التى كتبها لمسلسل «المال والبنون»، يقول حجاب:

إيه معنى دنيتنا وغاية حياتنا

إذا بعنا فطرتنا الجميلة الرقيقة؟

وإزاى نبص لروحنا جوه مرايتنا

إذا كنا عايشين هربانين من الحقيقة؟

هذه هى القضية إذن، فنحن نعيش كل هذا الشقاء، لأننا نعيش هاربين من حقيقة دنيتنا وغاية حياتنا. 

ولأنه يعرف الحقيقة، وعاش متسقًا مع نفسه حتى النهاية، فهو يكتب وصيته شعرًا كاشفًا عن قيمة الإنسان، يقول: 

ولما أموت

لو مت ع السرير ابقوا احرقوا الجسد

ونطوروا رمادى ع البيوت

وشوية لبيوت البلد

وشوية ترموهم على تانيس

وشوية حطوهم فى إيد ولد

ولد أكون بسته .. ولا أعرفوش

ولو أموت..

قتيل - وأنا من فتحة الهويس بافوت -

ابقوا اعملوا من الدما حنة

وحنوا بيها كفوف عريس

وهلال على مدنة

ونقرشوا بدمى

على حيطان بيت نوبى تحت النيل اسمى

أما التجديد المكتمل والسعى إلى الحداثة فى قمة معانيها، فقد فعلها سيد حجاب فى رائعته أرابيسك: 

الشر شرق وغرب داخل فى حوشنا

حوشوه لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا

حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا

وتغشنا المرايات تشوش وشوشنا

وتهيل تراب ع الهالة والهيلمان

الغش طرطش رش ع الوش بوية

ما درتش مين بلياتشو أو مين رزين

شاب الزمان وشقيت.. مش شكل أبويا

شاهت وشوشنا تُهنا بين شين وزين

ولسه ياما وياما حنشوف كمان

العبقرية فيما فعله سيد حجاب هنا أنه لخص كل الجدل الذى سيطر على ثقافتنا منذ نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حديث متصل عن الأصالة والمعاصرة، عن القديم والحديث، عن التقليد والتحديث، إنه لا يحسم القضية، ولكنه يصفها بدقة، ويحرضنا على التفكير، بحثا عن مخرج من المأزق الكبير. 

حذرنا سيد حجاب: حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا، لكننا لم نلتفت، ولذلك تظل أغنيته جديدة ومتجددة. 

ويختم سيد حجاب رحلته بهدم منظومة التدين الشكلى: 

ما احبش القديسة

ولا اللى ما يعرف خلاف سجادة الصلا

براءة الملايكة ف أرض شايكة .. شىء يشل

وما احبش الخسية

ولا الفلاتى الزانى حتى ويا أحجار الفلا

خساسة النجاسة والنخاسة والسياسة وقلة الحساسة

شىء يذل

وأحب ما عليا

الشجره أم شوك وضل

فى كل مرة أقرأ سيد حجاب أكتشف شيئًا جديدًا. 

وأكتشف أكثر أننا فى حاجة إلى قراءته من جديد.